الفصل الرابع - هل من مدكر
الفصل
الرابع هل من مدَّكر
من المفاهيم التي لاقت تشويشاً كبيراً هو مفهوم الذكر، حتى
لا تكاد فرقة أو طائفة إلا ولها مفهوم خاص بالذكر. ما هو الذكر؟ لماذا لا يذهب الناس مباشرة إلى كتاب الله
لاستخلاص هذا المفهوم العظيم بدلاً القيل والقال؟
مفهوم كمفهوم الذكر ليس نزهة، وليس تعبيراً عادياً يمكن
تجاوزه؛ بل هو قلب هذا الكتاب الذي أنزله الله على رسوله حرفياً. لنحاول في
البداية فهم جذر كلمة (الذكر)، وترتيل الآيات الكريمة التي ذكر فيها لفظ (الذكر).
مادة (ذكر) في اللغة تعني حفظ الشيء، وهي خلاف النسيان،
هكذا دون تعقيدات لغوية. الآن دعونا ننطلق لكي نصف مشتقات لفظ (ذكر) بناء على فهم
جذر الكلمة، ثم ننطلق لفهم آيات الكتاب التي ذكر فيها لفظ الذكر.
الذكر بوصفه اسماً؛ هو الشيء
المحفوظ الذي لا يتغير. لو حاولنا الغوص أكثر لفهم ما هو الشيء المحفوظ الذي لا
يتغير، سوف ندرك أن لفظ (الذكر) يعني الأشياء الثابتة. لو أردنا أن نأخذ خطوة
للأمام فسوف ندرك أن الذكر هو الحقائق، وأهم صفات الحقائق الثبات وعدم التغير. كل
ما هو متغير لا يصح أن نطلق عليه ذكراً، وإن أطلقنا عليه لفظ ذكر فهو خطأ يجب تصحيحه.
لذلك (الذكر) في كتاب الله يعني الحقائق الثابتة التي وضعها
الله، ولا يجري عليها التغيير. فلو نظرنا لكل آيات الكتاب فسنجد أنها كلها آيات
ذكر؛ أي أنها حقائق. الأقدار التي تحرك الكون جميعاً (ذكر)، الأحداث التي حدثت
وقصها ربنا في الكتاب هي (ذكر)؛ لأنها وقعت، وتم وصفها بشكل حقيقي. لفظ (ذكر) ينفي
تماماً أن يكون هناك آيات تم نسخها في كتاب الله، أو تم تغييرها، كما يدعي بعض
الذين لم يصلوا بعد لمعنى الذكر.
جميع الآيات
اللفظية وما تحمله من حكمة هي
الحقيقة؛ ولذلك كل القائلين بأن هناك أوصافاً على سبيل المجاز في كتاب الله عليهم
مراجعة هذا الطرح. إن كان هناك بعض الآيات تبدو وكأنها ذات تعبيرات مجازية فهذا
فقط لأننا لم نصل إليها بعد، ولا يعني أنها غير حقيقية. لا أقصد فقط أن الذكر هو
الآيات الكونية أو الأحداث، بل إنني أقصد تماماً بعداً أعمق بكثير؛ وهو أن كل مسمى
وكل تعبير في كتاب الله هو ذكر لأنه يصف حقيقة ثابتة، وليس مجرد اسم لا يعلل.
عندما قمنا ببيان الفرق بين القرآن والكتاب، وقلنا أن جميع
الآيات في كتاب الله هي آيات قرآن للقارئ، وجميعها كذلك آيات كتاب للمؤمن بها؛ فهي
كذلك جميعها آيات ذكر في حقيقتها.
سوف أعطي بعض الأمثلة على بعض الآيات في كتاب الله، التي
تحمل الحقيقة المطلقة، واليقين بأن كل آيات الكتاب هي آيات ذكر، ولكن عدم قدرتنا
على فهم الحقائق التي تحملها هو عائد بالأساس إلى قدراتنا المعرفية المتواضعة.
الأمثلة التالية ليست أمثلة بشكل قاطع؛ وإنما هي تحت
الاختبار، وتحتاج لجهد كبير لبحثها، ولكن سوف أسجل فقط بعض الأفكار حولها بشكل
بدائي للغاية؛ لتوضيح فكرة الذكر، وأن آيات الكتاب لفظاً ومعنىً هي ذكر؛ أي تحمل
الحقيقة المطلقة.
المثال الأول: في الجزء الأول من سلسلة كتاب تلك الأسباب
قدمت قصة زواج رسول الله من زينب بنت جحش، وكيف أن التعبير القرآني (اتق الله)
الذي ذكره القرآن على لسان رسوله إلى زيد، كان دليلاً على أن زيداً في معاملته مع
زينب كان لا يتقي الله.
(وَإِذْ
تَقُولُ لِلَّذِىٓ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ
عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا
لِكَىْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِىٓ أَزْوَٰجِ أَدْعِيَآئِهِمْ
إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ
أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولًا) (سورة الأحزاب: آية 37).
هذه الآية ورد فيها اسم زيد، وقد أوردت ملاحظة في الفصل
الخاص بها؛ إذ يبدو أن اسم زيد نفسه يصف صاحبه وصفاً حقيقياً، وليس مجرد تسمية دون
دلالة؛ لأن طبيعة الكتاب هي الوصف الحقيقي لجميع المسميات فيه. لذلك أشرت إلى أن ذكر اسم زيد يشير إلى أن هذه
الشخصية لديها زيادة في فعلها وردة فعلها، وربما هذا هو السبب المباشر في وقوع
الطلاق وفي استحالة العشرة بينه وبين زوجه.
