الفصل الخامس- السبع المثاني
الفصل
الخامس السبع المثاني
مفهوم السبع المثاني مفهوم محير للغاية، وقد قيل فيه الكثير
والكثير، ولكي نستطيع تحليل هذا التعبير القرآني العجيب، لابد أن نعرف ما هو
الكتاب؟
وما هي الآيات المحكمات، والآيات المتشابهات؟
جميع آيات المصحف هي في الحقيقة آيات قرآن للقارئ، وهي كذلك
آيات كتاب للمؤمن، وآيات ذكر بما تحتويه من حقائق ثابتة لا تتغير.
جاء لفظ (كتاب) أكثر ما جاء مقروناً مع لفظ الإيمان؛ لأنه
يحتاج إلى تصديق واتباع. كذلك نجد العناد والتكذيب مصاحباً لأهل الكتاب؛ لأن
إيمانهم بالكتاب أعطاهم ثقة وشجاعة لمجابهة الأفكار الجديدة.
الآيات التي ورد فيها ذكر (الكتاب) كثيرة جداً، وكلها تصب
في أن (الكتاب) لفظ عام يقتضي الإيمان، بخلاف (القرآن) الذي يشير إلى العمق
المعرفي للآيات، والذي يتطلب البحث والتحليل. سوف أتوقف في السطور التالية مع آية واحدة من آيات ربنا؛ لنستخلص منها بعض
المعرفة، وتصلح أن تكون مدخلاً لفهم السبع المثاني، والمتعلقة أيضاً بفهم معاني
القرآن.
(هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (سورة آل عمران: آية 7).
الآية الكريمة تقرر بالفعل أن جميع الآيات هي آيات كتاب،
وهذه الآيات تنقسم إلى آيات محكمات، وآيات متشابهات. فما هي المحكمات؟ وما هي
المتشابهات؟
المحكمات والمتشابهات
لعل القول المشهور والذي عليه الغالبية، هو أن المحكم هو
البيّن الواضح الذي لا يحتمل وجهاً آخر، بينما المتشابه هو الذي يشتبه أمره على
بعض الناس، يعلمه العلماء ولا يعلمه العامة، ومنه أيضاً ما لا يعلمه إلا الله.
هل هذا التعريف سليم، أم أنه تعريف جاء على عجل، ولم يراعي
ترتيل اللفظ القرآني؟
في البداية دعونا نتعرف على معنى المحكم، ثم ننتقل بعد ذلك
إلى فهم المقصود بالمتشابه؛ لنكتشف أن معنى المحكم والمتشابه كما جاء في كتاب
الله، ليس بعيداً عن المعنى المتداول فقط ؛ بل على النقيض منه تمامًا، وليراجع أهل
"الاختصاص" ما هو مكتوب بشكل علمي ومنهجي.
أولاً: معنى محكم
مادة (حكم) كما جاءت في قاموس اللغة، مأخوذة من حكمت
الدابة، وأحكمت، بمعنى منعت. كذلك الحكم هو الفصل بين شيئين. لدينا هنا ملاحظة على
مدلول جذر (حكم)، والذي جاء في قاموس اللغة مأخوذاً من حكمت الدابة، وهو لا شك
عندي أنه مدلول صحيح من وجه واحد؛ وهو الانغلاق أو المنع، ولكنه لم يصب ولم يصل
إلى عمق جذر لفظ (حكم) كما ينبغي. هذا المدلول يبدو لي أنه متأثر بشكل كبير
بالبيئة العربية البسيطة، وهو معنى فرعي، وغاب عن اللفظ المعنى الأساسي، والذي
يمكننا بسهولة ويسر إدراكه من خلال كتاب الله.
لو نظرنا إلى لفظ (حكم) ومشتقاته في كتاب الله، سوف ندرك من
اللحظة الأولى أن اللفظ يصف حالة من العمق المعرفي، وهي الحكمة. جاء في لسان العرب
لابن منظور أن (حكم) أي صار حكيماً. عندما نقول (عبارة محكمة)؛ أي عبارة تنطوي أو
تشتمل على قدر كبير من المعلومات أو المعرفة. يقال للرجل (حكيم) إن استطاع التعبير
عن فكرة بشكل موجز وسليم، على نحو يشكل كل لفظ حالة معرفية بحد ذاته.
بشكل عام وصف الله سبحانه وتعالى آيات الكتاب جميعها بأنها
محكمات، أو أن الآيات من لدن حكيم.
(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ
فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (سورة هود: آية 1).
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (سورة
يونس: 2).
ثانياً: معنى المتشابه
لفظ (الشبه) في اللغة يعني المثل. وشيء يشبه شيئاً؛ أي لهما
شكلان ظاهرياً متقاربان أو حتى متطابقان. إذن التشابه هو حالة خاصة بالشكل
الظاهري، وليس بالجوهر. وبما أننا نتحدث عن آيات محكمات؛ أي المليئة بالحكمة؛
فتكون الآيات المتشابهات هي الآيات التي لها معنى ظاهر يمكن فهمه بسهولة.
يتضح لفظ (التشابه) أو (المتشابه) من خلال الآية الكريمة
التالية:
(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن
شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا
فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا
قَتَلُوهُ يَقِينًا) (سورة النساء: آية 157).
الشبه هنا هو الشكل الظاهري، ومن السهل على الإنسان التفريق
بين الأشياء عن طريق الشكل الظاهري، بل هو وسيلة التفريق الأولى السهلة، والتي
يلجأ إليها الإنسان إذا طلب منه وصف شيء، أو مقارنة شيء بشيء.
