الفصل الأول - القرآن العظيم

الفصل الأول القرآن العظيم

يخبرنا القرآن أنّ البشرية على مر العصور نالت حظها من الرسل والأنبياء، فليس من المعقول أن ينال مجتمع ما نصيباً من الإرشاد والتوجيه بينما مجتمعات أخرى فقيرة وجاهلة. بنص القرآن جاء أنّ هناك رسلاً قصهم ربنا ورسلاً لم يقصصهم:

(وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا)(سورة النساء :آية 164).

إذا كان الرسل كذلك فليس لدينا شك أنّ أعداد الأنبياء كانت كبيرة، وتوزعت على المجتمعات البشرية، وأما المذكور منهم في القرآن فيبدو لنا أنهم أصحاب التحولات العظيمة في تاريخ البشرية، كما جاء في الجزء الثالث من  سلسلة كتب تلك الأسباب.

إنّ من الصعوبة بمكان تتبع ظهور الرسل والأنبياء في كافة المجتمعات البشرية، ولكنْ ما لا يخفى على أحد أن جميع المجتمعات كان فيها مصلحون، فهل كان هؤلاء رسلاً أو أنبياء؟ هذا ما لا يمكن إثباته بشكل عملي.

 مفهوم الرسول -لا شك- أوسع وأشمل من مفهوم النبي، فكل من  يحمل رسالة هو في الحقيقة رسول، بل إن الله يرسل برسائلَ قد تكون خاصة أو عامة، وقد يكون حاملُ الرسالة ليس من البشر، والرسائل التي يرسلها رب العالمين وظيفتها الأساسية هي هداية البشرية وتقديم عون المعرفة لهم.  

الغراب الذي بحث في الأرض واستنتج ابن آدم من خلال هذا المشهد عملية الدفن هو في الحقيقة رسول  بلّغ الرسالة، واستلم ابن آدم الرسالة وتعلم الدفن.

مفهوم الرسل أعم وأشمل بكثير مما نعتقد، وكل المصلحين هم في الحقيقة يحملون رسالات، وسوف تبقى الرسل إلى يوم الدين، وليس شرطاً حتى أن يعرف الرسول أنه رسول، وهذا ليس قولي، وإنما هو قول الله سبحانه في سورة يونس:

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ  فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (سورة يونس: آية 47).

حديثنا هنا ليس تتبعاً للرسل الذين لم يقصهم الله علينا، فهذا ليس لنا؛ وإنما سوف نقف كثيراً أمام الرسول الذي بين أيدينا والمكتنز بالرسالات.  سوف يظل هذا الرسول هكذا ينتظر من يتدبررسالاته ويحملها ويبلغها للناس.

إذا كانت الرسل البشرية جاءت للناس وأخبرتهم أن الله اختارهم لتبليغ رسالة مححدة، فإنّ القرآن يقول للناس أنه يحمل رسالات لهم ليل نهار، وسيظل هكذا يفيض بالرسالات، إنه إعلان إلهي عن انتهاء عصر الوساطة بين الإنسان وربه وبداية عصر الرسول الذاتي الذي يختبئ داخل عقل كل إنسان وقلبه.

عندما وصلت البشرية لدرجة من النضج المعرفي أصبحت مهيئة نوعاً ما لتحمل المسؤولية بشكل أكبر، لذلك تم الإعلان عن نهاية عصر النبوة و بداية عصر العقل. أنزل الله القرآن  تطوراً طبيعياً للتدخل الإلهي، الرامي لاستقامة البشرية وتصحيح مسارها.

اقصد تحديداً مسمى القرآن وليس مسمى الكتاب، فهو المعنيّ بذلك لأنه يحمل خصائص وصفات تجعله رسولاً للبشرية ومتجدداً باستمرار. طبيعته وتكوينه جعلته في متناول التدبر والتفكر حيث تستطيع العقول استنباط مفاهيم جديدة من خلال تدبر كلماته وتعبيراته. هذا التفكر المستمر والقراءة المتأنية يمكّن الإنسانية من  ضبط إيقاع تصرفاتها، ويمنحها فرصة ثمينة لاكتشاف الكون وسبر أغوار النفس والسباحة نحو الحقيقة بمعدل ثابت ومستمر. 

لك أن تتخيل أن العالم الغربي وجد كتاباً مكتوباً باللغة الإنجليزية، ولكن لاحظ الغربيون أنّ هناك بعض الاختلافات في ألفاظ هذا الكتاب، وهناك ادعاء أنه قادم من كائنات فضائية أكثر علماً ودرايةً وإحاطةً بالأشياء، تخيل ماذا سيكون رد فعل الغربيين؟ 

سوف تنصب عليه المعامل والمختبرات، ويُسخَّر لهذا الكتاب طاقات عملاقة لفهم كل حرف فيه، حتى إذا أدركوا من خلاله حقيقة واحدة غائبة عنهم زادوا في بحثهم، وتولوا تعبيراته بمزيد من التدقيق والدراسة.  

نحن في زمن العلم والمناهج البحثية، ومع ذلك فإنّ أعظم كتاب -وليس قادماً من كائنات فضائية بل  من خالق الكون- تركه الناس دون عناية تليق بقدر هذا القرآن من وجهة نظري. لقد تعامل الناس مع القرآن وإلى اليوم بطريقة لم ترتقِ بعد إلى عظمة هذا الكتاب، فلا نجد طرحاً للأسئلة، ولا بحثَ ما يبدو متعارضاً، وإنما كان التبرير هو سيد الموقف.

قد تكون هذه الطريقة مقبولةً نوعاً ما قبل ظهور المناهج العلمية والأساليب البحثية، ولكن أن يظل التعامل هكذا مع كتاب الله  فهو ما لا يمكن استيعابه. 

الصراعات القائمة منذ نزول القرآن بين فريقين؛ أحدهما يغلِّب النَّقل على العقل، والأخر يغلِّب العقل على النقل، كان يمكن أن تنتهي هذه الصراعات تماماً إذا أدرك الناس الفرق بين المدلول والمعنى، وأدركوا أنَّ ألفاظ القرآن الكريم لها خاصية فريدة تعتمد بشكل أساسي على المعنى.

الطريقة التي تم فهم اللفظ القرآني بها منذ فجر التاريخ كانت طريقة قائمة بالأساس على مدلول الكلمات لدى البشر بغض النظر عن اصل الكلمة وهل طالها تحريف ام لا. من هنا تم تفسير القرآن اعتماداً على هذه الطريقة، مما عطّل الخاصية الرئيسة للقرآن؛ وهي قابليته للقراءة. ما استطاع المفسر القديم فهمه لم يكن نتيجة منهج علمي؛ بل كان أقرب للصدفة منه للمنهج، وهو جزء لا يمثل شيئاً يذكر من المعلومات المختفية خلف ألفاظ القرآن الكريم لو تم اعتماد المعنى والحالة التس تمثلها الكلمة بدلا من المدلول لدى البشر بصورة سطحية.

الصراع القائم بين العقل والنقل منذ فجر التاريخ مر بمراحل مختلفة؛ من أهمها خلق القرآن، حتى وصلنا إلى الفرق بين القرآن والكتاب وهو الإمتداد الطبيعي لهذه القضية.

سوف نمر سريعاً على هذه المراحل التاريخية ونبيّن فلسفتها، ومن ثم نستطيع إدراك وجود الخلل بشكل علمي دون تحيز، وندرك لماذا ندور في هذا الفلك دون أي أمل بالخروج منه.

خلق القرآن

انقسمت الأمة بين تيارين رئيسَين، وما زال هذان التياران في صراع:

التيار الأول هو التيار الأصولي، والذي يرى تغليب النص على العقل، وهو التيار الذي قاد الأمة حتى يومنا هذا، وأنتج كل هذا الكم من التناقضات؛ لأنه ببساطة أوقف  التاريخ والعصر ولم يستجب للأمر الإلهي بالقراءة.

رغم ظاهر عبارة (تغليب النص على العقل) على أنها تمسّك بالنص الإلهي، إلا أنها تحوي مغالطة قاتلة؛ فالنص الإلهي لا يُفهم إلا من خلال العقل، ولذلك فهم الجيل الأول النص بعقولهم وإلا ما قبلوه. لو أنّ عبارة تغليب النص على العقل صحيحة فهذا يعني تغليب النص الإلهي على كل ما عاداه، ولكن للأسف فإنّ العبارة توقفت عند الجيل الأول، فكان يجب أن   يسميها الباحثون (تغليب فهم الجيل الأول على كل ما عاداه) وهذه هي الطامة الكبرى.