المثال الثاني: تحول اسم الرسول صلوات ربي عليه من أحمد
عندما ذكره نبي الله عيسى، إلى محمد عندما أرسله الله.
كنا قد تحدثنا عن الفرق بين اسم أحمد واسم محمد في الجزء
الثالث من سلسلة كتب تلك الأسباب وأشرنا إلى كيف أن لفظ أحمد ولفظ محمد وصف حقيقة
الاسم وليس الاسم الذي نعته به الناس وقد تطرقنا لفهم لفظ الحمد ذاته وعلاقته
بالطاقة الحرارية تحديدا لذا يرجى مراجعة هذه النقطة في الجزء الثالث- الطور-فصل
قريش.
بعض الكتابات زعمت أن رسول الله صلوات ربي عليه لم يكن اسمه
محمد بالأساس؛ وإنما كان اسمه قُثم، وهذا الفرض طرحه بعض المستشرقين، أمثال
الألماني تويودور نولدكه، في كتابه "تاريخ القرآن"، والمستشرق النمساوي
لويس سبرنجر في كتاب "عن سيرة الرسول الكريم"، والمستشرق الفرنسي هرتويغ
درنبرغ، والمستشرق الإيطالي الأمير ليون كايتاني في كتابه "حوليات الإسلام".
المسألة غاية في البساطة، ولا يجب أن تشغل تفكير أي متدبر،
سواء كان اسمه محمداً منذ ولادته، أو اسمه قثم، فالقرآن نعته باسم محمد، بمعنى أنه
يحمل صفات وخصائص الاسم بشكل صحيح، والقرآن ذاته سماه أحمد عندما كان غائباً، وهذا
يحيلنا إلى أن الأسماء في القرآن بأنها
تصف الحقائق، ولا تصف ما يعتقده الناس، وهو الذكر الذي قال عنه ربنا.
لو ثبت بشكل علمي لا يقبل الشك أن اسم الرسول قبل الرسالة
كان قثم، وأن اسم محمد جاء بعد نزول القرآن؛ فهذا لا يزيدنا إلا إيماناً بأن
القرآن كتاب الذكر المجيد، وأن ألفاظه حقيقية، تصف الأشياء على حقيقتها. لقد جاء
أيضا في فهم لفظ محمد ولفظ أحمد أن الاسم يتعلق بالوحي والتفاعل الذي أنتج هذا
الوحي وقلنا أن صيغة أحمد هي صيغة تفضيل وان لفظ الحمد ذاته هو لفظ متعلق بالطاقة .
من الإشارات الجيدة في هذه الجزئية هو أن التعبير القرآني( اسمه احمد ) يعني صفته أو
سمته أحمد وذلك يعني أنه أكثر استقبلًا للفيض الإلهي وليس اسم شخص.
أحمد الذي جاء في القرآن يشبه
لفظ أفضل أو أحسن وهي صفة وليس اسم شخص. يمكن مراجعة فصل قريش في الجزء الثالث _
الطور للوقوف على الشرح المفصل لهذه الجزئية.
المثال الثالث: اسم نبي الله إبراهيم المذكور في كتاب الله.
مدلول إبراهيم في العربية هو أبو الجمهور أو الجماعة، ويقال
أنه مأخوذ من كلمة أبرام، ومعناها الأب أو رفيع المقام. مدلول إبراهيم عند الكرد
مركب من (بر) وهو الأخ، و(هام) وهو الصخر، بمعنى أخو الصخر. ويُعتقد أن هذا المعنى
جاء من صنعة أبيه وعمه، وهي نحت الصخر لصنع التماثيل.
بالطبع هذه الأسماء
شقت طريقها إلى فهم كلمة إبراهيم، وصارت معرفة معتبرة؛ بسبب عدم إدراك
مفهوم الذكر، وكيف أن الكلمات والتعبيرات في كتاب الله هي حقائق مطلقة.
عندما نطبق قاعدة الذكر على اسم إبراهيم فسوف نحاول بحثه
بشكل مختلف، وقد يكون الاسم مكوناً من مقطعين (إبرا) وهو من البراءة، ومقطع (هيم)
وهو من الهيام أو السياحة، وعلى ذلك وبناء على الأحداث التي قصها القرآن عن رسول
الله إبراهيم، يمكننا القول أن اسم إبراهيم يصف الشخص الذي تبرأ وتخلص من كل
الموروث في زمنه، وذهب هائماً باحثاً عن الحق.
كثير من الباحثين في التاريخ يظن أن القرآن شيء والأحداث
التاريخية شيء آخر، أو أن القرآن عبارة عن استعارات، ومجموعة من التعبيرات
المجازية؛ بسبب عدم ذكر أيٍّ من الأنبياء في المصادر التاريخية بأسمائهم، سوى في
نصوص العهد القديم والجديد.
ذكر أسماء الأنبياء والمرسلين من خلال كلمات الله لابد أن
يكون ذكراً حقيقياً؛ لذلك قد يكون شخصية نبي الله إبراهيم في التاريخ لها اسم
مختلف، بفرض أن التاريخ عاصرها، ولكن عندما يذكرها الله في كتابه لابد أن يذكر
الاسم الحقيقي الذي يصف المسمى بشكل كامل وتام.