أيضاً الآية التالية تؤيد معنى التشابه بأنه المظهر
الخارجي، والذي يسهل على الإنسان مقارنته بشيء آخر:
(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن
لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ
لَمُهْتَدُونَ) (سورة البقرة : آية 70).
تشابه البقر يعني أن هناك أشكالاً ظاهرية لهذه الأبقار، عند
مقارنة بعضها ببعض لم تظهر فروق قوية.
من هنا نستطيع القول: إن المتشابه هو ما له شبيه لديهم،
ويمكن مقارنته بسهولة؛ لأنه يشبه ظاهرياً معرفة ما لديهم.
ملاحظة: كيف نوفق بين الآية التي تقول أن الكتاب منه آيات
محكمات ومنه آيات متشابهات، والآية التي تقول أن الكتاب كله محكم؟
المبدأ العام هو أن كل آيات الكتاب محكمات؛ أي تحتوي على
الحكمة، أو أن لها عمقاً معرفياً يحتاج لقدر من العلم لفهمها. هذا لا ينفي أن تكون
بعض الآيات لها معرفة ظاهرية، وهذه هي الآيات المتشابهة. كون الآيات ممكنة الفهم
بشكل ظاهري، هذا لا ينفي كونها تحتوي على الحكمة، أو أنها محكمة.
من هنا نستطيع أن ندرك حجم المأساة التي ألمت بهذه الأمة،
جراء الذين يفسرون القرآن اعتماداً على المتشابه، أو الشكل الظاهري، دون عمق
معرفي. دون أدنى مبالغة، لقد تم تفسير أغلب آيات الكتاب منذ العصر الأول اعتماداً
على الشكل الظاهري دون أي عمق معرفي، مستنداً إلى قصص وروايات أهل الكتاب.
أستطيع أن أعطيك مئات الأمثلة على كلمات وتعبيرات قرآنية
تصف ظواهر كونية، ونظريات معرفية لم يجد لها المفسر القديم تفسيراً، سوى الرياح أو
الجبال أو الخيل أو الملائكة. كل ما كان يفعله إنسان هذا العصر، في ظل غياب أي
منهجية علمية لفهم اللفظ القرآني، هو تقريب المدلول لأقرب ظاهرة لديه، أو لحادثة
يعرفها دون أي دليل، سوى تصوره الذهني. هذه الطريقة قلبت آيات الله من آيات
محكمات، إلى آيات متشابهات، وأفرغت المحتوى المعرفي للقرآن العظيم.
الفرق بين المحكم والمتشابه هو مثال في غاية الخطورة؛ لأنه
ببساطة شديدة يوضح كيف تم التعامل مع اللفظ القرآني، وكيف تم تفسيره من خلال
المدلول، بينما الغوص في المعنى أعطى نتائج على النقيض تمامًا.
إنه مثال من مئات الأمثلة التي جاءت في سلسلة كتاب تلك
الأسباب، والكفيلة بعمل مراجعات كاملة، إن كنا في بيئة لديها الحد الأدنى من
المنهجية العلمية، ولا تتعامل مع الأفكار بشكل عدائي. رغم تفجر المعرفة من ثنايا
آيات الكتاب عند تطبيق منهج علمي عليها، إلا أن إقناع أجيال تربت على معرفة معينة
هو أمر في غاية الصعوبة؛ بسبب ثقل الميراث التلقيني.
من هنا يمكننا أن نقول أن الفهم السابق للمحكم والمتشابه لم
يأخذ بعين الاعتبار البعد اللغوي للفظ
(الحكمة)، وجذرها (حكم)؛ لذلك قالوا أن المحكم هو الواضح الذي يمكن فهمه بسهولة،
أما المتشابه فهو الذي يحتاج إلى علم ودراية معينة.
من الأشياء البديهية إذا أرجعنا لفظ (حكم) إلى حكم وحكيم
وحكمة، وهي صفات وصفت آيات الذكر الحكيم، فلا يمكننا القول أن (آيات محكمات) تعني
آيات واضحة؛ بل الأصح عندي أنها آيات تحوي الحكمة، ومعرفتها تحتاج لقدر كبير من
المعرفة والدراية.
لقد حذر ربنا من اتباع المتشابه من الآيات، رغبة في تأويله؛
لأن الكتاب وآياته كلها محكمة، فلا يصح ولا يستقيم التعامل مع آيات الكتاب بشكل
ظاهري، بل لابد لها من عمق معرفي كبير لفهم دلالاتها.
لعل عدم التفريق بشكل علمي بين المحكم والمتشابه، سبَّب
خلطاً كبيراً لا مثيل له في فهم آيات الكتاب، وجعل كثيراً من مدعي العلم والمعرفة
يتحدثون عن أشياء لا يعلمون عنها شيئاً، سوى معرفة سطحية، ويعتقدون أنهم يملكون
الحق في قول ما يرغبون في قوله، دون أي فرصة للتراجع والاعتراف بالخطأ.
لو أردنا أن نبين تلك المفاهيم التي فهمت بشكل ظاهري، وسببت
كوارث في ثقافة هذه الأمة، ولم يراعى فيها العمق المعرفي، ولم يصل أحد إلى مكنونها
من الحكمة، وشكلت جزءاً أصيلاً من نظامنا المعرفي، لاحتجنا إلى مجلدات لبيان هذه
الفروقات، ومدى تأثيرها.