التيار الثاني هو التيار العقلي، وكان يرى تغليب العقل على النص، وللأسف بدأ هذا المنهج فلسفياً أكثر منه عملياً؛ بسبب طبيعة العصر وافتقار البشرية جميعها لما يسمى (المنهج العلمي في البحث).

 عدم القدرة على فهم لفظ القرآن ذاته، أو الخلط بين المدلول والمعنى العميق للفظ هو السبب المباشر في هذا الصراع. تيار أصحاب العقل وإن كان قد بدأ فلسفياً إلا أنه كان مؤشراً صحياً مائة بالمئة على سير البشرية في الطريق الصحيح.

من وجهة نظري، لو أنّ هذا المنهج استمر بالزخم المطلوب لم يكن ليمضي على البشرية قرنان أو ثلاثة إلا وكانت قد أسست مناهج علمية للبحث، وفهم النص القرآني، واستخراج كنوز من القرآن لا مثيل لها. 

لكن للأسف ما حدث هو العكس بالضبط، فقد تم اضطهاد أرباب هذه المناهج، ولم يُسمح إلا للأصوليين بالظهور من قِبل الدولة.

السؤال هنا: لماذا سمحت الدولة في أغلب فتراتها للأصوليين ولم تسمح للفكر الآخر بالانتشار، ووصفت الفكر الآخر بالفكر المنحرف؟

قبل الرسالة ونزول القرآن لم يكن هناك دولة في هذه المنطقة، وعند نزول القرآن وانتشار الدين تكونت الدولة، فنحن هنا أمام نموذج فريد؛ وهو نموذج دين أنشأ دولة. لكي تستمر الدولة لابد أن تحافظ على الدين  بشكله التقليدي الذي كان سبباً في نشأتها؛ لذلك كان تغليب فكر الأصوليين وحمايته من قبل الدولة سياسةً رائجةً جداً، وكذلك كان اضطهادُ الفكر العقلاني والذي قد يُحدث انشقاقاً بين صفوفها بسبب طبيعة أفكاره الثورية نوعاً من تثبيت أركان الدولة.

تمثل هذا الفكر في الجبرية التي سادت مطلع الدولة الأموية، والتي كانت تقوم على أن ما يتم على الأرض إنما هو بإرادة الله؛ لأن الإنسان مسيّر لا مخيّر، ولو أراد الله غير ما هو كائن لفعل. تلك المبادئ هي تكريس حقيقي للقبول بما هو كائن وتعطيل العقل، وقد كان لهم ذلك فترة من الزمن.  

عندما جاءت الدولة العباسية انفتحت بشكل كبير على الفكر العقلاني، فحدثت موجة ازدهار لا مثيل لها على مستوى الفكر والفلسفة، ومن ثم بزغ الصراع بين الفريقين من جديد ووصل أوجَه متمثلًا في أزمة خلق القرآن.

بدأ هذا الصراع في عهد المأمون والذي كان على ارتباط بالفكر المعتزلي، وقد كان هذا الانفتاح  حالة خاصة بشخص المأمون. يبدو أن المأمون كان في طريقه لتأمين سيطرته على الدولة، وأدرك منذ الوهلة الأولى أنه لن تكون سيطرته كاملة  إلا من خلال تنحية المؤسسة الدينية التي تعاظم دورها  وأخذت في التمدد. 

وجد المأمون الفرصة سانحة أمامه بتبني الفكر المعتزلي القائل بخلق القرآن، ولم يكن المعتزلة هم أول من قال بفكرة خلق القرآن، بل إن المذهب الشيعي قبل المعتزلة كان لديه فكرة شبيهة، وكذلك الجهمية نسبة إلى معبد الجهني كانوا يعتنقون هذا الفكر. 

في عهد الواثق خشيت الدولة العباسية الفتنة؛ بسبب طبيعة القضية الدينية واكتساب أحمد بن حنبل تعاطفاً كبيراً، فخفف الواثق من قبضته، ثم جاء المتوكل بعده لتنتهي هذه القضية تماماً، والتي كان من الممكن أن تقضي على الدولة العباسية.  ها نحن نرى أن محاولة تغليب العقل قد فشلت فشلاً ذريعاً؛ بسبب طبيعية المجتمعات، وتهديد هذه القضية للنظام السياسي ونظام الدولة من الأساس.

لقد كان التيار المعتزلي منقسماً إلى فريقين: الفريق الأول قريب من السلطة، وساهم بشكل كبير فيما يعتقده إصلاحاً سياسياً حتى ولو أجبر الناس. أمّا الفريق الثاني فهو قائم بالأساس على رفض الظلم، ورفض إضفاء الشرعية على النظام الفاسد، ولا يؤيد إجبار الناس، حتى إن المأمون ذاته اضطهد جزءاً منهم.

قال المعتزلة أنّ القرآن مخلوق ليس أزلياً، معتمدين على قول الله (ليس كمثله شيء) بينما قال أحمد بن حنبل -وهو أشهر من جاء ذكره في هذه القضية- أن القرآن كلام الله، ولم يتطرق إلى خلق القرآن أو عدم خلقه. وأضاف ابن حنبل: (إنّ من قال بخلق القرآن فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع).

فكرة خلق القرآن هي فكرة فلسفية شديدة التعقيد، وطرحها بهذا الشكل وحمل الناس عليها ظلم كبير. 

خلاصة قضية خلق القرآن والتي تخفى على الكثيرين من الباحثين والمفكرين هي أنها قضية الصراع بين التجديد وبين الأصولية. 

التجديد الذي حمل رايته أول من حمل هم المعتزلة، أما الأصولية فهي طبيعة متأصلة في المجتمعات البسيطة، وتدعمها الجموع رغبةً في الاستقرار، وخوفاً من الأفكار الجديدة.

 العداء الشديد للأفكار الجديدة، ودس الروايات على رسول التي تتنبأ بظهور فرق في المستقبل، رغم أن الرسول لا يعلم الغيب وليس حكما على الزمن، يخبرنا أنّ أرباب الفكر الأصولي لم يتورعوا عن محاربة التطور المعرفي الذي جاء به القرآن، و استماتوا في بقاء الوضع على ما هو عليه؛ اعتقاداً أن هذا هو الدين الحق.  

 ربما يكون هؤلاء القوم مخلصين فيما ذهبوا إليه، و هدفهم كان الحفاظ على الدين في نطاق تصوراتهم. وقد تكون ألفاظ مثل: مخلوق وغير مخلوق ألفاظاً غير موفقة في استخدامها لوصف هذه القضية؛ مما سبب خلطاً واضحاً في المفاهيم، وجعل كل فريق يصر على منهجه بشكل عنيف.

القول بخلق القرآن أو عدم خلق القرآن هي قضية مستمرة، ونعيشها كل يوم حتى وإنْ زعم المفكرون أنّ هذه القضية انتهت وأصبحت تاريخاً لا يجب الخوض فيه. إننا نعيش هذه القضية ولكن بعد تهذيب طريقة عرضها واختيار الكلمات المناسبة لها، وهي: هل القرآن قابل للتجديد باستمرار، أم أنه كيان جامد لا يمكن فهمه إلا من خلال الفهم الأول؟

لا شك أن لفظ القرآن نفسه قادر على إجابة هذا السؤال دون مزيد من الأدلة، فلفظ (القرآن) و جذره (قرأ) مع الألف والنون يدلان على الاستمرار، ومثال ذلك لفظ (الرحمن) وجذره (رحم) وإضافة الألف والنون أفادت الاستمرار، وهذا حال جميع الكلمات التي تنتهي بالألف والنون في المصحف وليست مثنى، وتحتوي ألفاً ونوناً زائدة على أصل الكلمة، فنجد أن الألف والنون فيها يفيدان الاستمرار. لذا لفظ القرآن يعني حالة من القراءة المستمرة، أو القابل للقراءة المستمرة، وهذا يشير إلى أن التفاعل مع القرآن متجدد باستمرار.

بالبحث في التاريخ سنجد أن صدى المعركة بين الأصوليين وبين العقلانيين دارت رحاها بين أبي حامد الغزالي (صاحب كتاب الإحياء) وبين الوليد بن رشد (الفيلسوف ابن رشد) وكان مجمل المعركة هو دعوة  أبي حامد الغزالي إلى ترجيح  النص، بينما رد عليه ابن رشد في كتابه (تهافت التهافت) بضرورة إعلاء العقل على النص.