على هذا المنوال نجد أن هناك أبعاداً مختلفة من المعرفة،
يمكن استنتاجها من خلال تطبيق مفهوم الذكر على كل ما أنزل الله.
مفهوم الذكر، أو الشيء المحفوظ والذي لا يتغير، هو أعظم
النعم التي يمكن أن ينالها الباحث، وهي أعظم نعمة للإنسان بعد عصر النبوة. هل
يقدِّر الناس المتحدثون بالعربية هذه النعمة، وهذا الكنز الثمين. كتاب يحمل حقائق
ثابتة لا تتغير، يمكن أن يغير وجه المعرفة، لو استطاع الإنسان الانطلاق منه نحو
البحث والعلم.
لقد جاء لفظ الذكر مرافقاً للفظ القرآن في موضعين من مواضع
كتاب الله، دلالة على الارتباط الوثيق بينهما، فالذكر إذا كان يحمل الحقائق،
فالقرآن هو ما سوف يبينها:
(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا
يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) (سورة يس: آية 69).
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (سورة ص: آية
1).
هل هناك نعمة أفضل من ذلك، ذكر يحمل الحقائق بكل عمقها، ونص
يقبل القراءة باستمرار، ومع ذلك تم تشويه هذه المفاهيم، وصار القرآن لا يمثل سوى
رمز خالٍ من المعنى، وصار الذكر تمتمةً لبعض الأقوال.
مجرد وضوح مفهوم الذكر؛ وهو الحقائق الثابتة التي لا تتغير،
وضَّحَ لنا مفهوماً في غاية الروعة؛ وهو مفهوم (هل من مدكر) الواردة في ست مواضع
في سورة القمر:
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن
مُّدَّكِرٍ) (سورة القمر: آية 17).
عندما حاول المفسر فهم لفظ (الدكر) بالدال جاء بالعجب، وهذا
ملخص لما قيل في لفظ (الدكر):
دكر هو الذِّكْرُ، لَغُة لِرَبِيعَةَ، وهو غَلَط حَمَلَهُم
عليه ادَّكَر، حكاه سِيبويْهِ ونَفَاه ابن الأَعرابيِّ، وقال اللَّيْث بنُ
المُظَفَّر: الدِّكْر ليس من كلام العرب، ورَبيعةُ تَغْلَطُ في الذِّكْرِ فتقول:
دِكْرٌ، بالدَّال.
أمَّا قَولُ اللِه تَعَالَى: ( فَهَلِ مِنْ مُدَّكِر) عن
أبَي الأَسْوَدِ قال: قلْت لعَبْدِ الله: فهَلْ من مُذَّكِر ومُدَّكر، فقال:
أَقرَأَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُدَّكِر، بالدال. وقال الفَرّاءُ.
ومُدَّكِر في الأَصْل مُذْتَكِر على مُفْتَعِل، فصُيِّرت الذَّالُ وتَاءُ
الافْتِعَالِ دَالاً مُشَدَّدَةً، قال: وبَعْضُ بني أَسد يقول: مُذَّكِر، فيقلبون
الدالَ فتَصِير ذَالاً مُشدَّدَةً، كذا في اللِّسَان.
أحد أساتذة اللغة يقول " أن الجذر هو (ذ/ك/ر) والبناء
مُفْتَعِل، والأصل مُذْتكِر.الذال مجهورة، ومخرجها بين الأسنان، والتاء مهموسة،
ومخرجها أصول الثنايا وطرف اللسان، و لتسهيل النطق بالحرفين حدث تماثل تبادلي بين
الصوتين؛ فأثرت الذال بجهرها في التاء، لتتحول إلى تاء مجهورة فتسمع (دالاً)، وأثرت
التاء بمخرجها في الذال لتكون لثوية أسنانية، لتسمع (دالاً)، وهكذا تجاورت دالان،
تنطقان بلقاء واحد لأعضاء النطق، وهذه آلية الإدغام."
من الملاحظ أن هناك استماتة في فهم اللفظ تبعاً لمدلوله عند
القبائل، ولم يضع المفسر أي احتمال لانحراف لسان هذه القبائل. فإذا لم يجد المفسر
مدلول اللفظ عند قبيلة ما ذهب كل مذهب، وفتش في ألسنة القبائل الأخرى، دون أي
محاولة حقيقة لفهم اللفظ من خلال القرآن نفسه، ومن خلال التعبيرات القرآنية. حتى
نكون منصفين فإن القدرة على القياس والمقارنة هي قدرات ليست هينة، وليس لكل أحد أن
يستطيع التعامل معها. ولعل هذا ما يفسر كيف أن الباحث غالباً ما يذهب للسان المحلي لفهم مدلول
الكلمة، دون مجهود القياس والمقارنة والتحليل.
هل تعلم أن هذه التفاسير وهذه التأويلات تُخرج القرآن من
كونه كتاباً ينطق بالحق، وكتاباً فيه الذكر، إلى ما يشبه الشعر أو النثر؟ وهذا ما
حدث بالفعل؛ فقد تعامل أغلب المفسرين مع القرآن وكأنه كتاب لأحد الشعراء أو رجال
القبائل، وليس كتاب رب العالمين، ورغم ذلك لا نتهم المفسر القديم بشيء، إلا بضعف
المعرفة.