بمجرد أن استطعنا التفريق بين المحكم والمتشابه، وجدنا أنفسنا
أمام معنى من أشهر المعاني التي اختلف حولها الناس، وهي السبع المثاني. السبع
المثاني التي ظلت لغزًا، وقال فيها أغلب العلماء أقواًلا كثيرة ومتشعبة، ولكن
للأسف الشديد لم يحدث ربط بينها وبين القرآن، وبين المتشابه، ولو حدث لبان معناها
ووضحت بشكل كبير.
السبع المثاني
أهم الأقوال التي خاضت غمار (السبع المثاني) تمحورت حول كون
السبع المثاني هي سورة الفاتحة؛ لأنها تقرأ في كل صلاة، أو أن السبع المثاني هي
السور التي تلي السور ذات المائة آية، وبعد السبع الطوال.
السبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة،
والأنعام، والأعراف، والسابعة فيها خلاف، فقيل: إنها براءة، وقيل يونس. وقيل غير
ذلك. وأما المئون أي السور التي تزيد على مائة آية أو تقاربها، وهي السور التي تلي
السبع الطوال، أما المثاني فهي السور التي تلي المئين، سميت بذلك لأنها
ثَنَّتْهَا، أي كانت بعدها، فهي ثوان بالنسبة للمئين، والمئون أوائل بالنسبة إليها.
بعض الأقوال ذكرت أن السبع الطوال ذاتها هي السبع المثاني.
بعض من المعاصرين ذكر أن السبع المثاني هي الأشياء الثنائية في القرآن، مثل الأرض
والسماء، والجنة والنار، وهكذا، وقد تطلق المثاني على القرآن عند بعض الشراح.
من الواضح أن الاختلاف على أشده في بيان مفهوم (السبع
المثاني)، وهذا الاختلاف إن دل فإنه يدل على عدم وجود تفسير معين، وإنما هي محض
اجتهادات مرتبطة بقدرة المفسر المعرفية.
بداية دعونا نتعرف على
تعبير (سبع أو سبعة) كما جاءت في القرآن.
سر الرقم سبعة
لغويا لفظ (سبع) هو عدد، وهو كذلك حيوان من الوحوش وهو
السبع. حسب المنهج الذي نستخدمه، والذي يقوم على أن الكلمة أو اللفظ يمثل حالة لها
خصائص وصفات، فلا يمكننا فهم صفات لفظ (سبع) إلا من خلال نسبته إلى شيء في القرآن
له صفات وخصائص، وهو بالطبع السبع الذي ذكره الله تعالى في سورة المائدة:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا
أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن
تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ
دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ
اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (سورة المائدة: آية 3).
(السبع) المذكور في الآية الكريمة هو من
آكلات اللحوم، وسوف نحاول إيجاد علاقة بين
لفظ (السبع) وهو الوحش والرقم سبعة.
قد يكون سمّي الوحش سبعاً؛ لأنه مر في تكوينه التطوري بسبع مراحل،
أو غير ذلك. من المعروف أن آكلات اللحوم (السباع) تتربع على قمة الهرم التطوري
بالنسبة إلى باقي المخلوقات، والتي تبدأ بالكائنات وحيدة الخلية، وتنتهي بالسباع.
الإنسان يختلف عن هذه الدورة؛
لأنه دخل في دورة جديدة من الوعي والإدراك، أو بمعنى بسيط أفلت من هذه الدورة،
عندما امتلك القدرة على إنتاج الأفكار. خروج الإنسان من هذه الدورة جعله مسؤولاً
عنها، وهذا هو عين العبادة، والذي تناولناه في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب
(الطور). سمي السبع سبعاً؛ لأنه نهاية دورة تمت على ما يبدو من سبع مراحل أساسية،
تربع هو على رأس قائمتها.
ربما هذا التحليل لا يعجب الباحثين في النظام الحيوي،
والدارسين المتخصصين في تقسيم الكائنات الحية. كل ما يمكن أن نقوله هنا أننا نحلل
اللفظ، ونشير إلى خصائصه، والذي نعتقد أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالكون، والحالات
الفيزيائية في الكون. فبدلاً من الاعتراض فإننا نطلب من الباحثين إعادة النظر مرة
أخرى في الدورات التطورية للسباع؛ لأن لدينا دلائل أخرى قويةً تشير إلى وجود نظام
سباعي يحكم كثيراً من الأشياء.
الرقم سبعة رقم عجيب؛ فقد وصف تركيب السموات، وهو كذلك أشار
إلى كثير من الأشياء التي تبدو مركبة تركيباً طبقياً، وعدد طبقاتها سبع. مثل ذلك
دورة فيضان النيل، والتي جاءت في الجزء الثالث من الكتاب، وكيف أن السنين السبع
التي ذكرها نبي الله يوسف تشير إلى دورة فيضان النيل، وهي سبع سنوات.
(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا
فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا
تَأْكُلُونَ(47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا
قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ(48)) (سورة يوسف: آيات 47-48).
وصف السماوات في القرآن بالسماوات السبع، جاء بصيغتين
مختلفتين: فمرة قال ربنا عنها أنها سبع سموات، ومرة قال عنها السموات السبع،. فما
هو الفرق بين التعبيرين؟
جاء لفظ (السموات) مقروناً بلفظ سبع في سبعة مواضع من كتاب
الله، خمسة منها جاءت بصيغة سبع سموات، واثنين بصيغة السموات السبع. لا يمكننا فهم الفرق بين التعبيرين إلا من
خلال مقارنة الآيات بعضها البعض وفهم سياق الآيات.