 فلسفة ابن رشد هي الفلسفة التي قادت أوروبا للتخلص من عبء الكنيسة، والتحرر من سلطة الكهنوت، والانطلاق نحو العلم. بينما فكر أبي حامد الغزالي تبلور اليوم في العبارة الشهيرة: (النقل فوق العقل، بل الاعتقاد بضلال العقل)، التي يَدين بها الأصوليين بشكل متجذر.

حلقة أخرى من حلقات الصراع تبلورت من خلال التفريق بين القرآن والكتاب من قبل المعاصرين، وعلى رأسهم د. محمد شحرور، هذا التفريق لا يمكن فصله عن الصراع الدائم منذ الأزل، ولا عن قضية خلق القرآن، ولا عن الصراع بين الغزالي وابن رشد، إنها سلسلة متصلة تزداد وضوحاً عن طريق البحث العميق في أسبابها ونتائجها.

هذا الفرق الواضح بين القرآن والكتاب هو ما يلخِّص الفرق بين النقل والعقل، وهو الصراع بين الأصوليين والمجددين، أو قل هو الصراع بين أهل الكتاب وبين قارئ القرآن. 

منبع اعتقاد الأصوليين هو الاعتقاد بأن رسول الله محمد صلوات ربي عليه حَكَمٌ على البشرية، بدلاً من كونه رسول رب العالمين؛ لذا تجد كماً هائلاً من الأحداث المستقبلية يخبر عنها رسول الله بصيغة الأحداث الواقعة والتي لا مفر منها، هذه الصيغ رغم تعارضها مع القرآن بشكل واضح جعلت من الرسول شريكاً لرب العالمين، وليس حلقة وصل من حلقات تطور وتقدم البشرية، مثله مثل إخوانه من الأنبياء والمرسلين صلوات ربي عليهم أجمعين في كل الحقب والأزمنة.

هذه الصورة الذهنية عن رسول رب العالمين كرّست التصور بالجبرية، وبِكون الإنسان مفعولاً به تجري عليه الأحداث المحددة سلفاً.  هذا لعمري يخالف منهج كتاب الله وآيات الله، ومن يقول بذلك يتحمل وزر ما يقول. لو أنصف هؤلاء القائلون بمثل هذه الأقوال وأدركوا المنهج القرآني لعلموا أنهم يقولون قولاً عظيماً، وأنهم يسيئون لمقام الرسول صلوات ربي عليه، وهو بريء من هذه التصورات التي جعلت منه نصف إله. 

  تدبر هذه الآية الكريمة في سورة آل عمران كفيل برد الوضع إلى نصابه، وعدم تنصيب رسول الله حَكَماً على أمور غيبية لا يعلم عنها شيئاً إلا ما أخبره به ربه عنه في كتابه: 

  (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ  أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ  وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا  وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (سورة آل عمران: آية 144). 

عندما نزلت هذه الآية الكريمة لا شك أن رسول الله محمد صلوات ربي عليه كان مازال حياً

السؤال هنا: ألم يكن الله سبحانه وتعالى يعلم مصير رسوله من كونه سوف يموت أو يقتل؟  لماذا أعطى احتمالين، وما سوف يحدث هو احتمال واحد؟

ببساطة لأنه المنهج الرباني الذي يرشدنا إليه ربنا، الإنسان والبشرية تخلق أفعالها، لا قطع بمصير أحد قبل أن ينجز دوره في هذه الحياة حتى لو كان رسولًا أو نبيًا. هذا في أمر الدنيا فما بالكم بأمر الأخرة. 

كل الأخبار الواردة في كتاب الله تخبر عن أمور قضى أصحابها وانتهت حياتهم الدنيا التي هي محل تحصيلهم واختبارهم.  أما الأخبار التي وردت في كتاب الله وتخبر عن المستقبل فهي تخبر عن أمور عامة، وليس فيها تحديد شخصيات أو أماكن بعينها. ليس هناك جزم في كتاب الله بمصير إنسان في الدنيا، فضلاً عن الآخرة إلا بعد انقضاء فترته في هذه الدنيا، أما قبل ذلك فلا.

لو استشهد أحدهم بسورة المسد والوارد فيها ذكر  أبي لهب، الذي قيل أنه عم النبي صلوات ربي عليه لقلنا أنّ هذا  هو المثال الوحيد، وعليه كثير من علامات الاستفهام، ولابد أن يُدرس بشكل جيد؛ لأن القطع الذي جاء فيه  بمصير شخص مخالف لمنهج القرآن. إذا كان لفظ أبو لهب هو كنية عبد العزة عم النبي، وبحسب المصادر التاريخية يعني جميل الوجه، لأن وجهه كان مشوباً بالاحمرار، أو حسن الوجه، فهل من العقل أن يقول الله: تبت يدا جميل الطلعة مثلاً، أو تبت يدا حسن الوجه؟ 

بحسب المنهج الذي نسير عليه، نعلم أن توصيفات القرآن توصيفات حقيقة وليست ظاهرية فعندما يقول القرآن تبت يدا أبي لهب فهذا معناه أن لفظ لهب وصف حقيقي لحالة الموصوف وليس كنية.  هذا المثال فيه كثير من الإشكاليات، ولكن ليس هنا محلها، وربما نعود إليها في موضع آخر. 

لو نظرنا إلى الآية الكريمة التي لم يخبر فيها ربنا بمصير "محمد" صلوات ربي عليه، وهو أمر هين، ثم تطرقنا إلى الروايات المنسوبة للرسول والتي فصلت أحداثا عظيمة، وقطعت بمصير أشخاص ما زالوا يعملون في الدنيا؛ لعلمنا كمَّ التقول والافتراء على الله ورسوله، فالله يعلمهم في كتابه ويأبى الناس أن يعقلوا، ولمَ لا وكلام الله لديهم هو آخر المراجع وآخر ما يلتفت إليه.

أعلم أنّ هناك روايات لا حصر لها منسوبة لرسول الله تتحدث عن أحداث مستقبلية لأشخاص بعينهم، فإن أحسنا الظن بهذه الروايات وأن الرسول قالها بالفعل فهي لا تعدو كونها من باب التنبؤ القائم على معارفه البشرية، وليست إلزاماً أو اخباراً بأحداث واقعة لا محالة. نقول ذلك ببساطة لأن الإخبار عن المستقبل بشكل قاطع ليس من المنهج الرباني كما بينّا في أكثر من موضع. 

عندما يقول أحد الحكماء أو المفكرين أن الامة الفلانية أو المجتمع أو الدولة سوف تسقط في غضون مدة زمنية محددة فلا يمكن الاعتقاد أنّ الحدث واقع لا محالة، إنما قال ما قال اعتماداً على بشريته، فعندما يخبر الأستاذ تلميذه أنّ بانتظاره مستقبلاً باهراً وأنه سوف يصبح مثلاً طبيباً ممتازاً، فهذا لا يعد قطعاً بالأحداث أو إلزاماً للأقدار؛  وإنما من باب من يرى بلحاظ الأمر ما هو واقع . 

المشكلة لا تكمن في النبي الذي تكلم بناء على بشريته، أو المفكر الذي أخبر بناء على تجربته، أو المدرس الذي رأى برأيه؛ وإنما المشكلة تكمن في تلك العقول البسيطة المتواضعة التي لا تدرك هذه الفروق، وتفتقر إلى طريقة قويمة لتحكيم كتاب الله فيما يذهبون، والذي ينفي نفياً قاطعاً عِلم ما هو كائن، وعلم الغيب بشكل قاطع لأحد كائن من كان.

ماذا يفعل الرسول لهؤلاء إن خالفوا أمر الله، ولم يمتلكوا أي قدرة على  تدبر أمر الله، ويسيرون في جماعات معصوبة الأعين.

لا شك لدينا أن النبي والرسول يملك حكمة ورؤية ثاقبة، وعدم تحيز في فهم الأشياء، وهذا يجعله أكثر حكمة في فهم الأمور والتحدث عنها  والتنبؤ بها.  لكن تبقى تنبؤات غير لازمة الوقوع، طالما جاءت خارج النص الإلهي. لو اعتقد أحد أنها تنبؤٌ لازم الوقوع فقد خالف المنهج الرباني الذي أرشد إليه ربنا،  وقال ما ليس له به  علم وافترى قولا عظيماً. 

قليلاً من التفكير والتريث حتى لا يُساء إلى رسولنا الكريم، ونقول على الله ما لا نعلم، والذين اتخذوا الأنبياء آلهة أو نصف آلهة لن تشفع لهم الأنبياء؛ بل سوف تتبرأ منهم الأنبياء والرسل.   

لقد تعدى بعض الأصوليين حتى دورَ النبي، وجعلوا من المعاصرين له حكاماً على أزمنة لا يدرون عنها شيئاً؛ مما شكل عقبة كؤود في طريقة تفكيرهم وطريقة فهمهم لكلام الله. 