الذين يقولون أن (دكر) بالدال ليست من لغة العرب، وأن الأصل
مذتكر؛ يقولون بكل أريحية أن الألفاظ لا تحمل أي حقيقة؛ أي ينفون بشكل صريح كونها
من الذكر الذي أنزله الله، ولا يدركون ذلك. عندما شكك بعضهم في كونها (ذكراً) أو
(دكراً بالدال)، جاء الرد بأن رسول الله قرأها هكذا (دكراً بالدال)؛ فدل ذلك على
أنها حقيقة وليست منقلبة، كذلك ليست للتخفيف؛ وإنما تحمل معنى يجب على الباحث بذل
الجهد للوصول إليه، خصوصاً أنها مرتبطة بالذكر.
يسر الله القرآن للذكر؛ أي لحمل الحقائق الثابتة التي لا
تتغير، وهذا معناه أن الألفاظ والتعبيرات، وكل ما يخص القرآن، إنما هو نظم يخدم
حفظ الحقائق. (هل من مدكر؟) لو أن الذي كتب القرآن بشرٌ لقال: هل من مذكر؛ لأنها
مناسبة لما قبلها، وليس مدكر، ولأن لفظ (مذكر) بحروفه لفظ قرآني جاء في سورة
الغاشية بتشديد الكاف:
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ) (سورة
الغاشية: آية 21).
هذا المثال يوضح الفرضية التي نسعى بكل السبل لتوصيلها لأهل
اللغة، وأهل التفسير، ورجال الدين، وكل المهتمين، بأن لغة القرآن لغة له خواص
مختلفة، وليست مثل لغة أهل الجزيرة بحذافيرها. لغة علمية تتبع منهجاً علمياً،
وليست عشوائية. سوف نحاول بذل قصارى جهدنا في فهم لفظ (مدكر) من خلال جذور
الكلمات، ومن خلال سياق القرآن، ومن خلال مقابلة اللفظ مع لفظ (الذكر) الذي جاء
معه في نفس الآية.
كما ذكرنا أن لفظ (الذكر) يعني الشيء المحفوظ، وهو
بالتابعية الحقائق التي لا تتغير، و الجذر الثنائي (ذك) يعني حدة ونفاذاً. لفظ
(ذكر) نفسه يحمل خاصية الحدة والنفاذ، أو ما يمكن أن نسميه بالعمق، وهو خاصية مميزة
للحقائق. الجذر الثنائي لكلمة (دكر) هو (دك)، وهو يعني التسوية والتسطيح، وهذا
يعني أن التسوية والتسطيح هو أحد خواص وصفات كلمة (دكر).
من خلال لفظ (ذكر) ومعناه الحقائق، التي لها عمق وحدة؛ أي
صرامة، على نحو لا تتغير؛ فإن لفظ (دكر) لا يتمتع بهذا العمق، ولكنه أيضاً يحمل
قوة وثباتاً، مثال ذلك قولنا: دك الشيء. فالدكر جزء من الذكر أو وجه من أوجهه.
والدكر يتميز بالقوة والثبات، ولكن ليس بعمق الذكر نفسه.
يمكننا الآن ترجمة هذه الآية العظيمة واستخراج هذه المعرفة
التي لا مثيل لها.
الله سبحانه وتعالى يسر القرآن لحمل الحقائق، بكل ما فيها
من عمق وصرامة، فهل للإنسان أن يدكر؟
أي يحاول كشفها أو حتى كشف أحد وجوهها. لأن الوصول للحقيقة
من أصعب ما يكون، بل النفاذ للحقيقة المطلقة يقارب المستحيل، لذلك يشير القرآن إلى
لفظ (مدكر)، وهو اللفظ المناسب للإنسان؛ لأن الإنسان في الغالب لا يرى الحقيقة
بكاملها، بل يرى منها جانباً واحداً، أو وجهاً واحداً بحسب تصوره الذهني عنها. حتى
وإن استطاع الإنسان الغوص بكل ما أوتي من قوة لفهم الحقيقة سيظل هناك جانب لم يصل
إليه بعد؛ ولذلك جاء اللفظ القرآني مستخدماً لفظ (دكر بالدال) ليدل على قدرة
الإنسان وطبيعته، ولم يستخدم لفظ (ذكر)؛ لأن قدرة الإنسان على النفاذ للحقيقة
بكامل علاقاتها تكاد تكون مستحيلة.
يجب ألا نغفل أن لفظ (الذكر) و(الدكر) هنا خاصين بالقرآن،
والحقائق التي يحويها القرآن، وهذا موافق تماماً للآية الكريمة، التي أرشد فيها
ربنا أنه لا يعلم تأويل هذا الكتاب إلا الله:
(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (سورة آل عمران: آية 7).
لفظ (دكر بالدال) جاء كذلك في سورة يوسف، ليوضح لنا الفرق
بين الذكر والدكر:
(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ
مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ
فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (سورة يوسف: آية 42). الذي نجا كان صاحب رسول الله يوسف في السجن،
وقال له يوسف اذكرني عند ربك. أن يذكر هذا الصاحب يوسف؛ أي أن ينقل موقف يوسف للملك؛ لأن الذكر هو استحضار المذكور بشكل صحيح
وسليم. لكنّ ما حدث أن الصاحب لم يذكر يوسف، ولكن عندما حدثت الرؤيا ادكر؛ أي
استدعى وجهة نظره عن يوسف، وقال مقولته: أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون:
(وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ
بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) (سورة يوسف: آية
45).