(سبع سموات):
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (سورة البقرة: آية 29).
الآية الكريمة تقص علينا قصة خلق الأرض والسموات المرتبطة
بهذه الأرض وكذلك باقي الآيات.
(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي
يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء
الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (سورة
فصلت: آية 12).
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عِلْمًا) (سورة الطلاق: الآية 12).
(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا
مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى
مِن فُطُورٍ) (سور الملك: آية 3).
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ
سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا) (سورة نوح : آية 15).
جميع هذه الآيات الكريمات تتحدث عن السموات المحددة، والتي
نقع نحن في نطاقها، وسبع سموات تعني سبع تركيبات طبقية محددة ومعينة؛ بينما
التعبير القرآني الوارد بصيغة السموات السبع لا يعني نطاقاً محدداً كما سوف نرى من
خلال الآيات.
(السموات السبع):
(تُسَبِّحُ لَهُ السَمَوَاتُ السَّبْعُ
وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ
وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (سورة
الإسراء : آية 44).
(قُلْ مَن رَّبُّ السَمَوَاتِ السَّبْعِ
وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (سورة المؤمنون: آية 86).
السموات السبع هنا تعني النظام الطبقي أو النظام الدوري،
الذي يتكون منه الكون وهو وصف أشمل وأعم من وصف السبع سموات كما هو واضح من ترتيل
الآيات. الآية في سورة المؤمنون التي جمعت العرش والسموات السبع تدفعنا بقوة
للاعتقاد بأن لفظ السموات السبع يشير إلى تركيبات طبقية عددها سبع يتكون منها
الكون وليس مجرد السموات المرتبطة بالأرض التي نعيش عليها.
هذا معناه أننا نعيش في نظام سباعي، يتكون من سبع تركيبات
طبقية، هو جزء من نظام سباعي أكبر، وقد يكون النظام السباعي الأكبر هو جزء من نظام
سباعي أكبر وهكذا. تعبير (السموات السبع)
تحديداً يشير إلى أكوان متوازية، بينما تعبير (سبع سموات) هو تعبير عن الكون الذي
نعيش فيه.
ما نستطيع التأكيد عليه أن النظام الطبقي السباعي هو النظام
السائد في جميع الأكوان، ويبدو كذلك أنه النظام المستقر.
نظرة سريعة إلى بنية الذرة يمكن أن تمنحنا معرفة أكثر عمقا
للنظام السباعي.
من المعروف أن مستويات الطاقة في الذرات والتي تتحرك فيها
الإلكترونات هي مستويات لا نهائية بشكل نظري، ولكن عملياً المستويات التي تستوعب
كل الإلكترونات المعروفة هي سبعة مستويات فقط.
ماذا يحدث إذا افترضنا وجود إلكترونات تحتاج لمستوى ثامن؟
وجود مستوى ثامن يعني أن الذرة غير مستقرة، فلا يمكن وجودها
بشكل عملي؛ إذ إن اللحظة التي سوف تتكون فيها هي نفسها اللحظة التي سوف تنهار
فيها. من هنا يمكننا القول إن النظام السباعي هو الدرجة القصوى التي يمكن أن
يبلغها نظام مستقر. يجب الأخذ في الاعتبار أن الشيء الموصوف بالسبع هو شيء تراكمي
وليس منفصلاً، أي أن الطبقة الثانية قائمة بالأساس على الطبقة الأولى، والطبقة
الثالثة قائمة على ما سبقها، وهكذا حتى نصل إلى الطبقة السابعة.
رأينا ذلك في وصف السبع (الوحش)، إذ إنه رابض في قمة
التطور، و قائم بالأساس على ما سبقه من خلال فهم التطور. كذلك البنية الذرية،
وكذلك تركيب السموات أو الطبقات العليا، فهي جميعاً مركبة تركيباً طبقياً؛ بحيث
تعتمد كل طبقة على الطبقة التي تسبقها.
لذلك الوصف القرآني ( سبع من المثاني) يشير إلى سبع تركيبات
طبقية من المثاني، كل منها تعتمد على ما يسبقها، فما هي المثاني؟
المثاني
(ثنى) في اللغة هو تكرار الشيء مرتين، وفي
لسان العرب (ثنّي الشيء) تعني ردّ الشيء بعضه على بعض. ومن خلال الآية الكريمة
التالية سوف يتضح جزء من مفهوم المثاني:
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(سورة الزمر: آية 23).
التعبير القرآني ( كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ) هو المدخل الرئيسي لفهم السبع المثاني.
عندما استطعنا استنتاج مفهوم (متشابه)، ثم بينا أن (المحكم) هو المنطوي على الحكمة، أو
المليء بالحكمة، و(المتشابه) هو ذو الفهم الظاهري.
لذلك فإن التعبير القرآني (كتاباً متشابهاً) تعني أنه كتاب
له فهم ظاهري. وبإضافة هذا التعبير إلى لفظ (المثاني) يعني أن هذا الكتاب ذاته
متعدد الثنايات. الشيء المثني هو الشيء الذي يخفي داخله شيئاً آخر. وإذا أخذنا في
الاعتبار أن المعنى هنا هو كتاب الله، والذي بعض آياته لها مدلول ظاهري، وفي الوقت
نفسه لها طبيعة محكمة؛ أي مليئة بالحكمة؛ فالمثاني هي مواضع الحكمة في الآيات.