سوف يستمر الصراع هكذا بين التجديد والأصولية؛ بسبب التفاوت الشديد في المجتمعات، وفي طبيعة التعلم، واختلاف الثقافات.

 أحد أهم صور هذا الصراع تجلت في التفريق بين الكتاب والقرآن، والتي أنتجت فريقين؛ أحدهما لا يرى أي فرق، والآخر يرى فرقاً شديد الوضوح. فهل حقًا هناك فرق بين الكتاب والقرآن ؟ 

الفرق بين القرآن والكتاب  

الفرق بين القرآن والكتاب والذي أشار إليه الدكتور شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن) وشهد موجة معارضة شديدة جداً، حتى من بعض  أنصار الفكر التجديدي، هو تجسيد للصراع الدائر بين العقل والنقل، وأخذ القضية إلى بعد عميق جدًا، بل أزعم أنه وصل إلى أسباب الصراع الرئيسة.

اعتمد الدكتور شحرور في التفريق بين القرآن والكتاب على عدم وجود الترادف، ثم استنتج أن جذر كلمة (قرآن) هو (قرن)، وعلى ذلك قال أن الكتاب هو كل الآيات، وأن القرآن جزء من الكتاب، ومعنى ذلك أن هناك آيات في الكتاب لا تعتبر آيات قرآن.

واجه هذا الطرح انتقادات عديدة، وكان من أهم الأدلة التي ساقها المعارضون رافضين وجود فروق بين  القرآن والكتاب آيات واضحة في كتاب الله تنص على أن القرآن والكتاب شيء واحد:

(الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ)(سورة الحجر: آية 1). 

(طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ)(سورة النمل: آية 1).

كذلك آيتان في سورة الأحقاف تذكران أن الجن قالوا عن القرآن في موضعٍ قرآن، وقالوا عنه أيضاً كتاب.

(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا  فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30)) (سورة الأحقاف: آيات 29-30).

فما هو القرآن، وما الفرق بينه وبين الكتاب إن وجد فرق؟ 

بالنظر إلى لفظ (قرآن) وأصله (قرأ) وإضافة الألف والنون الدالة على الاستمرار، بينما لفظ (كتاب) وأصله (كتب) و يعني ضم أشياء بعضها إلى بعض لتصف موضوعاً معيناً، سندرك أن خصائص وصفات كل مسمى مختلفة تمامًا عن المسمى الآخر. 

نعم هناك فرق بين القرآن والكتاب، ولكن  في الوقت نفسه ليس ذلك معناه أن بعضاً من آيات الكتاب ليست آيات قرآن، إذ لا يمكن تجاوز آيات في كتاب الله تشير إلى أن الكتاب والقرآن هما الشيء نفسه . 

الفرق بين القرآن وبين الكتاب هو فرق في التلقي؛ أي كيف يتلقى الإنسان الآية الكريمة وماذا تعني له؟

بمعنىً أكثر وضوحاً، إذا تلقى الإنسان الآية بالقراءة والتي تعني البحث والتدبر والتحليل فهي بالنسبة له آية قرآن، ويصبح هو قارئاً للقرآن، أما إذا تلقاها بالإيمان دون بحثها فهو إذن تلقاها كآية كتاب، ويصبح من الذين يتلون الكتاب.

حتى تتضح الصورة أكثر فأكثر دعونا نعطي مثالاً للتعامل مع آية كريمة؛ لنبين من خلالها مفهوم القرآن والكتاب.

آية تحريم لحم الخنزير 

(قُل لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(سورة الأنعام: آية 45).

هذه آية في كتاب الله وهي كذلك آية من القرآن العظيم، فأما الإنسان الذي يمتثل الأمر دون بحث وتدبر، أو أن قدراته لا تسمح له بالبحث والتدبر فيتبع عموم الآية، فهو في الحقيقة يؤمن ويتعامل مع الآية على أنها آية من كتاب الله، وغالباً فهو يؤمن بالكتاب بشكل تلقائيّ ويمتنع عن أكل لحم الخنزير، دون محاولة فهم  العلة أو طرح الأسئلة على الآية الكريمة.

على الجانب الآخر هناك من يبحث ويتدبر، ويحاول فك رموز كل حرف وكل كلمة في الآية، وفي هذه الحالة تصبح الآية للباحث المتدبر آية قرآن.

من هنا نجد أن الآية الواحدة انطبق عليها القول بأنها آية كتاب وآية من القرآن؛ بحسب تلقي الإنسان لهذه الآية. التفريق والقول بأن هناك آيات لا ينطبق عليها القول بأنها آيات قرآن هو قول جانبه الصواب.  قد تظل الآية آية كتاب بالنسبة للناس فترة طويلة من الزمن، بسبب صعوبة تدبرها أو نقص المعرفة؛ ولكن ما إن يتم تدبرها أو محاولة لتدبرها حتى  تصبح آية قرآن بالنسبة للمتدبر.

قد يكون ما أشكل على الباحث وجعله يقول أن هناك آيات من الكتاب ليست آيات قرآن هو الاعتقاد بأنها لا تحتاج للتدبر أو القراءة، وأنها واضحة لا لبس فيها ولا تأويل، مثل آيات الوحدانية، أو بعض من القصص القرآني والأمور الصريحة.

هذا الاعتقاد هو اعتقاد أيضاً جانبه الصواب لأن التجربة أثبتت أن التعمق والبحث الدؤوب خلف كل كلمة يعطي نتائج جديدة، ومعلومات متجددة باستمرار، مما يجعل كل آيات الكتاب آيات قرآن. 

عندما وصف ربنا الكتاب بأنه هدى للمتقين، والقرآن هدى للناس، فذلك وصف غاية في الإعجاز؛ فالمتقون هم الذين يحاولون اتقاء كل ما يمكن اتقاءه، ولذلك يميلون لاتباع الكتاب بشكل -إن جاز لنا التعبير- اعتيادي، ولا يحبذون التفكير النقدي. 

بينما القرآن هدى للناس؛ لأن الناس بصفة عامة يميلون للتفكير النقدي، وبحث الأشياء وفهم علاتها، والتوجيه الإلهي لم يعب هؤلاء ولا هؤلاء، بل جاءت الآيات بكل هدوء بأن الكتاب هدى للمتقين، و القرآن هدى للناس.

أين تكمن المشكلة؟ 

المشكلة تبدأ في الظهور عندما يسود فكر الوصاية، فيعتقد كل فريق أنه صاحب الطريق الحق، متناسياً الفروق المتفاوتة بين الناس.؛ فما يستطيع إنسان ما  بحثه وطرح الأسئلة عليه يعتبره البعض كفراً وزندقةً، وكذلك إلتزام النص  بشكل حرفيً قد يعده البعض عين الجمود والضلال، بينما يراه المؤمنون بالكتاب هو عين الإيمان والتسليم.

 البشرية بصفة عامة تميل مع التقدم الزمني إلى التطور العقلي والفكر النقدي؛ لذلك ليس جيداً على الإطلاق دفع الناس دفعاً لأن يكونوا جميعاً باحثين مخضرمين، في حين أنّ قدراتهم لا تسمح لهم بذلك. 

توبيخ الناس على عدم تدبرهم ودفعهم للشعور بالجهل سوف يؤدي إلى فوضى معرفية  كبيرة.

سوف نجد المتثاقفين يحاولون بكل قوة أن يطرحوا أفكاراً عشوائية، ويختطفون أفكاراً من هنا وهناك، دون أي دراية أو علم، سوى رغبة في إبداء ثقافة وعلم لا يمتلكونهما؛ مما يؤدي في النهاية إلى كمٍّ من السخافات والهرف، فتضيع وسطها الحقائق. 

هذه الفوضى سوف تتسبب في مزيد من التشويش على الناس، لذلك كان فهم الفروقات الفردية ووضعها في نصابها، وعدم الإنكار على أصحابها و دفعهم للشعور بالنقص، هو أحد أهم درجات  التطور المعرفي للبشرية، وسبباً رئيساً في وجود التناغم بين أفرادها. من امتلك قدرة عقلية تؤهله للغوص والعمق المعرفي فهو الأجدر على فهم هذه الفروق؛ لذلك من وجهة نظري عبء تخفيف نغمة التجهيل والتضليل بين الناس بعضهم لبعض  تقع بالأساس على هذا الفريق، فريق البحث والتدبر الحقيقي. 