لو أن هذا الصاحب تذكر لكان نقل للملك قول يوسف، وذَكره
عنده، لكنه لم يفعل، وبدلاً من ذلك ادكر؛ أي أن لديه صورة ذهنية عن يوسف، وعن رغبة
يوسف في أن يذكره عند ربه. ربما هذا الصاحب لم يتذكر الموقف تماماً؛ ولكن لا شك
أنه تدكر يوسف وتدكر قدرته على تأويل
الأحلام.
من هنا نجد أن لفظ
(يذكر) هو استدعاء الحقيقة، بينما لفظ (يدكر) هو قدرة الإنسان على الوصول
إلى الحقيقة، أو الصورة الذهنية للإنسان عن الحقيقة، والتي غالباً ما تختلف
باختلاف معارف هذا الإنسان.
ما أنزله الله هو الذكر؛ أي الحقائق المطلقة، والذي نحاول
نحن ونسعى إليه وما ندعي امتلاكه هو الدكر، وليس الذكر بمفهومه القرآني.
التعبير القرآني (مدكر) جاء خصيصاً مع القرآن، حتى لا يدعي
أحد امتلاك الحقيقة؛ لأن للقرآن طبيعة خاصة، كما بينا في أكثر من موضع.
إذن لفظ (الذكر) هو الحقيقة التي لا تتغير، فما هو مدلول
(ذَكر) على وزن فَعل؟
ذَكر تعني استدعى الشيء أو استحضره، فعندما نقول فلان ذكر
ربه يعنى استحضر ربه أمامه، وفلان ذكر يوم كذا يعني استحضر هذا اليوم من الذاكرة
أو استدعاه.
من هنا يصبح ذكر الله هو استحضار الله، واستحضار الله يكون
في القلب. عندما نقرأ في كتاب الله (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ) (سورة
الغاشية: آية 21). نجد أنها تعني حث الناس على استحضار الحقيقة؛ لأن مهمة المذكر
أو النذير هي تذكيرهم بالله.
يذكر الناس بالله؛ أي يحثهم على استحضار الله في قلوبهم، في
أثناء أفعالهم وأقوالهم. يذكِّر الناس بالقرآن؛ أي يحثهم على طلب قراءته وتدبره،
واستخراج معانيه. يذكر الناس بالقيامة؛ أي يحثهم على استحضار هذا اليوم وموقفهم
فيه. المعنى الشامل لذكر الله هو استحضار الله، أما ترديد عبارات معينة فهي حالة
خاصة جداً، ولو انفصلت عن القلب لا يصح أن تسمى ذكراً؛ بل تسمى قولاً أو ترديدا أو
تمتمة. الذكر هو الحقيقة، وذكر الحقيقة استحضارها واستدعائها، وليس فقط مجرد
ترديدها. عندما يريد المهندس تصميم شيء ما فهو يستدعي بعض القوانين لكي يطبقها في
عمله الذي يقوم به، ولو أن المهندس أخذ يردد القوانين، فلا شك أن عمله يصبح دون
فائدة، بل ضربا من الجنون. الذي صنع الطائرة ذكر قانون الجاذبية وقوانين
الديناميكا، ولو أنه جعل يردد أن السرعة تظل ثابتةً عندما لا تؤثِّر على الجسم قوة
محصلة (قانون نيوتن الأول) دون تطبيقه؛ فهو لاشك لن يصنع شيئاً.
مفهوم الذكر في القرآن يفسر نفسه، من خلال الآية الكريمة
التي مدح الله فيها من يذكر في سورة آل عمران.
(ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا
وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ
ٱلنَّارِ) (سورة آل عمران: آية 191).
الذكر هنا استحضار الله، وبما أن الحركات المذكورة في الآية
هي جميع الحركات التي يقوم بها الإنسان في حياته؛ لذلك أفضل الناس أولئك الذين
يستحضرون الله في كل أفعالهم وفي كل حركاتهم.
الموظف الذي يقوم على خدمة الناس، إذا استحضر الله سوف يؤدي
عمله بأكمل صورة، الطالب الذي يدرس إن استحضر الله سوف يدرس بمنتهى الجد، الباحث
إذا ذكر الله أثناء بحثه فلن يتوانى لحظة
عن عمل ما يجب عمله.
الذكر بمفهومه العظيم؛ وهو استحضار المذكور، سوف يصنع حالة
مراقبة مستمرة، ولا شك أن مردودها سوف يكون أعظم أثراً من أكثر أجهزة المراقبة
كفاءة.
كُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم اللّهِ عَلَيْهِ
من الآيات التي فُهمت بطريقة مغايرة لمعناها، الآية التي
جاء فيها (ذكر اسم الله)، والخاصة بالأكل في سورة الأنعام:
(فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم اللّهِ
عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) (سورة الأنعام: آية 118).
ذكر اسم الله عليه؛ أي استحضار الله وقت تجهيز ما يؤكل.
عندما تفاعلت المجتمعات القديمة مع هذه الآية كان من المنطق أن تدخل الذبائح التي
تذبح لغير الله ضمن هذه الآية؛ لأنها
ذبائح من تأثيرات الوثنية، وتدعم الشرك بالله.
أما اليوم، فإن مفهوم الذكر ومدلول (ذكر الله) يأخذنا لآفاق
أبعد بكثير من مجرد ذبائح لغير الله، أو مجرد ترديد قول باسم الله عند كل ما يؤكل.