كل مثني يحوي داخله درجة من الحكمة، أو قدراً من الحكمة،
وهذه الصفة صفة رئيسة في آيات الله المحكمات. درجات هذه الحكمة حددتها الآية التي
نحن بصددها، وهي آية السبع المثاني.
الآية التي تسبق آية السبع
المثاني إلى نهاية سورة الحجر، سنجد أن الآيات تتحدث عن موضوع واحد، متعلق بالسبع
المثاني والقرآن العظيم، وهي الآتي:
الآية الأولى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)
(سورة الحجر: آية 86).
في هذه الآية الكريمة وصف ربنا ذاتَه بأنه سبحانه خلّاق
عليم. وصفة الخلّاق جاءت كذلك في سورة يس، عندما وصف الله قدرته سبحانه على خلق
مثيل للسموات والأرض، أي تعدد الخلق.
(أَوَلَيْسَ
الَّذِي خَلَقَ السَمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ
مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)
(سورة يس: آية 81).
وصف الخلاق، وكذلك وصف
العليم، مناسبان تماماً لما سوف يأتي بعدهما، وهو عطاء الله المتكرر والمتمثل في
السبع المثاني والقرآن العظيم.
الآية الثانية: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ
الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (سورة الحجر: آية 87).
يقول المفسرون أن لفظ (آتيناك) مقصود به رسول الله،
والحقيقة كما يبدو من سياق الآيات أنه لفظ موجه لكل إنسان بشكل عام؛ إذ إن الحكمة
التي تنطوي عليها الآيات لا يمكن استخراجها مرة واحدة، وإلا كانت مثنى واحداً. إنه
تعبير للإنسان حتى يوم الدين، وتوجيه بأن آيات القرآن العظيم تحمل في طياتها سبع
مستويات من الحكمة.
قد يتبادر إلى الذهن سؤال، وهو: كيف تحتوي آيات القرآن سبع
مستويات من الحكمة، أو المعرفة التراكمية، ونحن نرى أن هناك تفسيرات كثيرة كلٌّ
منها يلغي الآخر؟ هل هذه التفسيرات تعتبر مثانٍ؟
تفسير آيات القرآن لا يمكن أن يتم إلا في وجود منهج علمي
لفهم اللفظ القرآني، وفي حالة عدم وجود منهج علمي متكامل لا يمكن الادعاء بالقول
أننا وصلنا المثنى الأول.لقد كان تفسير القرآن، في السابق، قائم بالأساس على فهم مدلول الكلمات لدى الإنسان
الذي عاصر نزول القرآن، وهو فهم ظاهري لم يغوص في معاني الكلمات والحالات التي
تصفها هذه الكلمات بدقة.
كل مفسر حاول قدر استطاعته استنباط مفاهيم معينة ، لم تكن قائمة على منهج علمي؛ بل كانت
قائمة بالأساس على قدرة المفسر المعرفية.
هذه الطريقة في فهم اللفظ القرآني طريقة بدائية تماماً، لا تتناسب وآيات الله
وخصوصاً ونحن اليوم لدينا طرق علمية لتحليل الظواهر وحل المشكلات ، بل وقادرون على
إيجاد منهجية دقيقة من خلال الملاحظة وفرض الفرضيات واختبار هذه الفرضيات.
لا شك أن هناك بعض الإرهاصات التي تبشر بتبلور منهج متكامل
قريباً. ولكن دون تكاتف الجهود، ودون وجود دعم كبير، لا يمكن أن يتبلور هذا
المنهج. بمجرد تبلور منهج علمي سليم لفهم اللفظ القرآني سوف نكون قد وضعنا يدنا
على فهم المثاني التي يحويها القرآن.
الأمر يشبه إلى حد كبير فهم تركيب المادة؛ إذ إن محاولات
فهم تركيب المادة لم تتوقف منذ فجر التاريخ، ولدينا مجموعة من الأفكار عن تركيب
المادة منذ زمن الإغريق، ولكنها كلها تصب في خانة وجهات النظر الشخصية، والتصورات
الذهنية، وأفكار فلسفية لا تقوم على منهج علمي محدد.
أول نموذج قائم على تجربة علمية لفهم تركيب الذرة، كان
نموذج جوزيف طومسون، الذي اكتشف من خلاله وجود جسيمات مشحونة بشحنة سالبة أخذت اسم
إلكترون فيما بعد. من هذا الوقت أصبحت المعرفة تراكمية؛ لأنها قائمة بالأساس على
طرق علمية، بحيث تم الغوص أكثر وأكثر لفهم الجسيمات، حتى وصلنا اليوم إلى نظرية
الأوتار الفائقة. هذه المعرفة المذهلة هي معرفة تراكمية؛ إذ كل خطوة تعتمد على
الخطوة التي تسبقها، ولا يمكن لها أن تعتمد على الخطوة التي تسبقها إلا إذا كان
هناك منهج علمي متبع، وطرق بحثية سليمة لتتبع هذه المعرفة.
السبع المثاني هي سبع طبقات من المعرفة والحكمة في آيات
القرآن، لا يمكن الجزم بأننا على أعتابها إلا من خلال طرق بحثية سليمة، لا تخضع
لوجهات النظر. قد يكون هناك أفذاذ جاؤوا في أزمان مختلفة، و استطاعوا النفاذ إلى
الحكمة، ولكن تبقى معرفة عرضية، وليست منهجية.