لا شك أن وجود فريق يؤمن بالكتاب ولا يستطيع قراءة الآيات بشكل علمي هو أمر واقع في كل زمان. مشكلة هذا الفريق أن لديه قناعات تم تغذيتها على مدار سنوات طويلة، وجموع تدعم وجهة نظره. بعض هؤلاء يعتبر أن بحث الآيات بشكل مستمر هو نوع من أنواع رد الدين والطعن في الشرع. يكثر انتشار هؤلاء في المجتمعات المنغلقة والبيئات الثقافية الضحلة، التي يسهل التأثير عليها باستخدام العاطفة والأسلوب الخطابي. 

للأسف الشديد هذا النوع من الناس لا يعنيه المنطق بقدر ما يستمتع ويقتنع بالأسلوب الإنشائي، لذلك يأتي دور التلطف وفهم الفروق كعامل حاسم في توعية هؤلاء وتعليمهم.

عملية تعليم هؤلاء تحتاج لوقت طويل، حتى وإن لم يستقبلوا، فلا ضرر منهم،  ومخاطبتهم  بشكل ودي واللين لهم هو الحل الأمثل، الذي يعطي الفرصة لبعضهم لمراجعة أفكارهم، وكذلك يعطي الفرصة للأجيال القادمة لتكون أقل انقساماً، وأكثر انفتاحاً على المعرفة، وأكثر إقبالاً على التعلم.

 مجرد فهم الفرق بين لفظي الكتاب والقرآن مكننا من قبول الآخر المختلف عنا فكرياً، وتفهم الفروق بين الناس، والتعامل بشيء من المرونة، ويعذر بعضنا بعضاً بسبب هذه الفروق.

نأتي الآن إلى الآيتين في سورة الأحقاف والتي استمع فيهما الجن إلى القرآن، ثم قالوا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى، الآيتان تعطياننا تأكيداً على أن القرآن لا يختلف عن الكتاب بحسب التعامل مع الآية:

(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا  فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30)) (سورة الأحقاف: آيات 29-30).

لكي نستطيع التعامل مع هاتين الآيتين لابد من فهم سياق الآيات، ولماذا جاء في الآية الأولى لفظ (القرآن) وفي الآية الثانية لفظ (الكتاب)، مع أن الحديث منصب على نفس الشيء. 

عندما كان الجن يستمعون إلى الآيات كانوا يستمعون إلى القرآن، فالآيات كانت تحتاج لقراءة مستمرة وتدبر وليست آيات عادية، وهذا يعني أن الأصل هو القرآن وليس الكتاب، ولكن عندما بلّغوا قومهم فقالوا: (إنا سمعنا كتاباً)، ولم يقولوا قرآناً؛ لأن القرآن لكي يكون قرآناً يلزمه القراءة والتدبر والتحليل، وهم لم يفعلوا ذلك؛ هم آمنوا بالمجمل بأن هذا الكلام  يشبه الكلام الذي أنزله الله على موسى، أو أن كلاهما من نفس المصدر؛ لذلك كان قولهم: (إنا سمعنا كتاباً) ليوافق تصديقهم وإيمانهم، وليس قرآناً لأنهم لم يتطرقوا بعد لقراءته، وقراءته بمعنى بحثه وتدبره.

ما الذي دعا الجن للإيمان بالكتاب رغم أنهم لم يختبروه بالبحث والتدبر؟

الجن كان لديهم مقياس هو كتاب موسى، ولذلك استطاعوا عقلياً قياس هذا الكتاب على كتاب موسى، فآمنوا بمجمل الكتاب، وقد سبق الإيمان بالكتاب عملية عقلية؛ وهي عملية قياس كتاب على كتاب، وليس إيماناً مطلقاً.

الإنسان الذي لم يعاصر كتاب موسى وليس لديه علم بكتب سابقة أو خبرات سابقة ليس لديه سبيل إلى الإيمان بالكتاب إلا من خلال إيمان عقلي ببعض من الكتاب، ثم الإيمان الغيبي بباقي الكتاب؛ أي أن الإنسان لابد له من التعامل مع آيات المصحف على الأقل آية واحدة على أنها آية قرآن، حتى يصبح إيمانه بالكتاب إيماناً صحيحاً .

لا شك أن عملية القرآن تسبق الكتاب؛ لأنه لا إيمان بدون تعقل. هذا المبدأ مخالف تماماً لما يقول به الأصوليون، فقد جعل الأصوليون النقل فوق العقل، وهذه مغالطة منطقية، إذ كيف يستطيع الإنسان قبول النقل بدون العقل. 

الصورة السليمة التي أرشد إليها كتاب الله هي العقل أولاً؛ على نحو نقرأ ونحلل ونتدبر آيات القرآن، فيكون بذلك العقل حاكماً على النقل، فإذا استطاع العقل برهنة جزء من النقل، قَبِل ما لم يستطع برهنته عن طريق الإيمان، إنها سنة الله في خلقه التي لا تقبل الإيمان إلا بعد قبول حد أدنى من  المفاهيم عن طريق العقل.

النقل فوق العقل على أنه منهج عام هو منهج أجهزة التسجيل، لا يثمر حياة وينتج نسخاً مكررة لا فائدة منها، والعقل فوق النقل بصفة عامة يؤدي إلى الضلال بل ورفض الدين من الأساس، وترافق القرآن والكتاب يخبرنا أنه لا غنىً عن أحدهما بالآخر.

 دورة الإيمان لدى الإنسان تبدأ بقبول العقل لبعض الأساسيات، ثم يبدأ في الإيمان بالغيبيات، ثم ينطلق يفتش ويحاول فهم ما خفي عنه وهو يحمل هذا الإيمان في قلبه.

إنها الحقيقة التي يغفل عنها الإنسان الباحث عن الحقيقة؛ وهي قلب مطمئن بالإيمان، وعقل يشك ليزداد علماً ويقيناً.

 دعونا نتعرض لبعض الآيات الكريمة لنزداد فهماً لبُعد الكتاب والقرآن، كما جاء في كتاب الله:

الآية الأولى 

 (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ  وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(سورة العنكبوت : آية 46).

التوجيه الرباني في الآية الكريمة  يشير إلى عدم الجدال مع أهل الكتاب، وإن كان لابد فهو الجدال الحسن دون تجاوز أو تضليل.

لماذا هذا الإرشاد؟ 

لأن أهل الكتاب  بالمجمل يغلّبون النقل على العقل؛ فلا فائدة كبيرة من الجدال معهم، لذا تجنبهم والإحسان إليهم هو السبيل الأمثل .  

الإرشاد القرآني يراعي الفروق بين الناس، فما تعتقده سهلاً وواضحاً قد يكون طلاسم بالنسبة للآخرين، فلا داعي لتكفير بعضنا البعض وتجهيل بعضنا البعض، وليكن نقاشاً مرناً، فإن بدا أن هناك قصوراً في أمر ما فيكفي أن نقول كما أمر ربنا: آمنا بالذي أنزل إلينا وما أنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.

قد يعترض أحدهم ويقول أن الآية نزلت في أهل الكتاب المعروفين لنا جميعاً، فكيف تسقطها على من يؤمنون بالكتاب الذي هو القرآن؟

الحقيقة أن مفهوم أهل الكتاب متعلق بالكتاب وليس بطائفة معينة فكل من يؤمن بمجموعة تعليمات دون قراءتها وبحثها فهو مؤمن بالكتاب. مفهوم الكتاب مفهوم شامل فكل محتوى من معارف معينة هو كتاب وأهل الكتاب في المطلق هم أهل المعارف.  لذلك نستطيع وبكل سهولة فهم مفهوم أهل الكتاب وهم كل الذين يضمون المعارف بعضها إلى بعض. لنا في هذا المفهوم تفصيل في كتاب آخر ولكن هنا يكفينا أن نشير إلى أن هناك فرق كبير بين العلماء وبين من ينعتهم الناس بالعلماء وهم في الحقيقة موافقون  مفهوم أهل الكتاب بالتوصيف القرآني. 

إذا كان العلماء هم من يحللون و يستنتجون نتائج جديدة وهم أهل الثناء في كتاب الله، فإن كل الذين يضمون معلومات بعضها إلى بعض ثم ينثرونها بين يدي الناس ليسوا علماء ولكن ينطبق عليهم مفهوم أهل الكتاب. أهل الكتاب يغلب عليهم الضلال بسبب منهج التقليد  الذي يتبعونه وعدم القدرة على تحليل ما بين أيديهم لذا جاء التحذير الرباني من هذه فئة كثيف للغاية. 