رغم أن لفظ الأكل هو لفظ أشمل وأعم من لفظ الطعام إذا أن لفظ الأكل يشمل كل ما
يستخدمه الإنسان بغرض الاستهلاك، إلا إننا هنا سوف نلقي الضوء على وجه واحد من
أوجه هذا الأكل وهو الطعام. يمكن تعميم الآية بعد ذلك على كل ما يؤكل، أي ما
يستخدمه الإنسان لغرض الاستهلاك مثل الملابس والمال بغرض سد الحاجة.
كل طعام ليس فيه إتقان أو شبهة تقصير في أمر ما، فهو طعام
يدخل ضمن الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه؛ لأن تجهيزه لم يراعي الله ولم
يستحضره.
لكن كيف للإنسان أن يتتبع الطعام الذي لم يذكر اسم الله
عليه، ومن ثم يتجنبه، وهي عملية صعبة للغاية، بل ومستحيلة؟
التوجيه في هذه الآية توجيه مجتمعي، وليس توجيهاً بشكل
فردي؛ بسبب فعل (كلوا) الذي يخاطب الجمع. هذا معناه أن على المجتمع تأمين طعام
يذكر اسم الله عليه، وبمعنى آخر؛ طعام معد على درجة كبيرة من الإتقان، وسليم من
العيوب، وذو جودة وسلامة مضمونة.
اللجان التي تشرف وتفتش، سواء من وزارات الصحة، أو أي هيئة
رقابية، لتتأكد من أن الأغذية مطابقة للمواصفات هي في الحقيقة تطبق بشكل عملي
الآية الكريمة، بحيث تتأكد من صلاحية المأكولات، وأنه لم يشبها أي تقصير يسبب
تلفها أو عدم سلامتها.
لقد كانت هذه الآية مطبقة بشكل كبير في العصور الأولى في
الأمة الإسلامية، في شكل وظيفة المحتسب، الذي كان يتأكد من صلاحية الأشياء
وسلامتها.
التأكد من ذكر اسم الله على الطعام، أو ما نسميه نحن حاليًا
مراقبة الجودة؛ هو ضرورة ملحة في أي مجتمع سليم. المجتمع المؤمن بكتاب الله يتعامل
مع الأمر على أنه أمر إلهي؛ لذلك من المفترض أن يكون هناك حرص شديد عند تطبيقه.
الفرد المؤمن الذي يعد الطعام عندما يقرأ هذه الآية، ويفهم
معناها، لا يمكن أن يتجاسر على غش الطعام، أو استعمال مواد منتهية الصلاحية، أو
حتى مكونات رديئة؛ لأنه يعلم أنها مخالفة صريحة لأمر من أوامر الله.
كذلك المراقب الذي يراقب ويفتش على الطعام وأماكن إعداده
وتجهيزه لا يمكن أن يتساهل؛ لأنه سوف يكون واقعاً تحت مراقبة ذاتية صادرة من
ضميره، الذي قرأ و وعى هذه الآية الكريمة، بالإضافة إلى قوانين المجتمع التي
تجرِّم ذلك.
التعامل مع هذه الآية على
أنها دليل دامغ على عدم جواز أكل الذبيحة التي لم يقل ذابحها عبارة (باسم الله)؛
هو تسطيح للأمور بشكل كبير، بل وإهدار إرشاد قرآني عظيم في ضبط وإدارة المجتمع،
وخصوصاً فيما يخص الأغذية.
لو أن الإنسان الذي يباشر عملية الذبح قرأ على ذبيحته
القرآن كله، وهو يعلم أن ذبيحته مريضة؛ فهو ممن لم يذكر اسم الله، ولا يجوز أكل ما
ذبح. كذلك لو فعل الإنسان أي فعل من شأنه أن يتسبب في ضرر المستهلك هو في الحقيقة
لم يذكر اسم الله على هذا الشيء ولا يجوز أكله.
إنها آية تؤسس للرقابة على المأكولات والتأكد من أنها لا
تؤذي أحداً، ومراقبة الله أثناء تجهيز هذه المأكولات. التوجيه الرباني توجيه عام،
وعلى المجتمع أن يتعامل ويتفاعل مع هذا الإرشاد الإلهي، سواء بتأسيس الهيئات
الرقابية، أو بإصدار القوانين الصارمة التي تضمن جودة كل ما يؤكل.
لا يمكن أن يكون الذكر هنا مجرد قول؛ لأن الله سبحانه
وتعالى ذكر لفظ (القول) عندما أشار إلى صيغة الحمد في أكثر من آية.
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ
يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ
وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)
(سورة الإسراء: آية 111).
القول جاء صريحاً هنا، وبالطبع يختلف عن الذكر، ولا يقول
بتساوي اللفظين إلا ضحل المعرفة. كذلك الآيات التالية لهذه الآية الكريمة تشير إلى
أن الذكر هو حالة استحضار اسم الله، أو صفات الله، ومن صفاته كما نعلم الخبير
العليم القدير، وكل هذه الصفات أو المسميات تمنع الإنسان من الإضرار بغيره، إن كان
يعقل و يعي هذه الأسماء الحسنى لله.
(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسم اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا
مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا
لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ
وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ
سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ
يُذْكَرِ اسم اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ (121)) (سورة الأنعام: آيات 119-121).
الذكر كما نرى هو استحضار ما حرم الله، بحيث لا يقع الإنسان
في المحرم، مثل: المنخنقة، والمتردية، أو حتى المريضة، كما تم شرحها في آية ما ذبح
على النصب.