المعرفة التراكمية هي سنة الحياة، ولكن غياب المنهجية في
فهم اللفظ والآية القرآنية جعلها في أغلب الأحيان معرفة تصادمية، وهذا هو القول
المتعارف عليه بين العامة، وخصوصاً لدى التيار الداعي للتجديد. التيار الذي يستمسك
بالنص مقابل العقل والفهم الأول هو تيار لن يقتنع ولن ينفع معه منطق؛ لأنه قَبل ما
قَبل دون منطق، فهم تيار خارج الحسابات.
الإشكالية في التيار الذي يرى أن العقل وسيلته لفهم النص
واستخراج الحكمة منه؛ فكثير من أرباب هذا التيار يعتقدون أن المعرفة تصادمية؛ إذ
يمكن أن تأتي معرفة تلغي المعرفة السابقة، ولكن الحقيقة هي أن المعرفة تراكمية،
ويجب أن تكون كذلك؛ لأن مفهوم السبع المثاني يشير إلى ذلك.
الآية الثالثة والرابعة: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ
مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (سورة الحجر: آية 88).
هذه الآية توجيه لمن يسلك طريق المعرفة ألا يثنيه عن هذه المعرفة
أي مغريات؛ لأن سنة الحياة هي أن كل فكرة جديدة غير سائدة أو معنى غير مألوف لن
يتم قبوله بسهولة، لذلك في الغالب يهلك الباحثون عن المعرفة قبل أن يروا ثمرة
معرفتهم. التوجيه القرآني هو السير في الطريق دون الالتفات إلى المتع التي بين
أيدي الآخرين، وخفض الجناح واللين مع المؤمنين الذين يقبلون المعرفة الجديدة.
تأتي الآية الرابعة لتضع النقاط على الحروف وتنبه إلى أن
الباحث عن المعرفة ليس عليه هدى أحد، وإنما ينذر بقدر ما آتاه الله، ويبلغ ما آتاه
الله من علم فقط لا غير. فكرة أن يؤدي الإنسان دوره دون النظر لحسابات أخرى، أو
دون التعلق بالنتائج، هي فكرة مريحة؛ إذ إنّ أكثر ما يقلق ويربك الإنسان هو ظنه
أنه يقول ولا أحد يسمعه، فجاءت الآية الكريمة تطيب خاطر الذين يتدبرون. الإنسان
الذي يفتح الله على يديه ما هو إلا نذير، وبالطبع لن يكون هذا النذير مبيناً إلا
إذا وافق ما يقوله المفاهيمَ العقلية، وليست مجرد أقوال من هنا وهناك لا تستقيم
ولا تتماسك.
(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ)
(سورة الحجر: آية 89).
الآية الخامسة والسادسة: (كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى
الْمُقْتَسِمِينَ (90)الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ
(91))(سورة الحجر: آيات 90-91).
المقتسمون هم الذين اقتسموا أمراً ما قسمين، بحيث فرقوا بين
المتشابه منه وهو المعنى الظاهر، والمثاني التي تحوي الحكمة في طياتها. هذا الصنف
من الناس هو الصنف الذي يتمسك بالظاهر من التفسير، أو بالذي وجد عليه آباءه، وإذا
تعامل مع المعاني الباطنة أو الحكمة، تعامل معها في أحسن الظروف على أنها فلسفة
وليست حقيقة. ربما يكون هذا الاستخفاف بمكنون الآيات راجعاً بالأساس إلى عدم وجود
منهج علمي للغوص في الآيات الكريمة، وربما يكون بسبب التحيز المعرفي للماضي.
الآية التالية تلقي مزيداً من الضوء على هؤلاء المقتسمين،
إذ أخبرنا الله أنهم الذين جعلوا القرآن عضين.
قال المفسرون معنى (جعلوا القرآن عضين) أي يشبه العضات
المتفرقة، بينما جذر كلمة (عض) يعني الإمساك بالشيء بقوة.
من هنا يمكننا القول إن الذين جعلوا القرآن عضين هم
المتمسكون بقوة بجزء منه رافضين الجزء الآخر. وبما أننا نتحدث عن السبع المثاني
فيبدو جلياً أن الصراع قائم بين أصحاب المتشابهات والتفسيرات الظاهرية والذين
يحاولون النفاذ إلى المثاني.
كيف لمن جعلوا القرآن عضين أن يدركوا أن الحكمة تتفجر من
بين ثنايا الآيات، وأنها حكمة متراكبة وطبقية، وليست الغائية؟
عندما يرفض بعضهم المعاني والأفكار الجديدة التي تحملها
كلمات الله، والتي تكون موافقة للمفاهيم العقلية، في مقابل مفاهيم متوارثة غير
منطقية، فعليهم الاستعداد للسؤال عن سر هذا التمسك ورفض العقل:
(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)) (سورة الحجر: آيات 92-93).
باقي الآيات تتحدث عن أولئك
المشركين الذين استبدلوا كلام الله بكلام غيره، وجعلوا كلام بشر فوق كلام الله. لن
ينتهي هذا الجدال، وسوف يستمر ما دامت الحياة، بين مشركين مستمسكين بما وجدوا عليه
آباءهم مقابل مفاهيم عقلية واضحة وضوح الشمس، وأصحاب المعرفة والحكمة.