يكثر في هذه الفئة الكفر والتكذيب والقول على الله بما لا يعلمون. بإختصار شديد أهل الكتاب لا يعلمون وإنما يغلب عليهم صفة يعرفون وهذه هي الميزة الرئيسية  لفئة أهل الكتاب. سوف يتضح مفهوم أهل الكتاب أكثر فأكثر عند بحث لفظ اليهود ولفظ النصارى في الفصول القادمة.

سوف أتطرق لخاطرة بسيطة هنا قبل الانتقال للآية التالية، وهي الفرق بين الله يعلم والله يعرف. 

هل الله يعلم أم الله يعرف؟

تعبير (علم الله) هو تعبير شديد الخطورة؛ إذ سبّب عدمُ فهمه بالشكل السليم إلى تكفير ناس وزندقة آخرين، بل وكان أحد أركان قضية خلق القرآن، وسبّب إلى يومنا هذا كماً كبيراً جداً من الكسل، والقول على الله بما لا يعلم الناس، حتى جعلوا من الله العلي القدير الحكيم مرادفاً للعشوائية وهو لا يدرون.

عدم فهم هذا التعبير جعل الناس يعتقدون أن الإنسان لا يملك من أمره شيئاً، وأنه يسير كما هو مخطط له، وليس له في ذلك حيلة.

هذه المفاهيم هي سبب تخلف الأمم وسبب نكبتها، ومن يُنظّر لها وينشرها بين الناس، ينشر الجهل ويفتري على الله الكذب.  

(الله يعلم) تختلف تماماً عن (الله يعرف) فلو قال الله أنه يعرف لكان الفعل قد تم وحدث، والإنسان فيه مسير تماما، أما قول الله يعلم، يعني أن الله محيط بالشيء، ويمتلك أدواته جميعها؛ والمفهوم الأقرب لهذا المعنى هو مفهوم الاحتمالات.

نفترض أن المطلوب مني الذهاب إلى مدينة معينة، وهناك خمس طرق للوصول للمدينة، ومسافة كل طريق تختلف عن الآخر، وظروف كل طريق تختلف عن ظروف الطريق الآخر .

المعرفة هنا هي معرفة الطريق الذي سلكه الشخص بشكل محدد، وكل ما يخص هذا الطريق فقط، وغالباً تأتي بعد حدوث الفعل، بينما عملية العلم أوسع من ذلك بكثير، وهي عملية تتم قبل حدوث الفعل.

العلم هو عملية حسابية معقدة للغاية؛ إذ تأخذ في الحسبان الطرق الخمسة وجميع الظروف والعوامل والاحتمالات والعلاقات التي تتحكم في هذه العملية، ثم إعطاء نتيجة لما سوف يحدث. كلما ازداد العلم دقة كلما اقتربت التوقعات من النتائج، فإذا كان العلم محيطاً بشكل كامل فهنا لابد أن تكون التوقعات موافقة تماماً للنتائج، بل تصبح التوقعات والنتائج شيئاً واحداً. 

لذلك استخدم ربنا لفظ (يعلم) ولم يستخدم لفظ (يعرف) في وصف أفعاله؛ مما يثبت أن الإنسان يخلق أفعاله، لا اجبار عليه، وأن علم الله هو إحاطته بكل الاحتمالات التي سوف يقوم بها الإنسان ونتائجها.

الآية الثانية والثالثة 

لدينا آيتين في كتاب الله جاء فيهما  تعبير (يعلم) وتعبير (يعرف) مع الكتاب فكيف ذلك؟

عندما جاء لفظ (يعلم) مع الكتاب قال الله لا يعلمون الكتاب إلا أماني: 

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَٰبَ إِلَّآ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(سورة البقرة: آية 87).

العلم قائم بالأساس على الاستنتاج والاستنباط، وقليل ما هم؛ لذلك قال الله لا يعلمون الكتاب إلا أماني. الأماني كما بيّنّا في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب عندما جئنا على مفهوم (الأميين) أنها الأفكار غير القائمة على منهجية، وإنما رؤى  وفلسفات شخصية.  علمهم بلكتاب بالأصل أماني وهي الأفكار الشاردة التي لا تقوم على أرض صلبة. 

بينما عندما جاء لفظ يعرف قال الله عنهم (يعرفون الكتاب كما يعرفون أبناءهم)؛ أي معرفة قوية.  

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ  وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(سورة البقرة : آية 146).

المعرفة هنا استحضار ما هو موجود بالفعل بشكل قاطع، دون أي استنتاج أو عمليات تحليل لذلك، هم يعرفون ولكن لا يعلمون. ولو كان لهم علم فهو مجرد أماني يغلبه الهوى. هذه الصفات نستطيع إدراكها بكل سهولة في أصحاب المعارف الذين لا يملكون أدوات العلم، تجدهم يتعاهدون المعارف التي تذخر بها الكتب ومن ثم إعادة تدويرها مرة أخرى بين الناس. فإذا استنتجوا أمرًا لم يفرقوا بين الدلائل والحيل وجاءت استنتاجاتهم على مقاس أهوائهم وأمانيهم لا تلتزم أي منهجية سليمة.  

الآية الرابعة

(ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَتْلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦ أُولَٰٓئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِۦ وَمَن يَكْفُرْ بِهِۦ فَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ)(البقرة : الآية 121).  

الآية الخامسة وحتى الثامنة

(رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ)(سورة البقرة: آية 129).

(كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(سورة البقرة: آية 151).

(لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ)(سورة آل عمران: آية 164).

(هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّـنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ)(سورة الجمعة: آية 2).  

بالنظر إلى هذه الآيات نجد أن وظيفة الرسول هي أن يتلو عليهم آيات الله، وكذلك يعلّمهم الكتاب. أما (التلاوة) فهي نطق الآيات وتتبعها كما هي، وأما (يعلمهم) فهي تعني طريقة التعامل مع الكتاب.

تعليم الطالب الرياضيات تعني تعليمه طريقة التعامل مع الرياضيات، وتعليم الصيد تعني طريقة الصيد، فلو كان يعرِّفهم الكتاب لكان حلاً واحداً وطريقاً واحداً، أما تعليم الكتاب فتعني طريقة التعامل معه، والتعاطي مع آياته.

هناك فرق شاسع بين أن يُعرِّف الرسول الناس شيئاً وأن يعلِّمهم شيئاً. تعريف الناس بالشيء لا يُسمن ولا يغني من جوع، ولا يُنتج أي فائدة، أما تعليم الناس شيئاً ما فهو أساس كل خير.

 أساس وظيفة الرسل تبليغ الآيات ثم تعليم الناس التعامل مع هذه الآيات، ولذلك كان القرآن هو آخر التسميات؛ لأنه يحتاج لتعليم كثيف حتى يستطيع الإنسان القراءة والتحليل والتدبر. الأمر أشبه بالطالب في المدرسة الذي يعلِّمه الأستاذ المواد الدراسية، فإذا شبّ وكبر وتدرّب بما فيه الكفاية انطلق واستطاع القراءة والتحليل بذاته.

الآيات التي ذكر فيها القرآن كثيرة وغزيرة، وإن أردنا أن نمر عليها جميعها فلن يكفينا كتاب كامل، ولكن حسبنا أن نمر سريعاً على بعض الآيات الخفيفة، لنبين من خلالها كيف يختلف القرآن عن المفهوم الذي توارثناه، والذي أضاع أهم خاصية وميزة لهذا الكتاب؛ وهي القابلية المستمرة للقراءة.

عندما نستعرض الآيات التي ذكر فيها لفظ (القرآن) سنجد أنها مترافقة في أغلبها مع لفظ (اقرأ) أو (تدبر) أو (يعقل)، أو ألفاظ لها علاقة مباشرة بالعلم والبحث والتحليل. 

لم يأت لفظ (التلاوة) مع (القرآن) إلا في موضعين في مواضع (كتاب الله) في سورة الأعراف، ويشير إلى تتبع القرآن، وليس كما يفهم بشكل تقليدي على أنه ترديد كلمات القرآن وآياته .

الآية الأولى

(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)(سورة يونس: آية 61).

التعبير القرآني "تتلو منه من قرآن" تعني تطبّق ما استطعت فهمه من القرآن في الشأن الذي أنت فيه، إذ الهاء في "منه" عائدة على الشأن في الآية الكريمة. القرآن بطبيعته يحتاج للفهم والوقوف عليه وليس مجرد ترديد للآيات، ودل على ذلك أصل الكلمة ذاتها، وكذلك ترافق مفردات التدبر والتعقل والقراءة مع لفظ (القرآن). 

 لفظ (تلو) نفسه يعني تتبع الشيء، ولا يمكن فهم المقصود الحقيقي بالتلاوة إلا إذا فهمنا ما هو الشيء المراد تلاوته.