الآية 120 كذلك في سورة الأنعام تشير إلى وجوب ترك الإثم
ظاهره وباطنه، وما زلنا نتحدث عن عدم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه. الآيات توضح
حالة عامة من التحري قدر المستطاع، في أن يكون الطعام سليماً خالياً من كل ما يضر،
وخالياً من كل المحرمات.
الآية 121 تؤكد على حقيقة
الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وما عدا ذلك فسق. إذن الأمر ليس أمراً عادياً؛ بل هو
أمر عظيم، احتاج لكل هذا التأكيد، من خلال ذكره في أكثر من آية، وتوضيح أكثر من
حالة، ليس من بينها مجرد القول أو التلفظ؛ بل هي تحري الطيب من الطعام، والذي
يراعى فيه أوامر الله؛ من أن يكون سليماً معافىً لا يشوبه شائب يفسده.
مدلول الذكر في كتاب الله
سوف نلقي نظرة سريعة على بعض الآيات التي ورد فيها لفظ
الذكر؛ محاولين فهمها في ضوء ما مدلول الذكر القرآني:
الآية الأولى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (سورة الحجر: آية 9).
كما ذكرنا آنفا أن الذكر هو الشيء المحفوظ الذي لا يتغير،
فكل شيء لا يتغير وثابت هو في حقيقته ذكر. قوانين الطبيعية الثابتة ذكر، الأقدار
التي تسير كل شيء هي ذكر، كلمات الله هي ذكر؛ لأنها حقيقية لا تتغير. المقصود
بالذكر هنا في هذه الآية الكريمة هو الكتاب الذي أنزله الله؛ كلماته ومنطوقه
وتعبيراته وأحداثه، وجميع المعارف المختزنة داخله.
الآيات الخارقة للعادة ذكر، سواء على مستوى الحدوث؛ أي أنها
حدثت بالفعل، وعلى مستوى إمكانية حدوثها. هذه الآية تنفي نفياً قاطعاً أن يكون
التنزيل فيه نسخ، وتنفي وجود أي آيات معطلة فيه اليوم، بل هو حقائق ثابتة لا
تتغير، وقوانين عامة، من أهم خصائصها أنها محفوظة، ومن يحفظها من التغيير هو الله،
كما جاء في الآية. التعبير القرآني (إنا له لحافظون).
هذا التعبير القرآني ينفي أن يكون الذكر هو الأشياء
المحفوظة بذاتها؛ ولكنها محفوظة من قبل خالقها، كما نصت الآية. اقتصار الذكر على
شيء واحد، مثل: ألفاظ القرآن، أو المنطوق الصوتي للقرآن فقط؛ ليس عندي هو القول
الصائب، ولكن جميع التراكيب والمعارف التي يحويها القرآن هي الذكر؛ أي أنها حقائق
محفوظة لا تتغير. لذلك عندما أشرنا للنظريات العلمية في سلسلة كتب تلك الأسباب، والتي لم تُكتشف بشكل كامل؛ إنما
كانت إشارة لتلك الحقيقة الراسخة، وهي أن التعبير القرآني، والكلمة القرآنية،
والحرف القرآني، والسياق القرآني، يعبر عن الذكر؛ أي هو حقائق تامة وكاملة لا
تتغير
بناء على هذا المفهوم، لا يمكن الادعاء بأن سنة النبي صلوات
ربي عليه، هي الذكر المقصود في القرآن؛ لأن الذكر لا يقدر عليه سوى الله، ولا يمكن
لبشر التعبير عنه بشكل تام. لذلك القرآن كله ذكر؛ لأن التعبير عن أحداثه وحقائقه
جاء من قبل الله، ولا دخل للبشر فيه. النبي كما بيَّنا في الفصول السابقة يتفاعل
مع النص القرآني، فلا يمكن أن يكون تفاعله ذكراً؛ ولكن يمكن أن يسمى دكراً بحرف
الدال.
الذين ذهبوا إلى القول بأن المقصود بالذكر هو سنة النبي
صلوات ربي عليه، لم يقفوا على مفهوم الذكر في القرآن، ولو ردوا هذا اللفظ إلى كتاب
الله وتتبعوه، ما قالوا مثل ما قالوا.
الآية الثانية: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ
رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ) (سورة النحل : آية 43).
أهل الذكر هنا هم الذين يسعون لكشف الحقائق أو المتعاملون
مع الحقائق الثابتة.
(أهل الذكر) هم المؤهلين للتعامل مع الذكر
كما في التعبير المعاصر. فكل مجال هناك المؤهلون الذين يستطيعون بحث حقائقه،
واستنباط المعلومات منه.
الآية الثالثة: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) (سورة النحل: آية 44).
هنا أيضاً المقصود بالذكر هو مجمل كل ما جاء في القرآن، من
ألفاظ ومعانٍ وتعبيرات وأحداث، إشارة إلى أن ما أنزله الله هو حقائق ثابتة لا
تتغير.
الآية الرابعة: (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم
مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (سورة الأنبياء: آية 2).
في تفسير هذه الآية يقول المفسرون أن معناها: ما ينزل من
القرآن شيء إلا استمع الكفار هذا التنزيل وهم يلعبون.