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ
يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ
(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99))(سورة الحجر: آيات 92-99).
الاستهزاء هو سمة رئيسة لدى فقراء المعرفة تجاه الأفكار غير
السائدة، وغالباً ما تتم من كهان المعرفة القديمة، أو لأنهم بطبيعتهم البشرية لا
يرغبون في الظهور كأغبياء وجهّال، فيتم تحويل الأمر إلى استهزاء ونبرة سخرية، لا
تنم إلا عن مزيد من الجهل، ولا تزيدهم إلا شركاً على شركهم.
التوجيه الإلهي السليم هو الإعراض عن هؤلاء والاقتراب أكثر
من الله، والقيام بالمسؤوليات الملقاة على العاتق، حتى يأتي اليقين. أصحاب المعرفة
غير السائدة دائماً ما يعتريهم الشك، وهذه ميزة كل أصحاب العلم، بينما الجهال
لديهم ثقة غير عادية بما يقولون، اكتسبوها من الميراث ومن المجموع الذي يقول مثل
ما يقولون.
فهْم أنماط البشر المختلفة،وفهم سنن الحياة في التعامل مع
المعرفة الجديدة مريح لكل أصحاب الأفكار غير السائدة، وعما قريب وقريباً جداً سوف
ينظر كل إنسان مكانه. فإما مجتهد يسعى إلى الله بكل قوة ذاكراً ربه، وإما أعمى لا
يبصر فهو كذلك في الآخرة.
يمكننا إيجاز مفهوم السبع المثاني في جملة بسيطة، وهي سبع
مستويات أو درجات من الحكمة، تنطوي عليها آيات القرآن العظيم. مفهوم رحمة للبشرية
يفسر لنا لماذا لا يعلم أحد تأويل كتاب الله إلا الله؟
لأن المعرفة تراكمية، وليست نهائية قطعية، كما يصر العامة
وأرباب التاريخ. سبع مثانٍ مطروحة أمام البشرية لينهلوا منها كيفما شاؤوا، فهنيئاً
لمن تدبر وتفكر و ادكر، وتعساً لمن في كل موطن لا يعقلون.
مفهوم السبع المثاني هو مفهوم الحركة مقابل الجمود،
والتسبيح مقابل السكون، والعجيب أن مفهوم الآيات التي ألقت الضوء بشكل كبير على
مفهوم السبع المثاني جاءت في سورة الحجر. فما دلالة ذلك؟
سورة الحجر
مسمى السورة نفسه يقودنا مباشرة إلى المقصود، إذ إن مسمى
السورة يعني الجمود والتحجر. رغم أن التفاسير قالت أن أصحاب الحجر هم أصحاب
الوادي، أو أنهم قوم نبي الله صالح، إلا أن معنى الحجر وهو المنع والتصلب يشير إلى
أن الحجر كان صفة هؤلاء القوم. معنى أصحاب الحجر أي الملازمون للتحجر أو التصلب أو
الذين يرفضون الحركة والتجديد. إن كان هناك قوم في الماضي انطبق عليهم مفهوم أصحاب
الحجر فإن هذا النمط هو نمط فكري متكرر، يجمعهم جميعاً التحجر والتصلب ورفض
التجديد.
هذا النموذج هو نموذج يكشفه ويبين عورته مفهوم السبع
المثاني. كلما بانت آية أو حقيقة من آيات الله ستجد أصحاب الحجر في كل زمن يناصبون
هذا التجديد العداء. لدينا خمس عشرة آية في بداية سورة الحجر تعطينا لمحات ثرية عن
تصرفات أصحاب الحجر وأهم سماتهم:
(الر
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1) رُّبَمَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا
وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ
مَّعْلُومٌ (4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ
(6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا
نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ (8)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن
رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي
قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ
فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا
إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15)) (سورة الحجر: آيات 1-15).
مرة أخرى حقيقة لا جدال فيها، آيات الكتاب هي آيات القرآن
كما بيَّنا من قبل، وهنا أضيفَ القرآن إلى لفظ (مبين)؛ لندرك جرم أصحاب الحجر أو
الكافرين. (الكافر) في العموم هو الذي ينكر الحقيقة مع وضوحها لسبب ما، و(أصحاب
الحجر) هم نوع من الكافرين الذين يرفضون الدليل والبرهان الواضح؛ بسبب طبيعتهم
المحافظة، أو قُلْ بسبب جمودهم، ورفضهم حركة الحياة.
هؤلاء لا يدركون حجم المصيبة الواقعين فيها، ولن ينتبهوا
بسهولة، وسوف يسرق الأمل أعمارهم وهو لا يدرون. غالباً هؤلاء المستمسكون لديهم ثقة فيما يعتقدون، ثقة تصل بهم إلى وصم
مخالفيهم بالجنون أو بالضلال، وهو دفاع نفسي يفعله هؤلاء بشكل طبيعي؛ لأن اختراق
أفكارهم وبيان خطئه له تأثير مدمر عليهم.
إنهم يتعاملون مع الأفكار بشكل شخصي، ويرون أن خلخلة هذه
الأفكار هو تهديد وجود، فلا بد أن يشنوا على هذه الأفكار وعلى حامليها حرباً لا
هوادة فيها. رغم وضوح الآيات والدلائل تراهم يبحثون عن شيء أكبر، وكأنهم حرفياً
يريدون أن تتنزل الملائكة وتكلمهم. لا يكفيهم البرهان والدليل الساطع، وهم دائماً
في ريب حتى تنتهي آجالهم وهم لا يؤمنون. إنه العناد القاتل والمدمر، والذي يقود
للغفلة، وتخبرنا الآيات أن الملائكة بالفعل تتنزل، ولكنهم غير منظورين.