تلاوة الكتاب تختلف عن تلاوة القرآن، فتلاوة الكتاب تعني تتبع الظاهر من الكتاب، سواءً تتبعه لفظياً (ما نسميه -تجاوزاً- قراءة)، أو التزاماً بالأمور والتعليمات بحسب ما تظهر. إلا أن تلاوة القرآن لابد أن تأخذ عمقاً أبعد من ذلك، وتشير إلى تتبع المعاني الباطنة، والتي لا يتم الوصول إليها إلا من خلال القراءة والبحث والتدبر.

الآية الثانية

(وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ)(سورة النمل: آية 92). 

هذه الآية خاصة تحديدًا بالتأويل والتفسير والتفاعل مع القرآن، وليس كما ذكرنا تلاوة الألفاظ أو ترديدها فقط،  بسبب حساسية لفظ القرآن. المقصود هو تتبع ما جاء به القرآن من خلال قراءته السليمة فإذا وضح للناس أمر خلاف ما يعتقدونه من خلال قراءة القرآن وجب عليهم اتباع الأمر وترك الأمر المخالف لأنه الهدى كما يقول ربنا وسواه الضلال. أكرر دوما القراءة السليمة القائمة على منهج سليم وليست الأماني. 

سوف نأتي في الفصول القادمة على كيفية التفريق بين القراءة السليمة وبين القراءة المزاجية وكيف يستطيع الإنسان النجاة بنفسه وكفى بنفسه حسيبا. 

الآية الثالثة

(فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)(سورة القيامة: آية 18).

 يقول المفسرون في هذه الآية: إن المقصود إذا أقرأك جبريل القرآن فاتبع هذه القراءة. مرة أخرى يتم فهم القراءة على أنها عملية ترديد العبارات والكلمات. الآية لا تشير إلى وجود وسيط أو وجود جبريل، وإنما تشير إلى أن قراءة القرآن أي فهمه وفهم معانيه يتم باتصال مع الله، سواء أخذ هذا الاتصال شكل الوحي أو ما نسميه نحن الإلهام، فيجب اتباع القراءة .

هذه الآية تشير بشكل أساسي إلى خاصية القرآن الأساسية وهي قابليته للقراءة، وأنها مرتبطة بشكل كبير بالله، وليست عملية عشوائية . هذا الأمر تم الإشارة إليه أيضاً من خلال الآيات التي تتحدث بشكل كبير عن الأمر الذي يلقيه الله على من يشاء من عباده، وسوف يتم تفصيله عند الحديث عن سورة القدر. 

كذلك سوف نكتشف مع نهاية الكتاب كيف أن هناك بعض الشروط اللازمة لقراءة القرآن ،إذا ما توافرت فتح الله على صاحبها، فهو القرآن الذي جعله الله ميسرا لمن يتدبر.

الآية الرابعة

(وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ)(سورة الانشقاق: آية 21). 

هذه الآية الكريمة بني عليها حكم سجود التلاوة، رغم أن الآية تقول صراحةً إذا قرئ عليهم القرآن وليس تليت عليهم آيات من القرآن. لو أن الآية تشير إلى وجوب سجود التلاوة لكان ذلك في كل القرآن، وليس في بضع آيات حددها الشراح.  لماذا يتم هدر المعاني بكل هذه السهولة، وعدم الوقوف على المعنى المراد وعدم التفريق بين (قرأ وتلا) وبين (القرآن والكتاب)؟ ولماذا لم يتم فهم لفظ (السجود) من خلال كتاب الله الزاخر بهذا اللفظ في كثير من المواضع؟

فعل (قرأ) كما بيّنا في أكثر من موضع يعني: التحليل والفهم والتدبر وليس مجرد التلاوة، بمعنى إذا تم تدبر وفهم وتحليل القرآن تجد بعضاً من الناس لا يسجدون؛ أي لا يلينون للفهم غير السائد أو المفاهيم غير الموروثة لديهم ولا يطمئنون لها. 

 كنا قد بينا في الجزء الثالث من الكتاب أن السجود لآدم من قبل الملائكة كان عبارة عن دعمه ومساندته وبث الطمأنينة، عن طريق الاقتراب والتواصل معه، وليس سجوداً مادياً كما نتخيل.  هو مفهوم السجود نفسه المذكور في سورة الرحمن الخاص بالنجم والشجر، والذي سوف نأتي عليه في الفصل القادم. السجود المطالب به الإنسان هنا هو الاقتراب والتواصل في حالة قراءة معاني القرآن أو تدبره، وعدم الإعراض أو التنكر أو التحذلق، وكثير من الأعراض السخيفة التي يغرق فيها أرباب المورثات. 

لا شك عندي أن عدم الامتثال بالسجود لقراءة القرآن بمعنى الاقتراب والتواصل، مع هذه المفاهيم الناتجة من القراءة؛ سببٌ رئيسٌ في تضييع تلك المفاهيم الجديدة، وبقاء المفاهيم القديمة أو المغلوطة أكبر قدر من الزمان. إنه تعطيل مسيرة القرآن ووظيفته، وتكريس للجمود والسكون، والذي هو خلاف الحركة أو التسبيح الذي أرشد إليه التوجيه الإلهي، والذي هو أهم قانون من قوانين الوجود.

المثال الأقرب الذي يمكننا من خلاله توضيح ماذا فعل بعضهم بالقرآن، وكيف حولوا قراءة القرآن إلى مجرد تلاوة الألفاظ، وكيف سارت الجموع خلف هؤلاء دون مراجعة ودون تفكير، هو مثال المعادلات الرياضية.

بفرض أن حكيماً أعطى كتاب معادلات رياضية لمجموعة من الناس في قرية ما، وقال لهم: تمرنوا و تدربوا من خلال هذا الكتاب، أو إن هذا الكتاب خاص بالتمارين والتدريب.

فما كان من الناس إلا أن استخدموا الكتاب كأحد الأثقال في تقوية عضلات اليدين مثلاً. لم يفهم الناس أن لفظ (تمارين) أو (تدربوا) يقصد به حل المعادلات الرياضية؛ لأن مجتمعهم لا يعرف هذا النوع بالتحديد من التمارين. 

حاولوا قدر استطاعتهم فهم تطبيق الأمر الذي سمعوه بقدر ما توافر لهم من معارف. فإذا فاجأتهم بأنهم يتصرفون بالطريقة الخطأ، وأنّ ما يفعلونه لا يمت بصلة للتمارين أو التدريب المقصود في الكتاب، وأن الكتاب ينكر عليهم ذلك، لن يستمعوا، وبالتالي لا يسجدون.

فخلف من بعدهم خلف بدلاً من أن ينتبهوا إلى الجرم الذي ارتكب في حق الكتاب، وكيف تم تعطيله، أضافوا بعض الموسيقى وهم يقومون بممارسة تمارين التقوية، غير عابئين بالمفهوم الحقيقي للتدريب المتعلق بحل المعادلات، وليس تمارين تقوية العضلات.

إنه مثال تقريبي لفهم كيف يمكن لمدلول الكلمات أن يغير وظيفة الآيات ورسالتها. 

لا يعقل أن يكون نصيب الإنسان كلَّ نصيبه من هذا الكنز الإلهي مجرد التلاوة، أو الاستمتاع بالموسيقى التي تحملها ألفاظه.

قمة التناقض أيضاً أن كثيراً من هؤلاء الذين حرّموا الموسيقى في الحياة لا يحتفون بشيء من كتاب الله سوى موسيقاه، بل وتم منح العازفين على الكلمات لقب قارئي القرآن، في تعدٍ صارخ على مفهوم القراءة ومفهوم القرآن. 

الآية الخامسة

(لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(سورة الأعراف: آية 204).

هذا الأمر الإلهي أيضا يتكامل تماماً مع الآية السابقة، وهو إذا قرئ القرآن بمعنى تم تحليل معانيه وتعبيراته فيلزمه الاستماع والإنصات. الإنصات ملازم للتدبر وهو حسن الاستماع، المتوافق تماماً مع القراءة بمفهومها القرآني، وهو التحليل ومحاولة الفهم. هذا الأمر الإلهي ليس فقط فُهم على غير معناه، بل تعامل الكثيرون من أهل التقليد والتراث معه بالضد؛ فأصبح من الطبيعي أن ترى رجل الدين ينهى الناس عن الاستماع أو الإنصات إلى قراءة القرآن التي تخالف ما تعارف عليه الناس، وهذا التصرف هو عين التصرف الذي أشار إليه القرآن في سورة فصلت:

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (سورة فصلت: آية 26).