لقد كانت هذه الآية الكريمة إحدى الآيات التي اعتمد عليها
القائلون بخلق القرآن، وأن القرآن ليس أزلياً؛ وإنما هو مخلوق، وقد بينا في فصل
سابق ما وراء هذه الفلسفة، وكيف أنها كانت صراعاً بين التجديد والفكر الأصولي. وها
هي هذه الآية الكريمة تضيف لنا معلومات جديدة، عن مفهوم الذكر ومفهوم القرآن.
هذه الآية تقول تحديدا: (ما يأتيهم)، ولم تقل: ما يتنزل
عليهم، وقالت: (من ذكر)، ولم تقل: من قرآن. ومن خلال فهم معنى الذكر نستطيع فهم
المقصود. كما قلنا أن (الذكر) هو الحقائق المحفوظة التي لا تتغير، وهي في كتاب
الله تشمل كل شيء، بما فيه من قوانين ومعاني خفية تتكشف يوماً بعد يومٍ بزيادة
المعارف.
هذه الآية الكريمة تخص الذين إذا تكشفت أمامهم حقيقة من
حقائق القرآن على مر العصور، لا ينتبهون إليها، ولا يستمعون لها إلا وهم يلعبون.
هذه الآية عاملة إلى يوم الدين، فإذا كان رسول الله يأتي الناس بالذكر، فكانوا لا
يستمعون إليه إلا وهم يلعبون، فكذلك كثير من المكذبين أو حتى الأصوليين؛ إذا ما
أتاهم ذكر لا يستمعون إلا وهم يلعبون. يبدو من الآية أن الذين ظلموا لا
ينتبهون لهذا الذكر؛ بسبب اعتقادهم بعدم
أهميته، ولولا وجود تحيز معرفي لديهم ما غفلوا عن هذا الذكر.
الشيء الذي يدفع الإنسان لعدم الاهتمام بما يقال؛ هو إما
ظنه بالاكتفاء المعرفي، أو ظنه بامتلاك الحقيقة، وكلاهما مدمر للنظام المعرفي
للإنسان. لفظ (محدث) في الآية الكريمة إن كان يدل على أن الذكر متجدد باستمرار،
فهذا متوافق تماماً مع الحالة العامة التي يصفها القرآن؛ وهي التكشف مع التدبر
والتعقل والتفكر. الذكر موجود بالفعل داخل الآيات، وخلال الكلمات، وإنما يأتيهم من
خلال تدبر المتدبرين، وهم عن ذلك معرضون.
تجدد القرآن وفيضه المعرفي اليوم لا يمكن أن ينكره صاحب
عقل، وعلى ذلك يكون لفظ (محدث) هنا خاصاً بالذكر، أو الحقائق المختزنة في باطن
اللفظ القرآني، وهو ما سوف نؤكد عليه من خلال فهم (السبع المثاني). هذا المعنى
متوافق تماماً مع قول الله سبحانه وتعالى (علم القرآن) في سورة الرحمن، والتي تصف
كما بيّنا الحالة العامة للقرآن، وكيف أنه معد بشكل يتلاءم مع وظيفته؛ وهي التكامل
مع الإنسان، لاكتشاف الكون، و البوح بأسراره.
مدلول لفظ فكر
يتبقى لنا لفظ نختم به هذا الفصل، وهو لفظ (فكر)، و الفرق
بينه وبين (الذكر)؟
(فكر) كما في لسان العرب: هو إعمال الخاطر في
شيء. وفي مقاييس اللغة: هو تردد القلب في شيء. لقد طلب الله من الإنسان التفكر،
وهو مطابق تماماً للمعنى الوارد في لسان العرب ومعاجم اللغة، إذ هو النظر والتأمل
وإعمال الخاطر.
إذاً (الذكر) هو الحقائق التي لا تتغير، و(يذكر) تعني
يستحضر المذكور. (الفكر) بناء على جذر الكلمة، هو عمل إنساني يتعلق بفلسفة الإنسان
حول شيء ما. على ذلك الإنسان الذي يفكر هو إنسان يقوم بعمليات تحليل للمعطيات التي
بين يديه، للوصول لوجهة نظر معينة.
لا يشترط أن يكون الفكر (ذكراً)؛ وإنما هو وجهة نظر
الإنسان، بغض النظر عن كون وجهة النظر هذه حقيقية، أو تشوبها الشوائب.
من هنا يمكننا القول أن (الذكر) هو الحقائق المطلقة أو
الثابتة، وأن الإنسان مطالب بـ (الفكر) وهو التأمل والنظر وإعمال العقل للوصول
للحقائق، وفي حالة وصول الإنسان إلى حقيقة قد تبدو ثابتة بالنسبة له؛ فليعلم أنها
(دكر بالدال) وليست ذكراً خالصاً؛ فلربما هناك وجه آخر لم يطلع عليه.
يمكننا تلخيص المفاهيم الثلاثة (الذكر والدكر بحرف الدال
والفكر) فيما يتعلق بالقرآن كما يلي:
الذكر: هو الحقائق الثابتة التي لا تتغير.
الدكر: هو ما يتوصل إليه الإنسان بالفعل ويحمل جزء من
الحقيقة ، أو هو التصور الذهني للإنسان عن الحقيقة أو أحد وجوهها.
الفكر: هو محاولات الإنسان في طريقه للوصول إلى الذكر أو
حقائق الأمور.
لكي يكتمل مفهوم الذكر، سوف
نحاول فهم التعبير القرآني الخاص بـ(السبع المثاني)، وعلاقة هذا المفهوم بالقرآن
وبالذكر.
Comments
Post a Comment