أن تطرق المعارف آذان هؤلاء، وأن تُعرض الأدلة أمامهم هو
نوع من الرحمة، ولكن هؤلاء في الغالب لا يدركون هذه الرحمة؛ بسبب التصلب والجمود
الذي يعانونه. النعمة التي تُدرك أصحاب الحجر أيضاً هي نعمة حفظ الذكر، والذي
يمكنهم من خلال حفظه مقارنة وقياس ما لديهم عليه، ولكنهم لا يفقهون. حتى إذا
جاءتهم الآيات واضحة لا تقبل الشك تجدهم ينزعون إلى معتقداتهم القديمة، ويفضلون
البقاء عليها، كنوع من الأمان النفسي.
إنها سنة من السنن الكونية، أنّ هؤلاء الكافرين طالما لا
يرغبون في تصحيح مفاهيمهم ستجدهم يستهزؤون. هذه الآيات تصف بدقة شديدة تعامل هؤلاء
مع الآيات التي تتكشف أمامهم، وكيف أنهم يقابلونها بالاستهزاء. ولعل أشهر عبارات
الاستهزاء هي التي تجدها على ألسنتهم في كل زمان، وهي: هل جئت بما لم يأتِ به
الأولون؟
أو كما بينت الآيات في بدايتها: إنك لمجنون. إنها أنماط
متكررة في كل وقت، فإن كان أسلافهم فعلوا ذلك مقابل التنزيل، فهم على خطاهم مقابل
التأويل. جمود هؤلاء يمنعهم من الإيمان والتصديق، ولديهم مقابل كل دليل وبرهان
تصور ذهني يمنعهم من التصديق، حتى لو جئتهم بكل آية.
من أغرب ما سمعت رداً على بعض المقالات التي أكتبها هو رأي
أحد هؤلاء؛ أن المقال يستخدم المنطق والعقل في دس السم في العسل. المسكين اعترف أن
المقال يستخدم العقل والمنطق، ولكنه لم يبين أين السم في العسل غير أنه يخالف ما
تربى عليه وألفه. إنه الدفاع الذاتي عمّا يعتقد، رغم أنه يقر في نفسه بالمنطق
والعقل، ولكن الجمود الذي ورثه وترعرع فيه يمنعه من الإقرار بالحقيقة، فتراه ينزع
إلى الإنكار بكل السبل المتاحة لديه.
لا يمكن لأصحاب الحجر الإقرار بمفهوم (المثاني)؛ لأنه
ببساطة شديدة إقرار يحتاج لجهد ومتابعة وفرز مستمر، لبيان الصواب والخطأ، و هؤلاء
المتحجرون يريدونها سهلة مريحة، بدون مجهود اذهنياً مكلفاً. لماذا يفكرون وقد
كفاهم غيرهم هذه المؤنة؟ ولماذا يراجعون ويختبرون هذه الأفكار وهم مشغولون بأشياء
أخرى، من وجهة نظرهم أكثر اهمية؟.
لا يعلم هؤلاء أن كل يوم تقام فيه عليهم الحجة، وتطرق بابهم
المعارف، وتمثل أمامهم الأدلة، وتتنزل الملائكة إن تدبروا، ولكن هيهات أن يفهم
هؤلاء الدور المناط بهم، وكيف لهم أن يؤدوا دورهم الذي عليهم في استكشاف الحقيقة،
أو على الأقل في قبول الحقيقة؟
الآيات الكريمة التي تحدثت عن السبع المثاني في آخر سورة
الحجر، سبقها آيات كريمة تناولت أصحاب الحجر بشكل مباشر، وكيف تعاملوا مع آيات
الله.
(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ
الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(84) وَمَا خَلَقْنَا السَمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا
بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)) (سورة الحجر: آيات 80- 85).
بطريقة مباشرة تقص علينا الآيات كيف كان تصرف أصحاب الحجر
مع آيات الله، وكيف كان الإعراض هو سيد الموقف لديهم. هم منشغلون بالحياة، مطمئنون
بها، لا يريدون أن تشغلهم متاعب الأفكار الجديدة، ينأون بأنفسهم عن المجهود العقلي
المكلف.
لقد اكتملت الصورة الآن، وعلمنا لماذا لم يرسل الله أنبياء
وكتباً في كل أمة لتنال الأجيال الجديدة نصيبها كما الأجيال القديمة؛ لأن تكامل
القرآن على أنه كتاب قابل للقراءة المستمرة، ومحتواه المعرفي العميق المتمثل في
السبع المثاني، هو البديل لتأخذ كل أمة نصيبها غير منقوص، وليعاني كل جيل اختبارًا
حقيقيًا، الجميع فيه متساوون.
الآن يبرز سؤال غاية في الأهمية، وهو كيف يمكن للإنسان
التعامل مع مفهوم السبع المثاني؟ وهل كل إنسان عليه واجب استخراج المعاني بنفسه؟
الفصل القادم سوف نتعرض لمفهوم شديد الأهمية، وهو مفهوم النبي وسوف نحاول الإجابة على كل الأسئلة المطروحة في الفصول القادمة.
Comments
Post a Comment