 التحريض هنا على ترك سماع القرآن وليس سماع الكتاب؛ لأن القرآن مصمم تماماً لمخاطبة العقل، وأول منازل التعقل هي الاستماع، لذلك فطن الذين كفروا إلى هذه الخاصية فطلبوا من أتباعهم والجموع التي ترى فيهم أهل الثقة عدم الاستماع للقرآن؛ أي لما تحويه الآيات من مفاهيم قابلة للقراءة والتدبر والتعقل.

  بعد هاتين الآيتين لا أستغرب أبداً ذلك العامي الذي يرفض الاستماع أو مطالعة كتب تخالف ما ورثه وتعارف عليه. 

 لقد تم تحريف معاني القرآن كما نرى، وأصبحت القراءة مجرد تلاوة الآيات أو ترديدها، وتبع ذلك قصورٌ في فهم كثير من آيات القرآن التي تحث على الفهم والتدبر والتعقل . لقد تحول الأمر إلى مجرد شكل ظاهري، أو مسرحية يقوم فيها الممثلون بدور قارئي القرآن، وهم بالكاد يقولون الكتاب ولا يمكن تسميتهم بـ القارئين؛ لأنهم لا يفعلون ذلك حقيقة، ويصطف الناس أمامهم وهم مقتنعون أنهم يستمعون إلى القرآن و ينصتون إليه. 

لا هؤلاء قارئون ولا هؤلاء منصتون، وكل ما في الأمر مسرحية يستمتع فيها الجميع بدور المؤمن والمتبتل إلى الله، وتمثيل دور أهل الله وخاصته. نحتاج في كثير من المواقف ان نؤكد على البديهيات مرارًا وتكرارًا حتى لا يتم تحريف الكلام على غير معناه. لا نعيب على تلاوة الآيات أو الاستماع إليها وإنما نود الإشارة  إلى تسمية الأشياء بمسمياتها حتى لا يختلط على الناس الأمر ويضيع أمر الله ولا يجد من ينتبه إليه. 

الآية السادسة

(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا)(سورة الإسراء : آية 45)>

هذه الآية الكريمة تشير إلى نوع من المكذبين لا تؤثر فيهم قراءة القرآن؛ لأنهم بالفعل هم معزولون. كثيراً ما يعتقد أصحاب النيات الطيبة أن فهم آيات القرآن واستخراج معانيها ربما تثير حاسة التفكير لدى الناس. هذه الفرضية صحيحة لدى الذين لديهم الرغبة في معرفة الحقيقة، وبريئون من التحيز المعرفي، أما الذين لا يؤمنون بالآخرة فهؤلاء معزولون عن القول، ولديهم نظامهم المعرفي، فلا داعي لتُضيِّعَ الوقت معهم.

في الغالب هؤلاء يسخرون ويستهزئون، لذلك كان التوجيه الإلهي واضحاً مع أمثال هؤلاء، كما جاء الأمر في سورة الأنعام بالابتعاد عنهم وعدم الخوض معهم:

(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(سورة الأنعام: آية 68). 

الآية السابعة

(أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)(سورة الإسراء: آية 78). 

هذه الآية الكريمة تشير إلى لمحة غاية في الروعة؛ وهي أن قرآن الفجر كان مشهودًا. التدبر والقراءة في وقت الفجر هي أفضل وقت، وهذا الوقت يبدو فيه العقل في حالة مثالية لاستقبال ومعالجة الأمور. سوف نعود إلى هذه الآية الكريمة عندما نأتي على مقدمة سورة المزمل في الفصول القادمة، ونقارن بين ناشئة الليل وقرآن الفجر. 

الآية الثامنة

(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(سورة الإسراء : آية 88).

هذا التحدي الذي جاء في كتاب الله جاء لمقام القرآن، وهو أن القرآن له صيغة وله خاصية لا يمكن لأي بشر أن يستطيع الإتيان بها. القرآن هو قراءة للكون والأحداث تتكشف باستمرار. ألفاظ القرآن تحوي معارف من علم الخالق المحيط الكلي والشامل، لذلك سوف يظل القرآن هكذا قابلاً للقراءة والتفاعل باستمرار.

 المخلوق سواء كان بشراً أو غير ذلك لا يمكن أن يأتي بمثل القرآن؛ بسبب معارفه المحدودة والمحكومة بالزمن الذي عاش فيه هؤلاء البشر أو غير البشر. من خلال هذه الآية تحديداً، ومن خلال مفهوم القرآن لا يمكننا قبول الحديث المنسوب لرسول الله والذي يقول الراوي فيه أن رسول الله قال أنه أوتي القرآن ومثله معه. 

)عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، أَلَا وَلَا لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ، فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُم).

ربما لو أن الرواية لم يُذكر فيها القرآن واكتفي بالكتاب لما حدثت إشكالية، ولكن الرواية بهذه الصيغة لا يمكن قبولها؛ بسبب تعارضها الواضح مع الآية الصريحة في كتاب الله، وهي تحدي الله الإنسَ والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن. 

طبيعة لفظ القرآن لا يمكن لبشر -حتى الرسل والأنبياء- الإتيان بمثله، ولو قال أحدهم أو ادعى أن الله أوحى إلى رسوله قرآناً شبيهاً، لكان لزاماً أن يكون مع هذا القرآن، لا منفردا عنه؛ لأن لفظ القرآن لابد أن يكون خالصاً من عند الله لفظاً ومعنىً؛ بسبب طبيعته الحساسة للمعرفة. ليس هناك فرصة للقول أن هناك أقوالاً تشبه في الحقيقة القرآن، ومن يدعي ذلك فليتحمل ما يقول، ومن يثق في أسلافه الذين قالوا بهذا، ويقول مثل قولهم، فهنيئاً له ما يقول وما يدعي، فلكل إنسان ما يعتقد.

أما إذا كان المقصود بأن الله آتى رسوله القرآن ومثله معه، وهي السبع المثاني، وهي أيضاً مما جاء في كتاب الله، فإننا لا نذهب إلى هذا القول أيضاً؛ بسبب أن السبع المثاني لها طبيعة مختلفة كما سوف نرى في الفصول القادمة، وأنها خاصية شديدة الأهمية مرتبطة بالقرآن  والقراءة، وليست شيئاً آخر موازٍ للقرآن.

من خلال هذه الآيات البسيطة ومفهوم القرآن يمكننا إدراك خاصية القرآن، وكيف أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقل والتدبر.

إذا كانت النبوة قد انتهى وقتها فلديكم قرآن قابل للقراءة، سوف تتكشف أسراره في دورات زمنية محسوبة تقود الباحثين المخلصين إلى الإيمان، ويضل عنها الكسالى والمتواكلون.

مجرد نزول القرآن وتسميته بالقرآن لهو إعلان عن بداية العصر الجديد، القائم تماماً على العقل الذي يستطيع القراءة والتحليل. إنها رحمة الله التي أدركت الناس جميعاً، وليس حكراً على المؤمنين فقط. لا يمكن أن يكون القرآن هدى للناس إلا إذا وافقت مفاهيمه -والتي تتكشف يوما بعد يوم- المفاهيم العقلية عند الناس، ولم تتعارض مع المنطق. 

من يصرون على اتباع قراءة القرون الأولى أو التفاعل الأول، لا يمتثلون أمر الله، ولا يُعلون كلمة الله، وهم أبعد ما يكون عن مراد الله، ولو أحسنا الظن بهم فلن نجد إلا أنهم خلطوا الأمر بين الكتاب والقرآن. 

السؤال هنا: كيف يمكن أن يكون القرآن متجدداً باستمرار؟ 

الآن يبدو لنا أن قصة خلق القرآن ما هي إلا صراع دائم بين التجديد والأصولية، ولكن خان طرفي الصراع اختيارُ الألفاظ . لفظ (خلق) الذي وصف به  المتكلمون القرآن لم يأت في كتاب الله مطلقًا واصفاً آيات القرآن.. لذلك عندما تم إثارة هذه القضية حدث لبس مازال حتى يومنا هذا. 

لقد جاء لفظ عجيب في كتاب الله يصف وظيفة القرآن وتكامله مع الإنسان، وهو (علم القرآن) الذي ذكره الله في سورة الرحمن . سوف ندخل إلى سورة الرحمن في الفصل القادم، لنفهم تلك العلاقة العجيبة بين الإنسان والقرآن، ولم لا يجب أن يتخللها علاقات أخرى، إذا كان الإنسان مخلصاً في بحثه وطلبه المعرفة

.  


Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع- عشر العصر

الفصل السادس- النبي