الفصل السادس- النبي

 

الفصل السادس النبي

لا شك أن وجود شخص النبي بين الناس وقت نزول الكتاب، يجعل منه أكثر الناس إدراكاً للبعد المعرفي للآيات الكريمة خلال البعد الزمني الذي عاش فيه النبي. لابد من فهم  طبيعة المجتمع وقتئذ، حيث  أنّ التفاعل مع النص القرآني في كل وقت  محكوم بطبيعة المجتمع، ولو ظن الناس أن هذا التفاعل حاكم على الأزمنة المستقبلية فهنا تكمن المشكلة، وسوف نبين أبعادها بكل حيادية.

احتاجت الأمم في السابق إلى إرسال الأنبياء والرسل بشكل كثيف؛ لقيادتها وتصحيح مسارها باستمرار، وبذلك أصبح الأنبياء والرسل حلقات من حلقات تطور البشرية، وليسوا حاكمين على البشرية كلها. لو أن النبي في حد ذاته حاكم على الزمن المستقبلي، فلماذا تعددت الأنبياء، وكان يكفي نبي واحد وكتاب واحد؟

تعددت الكتب لتناسب التطور المعرفي للبشرية، وجاءت الأنبياء لتبين للناس، وتتفاعل مع النص الإلهي. حتى إذا اكتمل نمو البشرية جاء القرآن مشمولاً بالسبع المثاني؛ ليقوم محل الكتب السابقة، وينتهي إرسال الأنبياء. النبي الخاتم جاء حاملاً الرسالة الخاتمة، ويبين ما فيها بقدر معارف المجتمع. لو أن النبي كان لديه القدرة على تبيين كل المعارف لانتهت مهمة البشرية من الأساس، وأصبح تفاعلها تحصيل حاصل، ولانتفى كما ذكرنا مفهوم القرآن، ولما كان هناك حاجة لما يسمى بالسبع المثاني.

هذه التراكيب تتكامل معاً لتعطي بالنهاية صورة واضحة لما يجب أن تكون عليه البشرية، وما هو مطلوب منها.

دعونا في البداية نوضح الفرق بين الرسول والنبي، الفرق الذي قُتل بحثاً، ولكنها بداية لا بد منها. من الأمور المختلف فيها بشكل كبير هو الفرق بين الرسول والنبي، فمن الباحثين من يرى أنه لا فرق بين الاثنين، ومنهم من يرى خلاف ذلك.

المشهور هو أن النبي والرسول كلاهما يتلقى الوحي من الله، غير أن الرسول مأمور بالتبليغ، بينما النبي غير مأمور بالتبليغ.

يقول ابن الملقن في "المعين على تفهم الأربعين": (و"الرسل": جمع رسول، وهو: المأمور بتبليغ الوحي إلى العباد، وهو أخصُّ من النبي؛ فإنه الذي أوحيَ إليه العمل والتبليغ، بخلاف النبي؛ فإنه أوحي إليه العمل فقط.).

هناك أقوال أخرى عن الفرق بين النبي والرسول، فهناك من يقول أن النبي والرسول كلاهما يتلقى الوحي، وكلاهما مأمور بالتبليغ؛ غير أن الرسول معه كتاب من عند الله، أو يأتي معه ملك، بينما النبي يوحى إليه أو يكون تبعاً لرسول آخر.

قال العيني في "البناية شرح الهداية": (الرسول من نزل عليه الكتاب، أو أتى إليه ملك، والنبي من يُوْقِفُه الله تعالى على الأحكام، أو تبِع رسولاً آخر).

يقول ابن تيمية في "النبوات": (النبي هو الذي ينبئه الله، وهو يُنبئ بما أنبأ الله به، فإن أُرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله، ليبلغه رسالة من الله إليه؛ فهو رسول. وأما إذا كان إنما يُعمل بالشريعة قبله، ولم يُرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة؛ فهو نبي، وليس برسول)

أقوال السابقين تكاد تعلن عن نفسها، فهي تقول أن الرسول هو من يحمل رسالة أو كتاباً بشكل عام، بينما النبي هو المتفاعل مع هذه الرسالة. المشكلة كلها بدأت عندما لم يستوعب السابقون مسألة التطور، التي هي أساس كل شيء، فلو أدرك السابقون عملية التطور البيولوجي، ومن ثم عملية التطور المعرفي للبشرية؛ لما تردد أحد منهم بقول أن النبي يختص بالمجتمع الذي عاش فيه، والزمن الذي جاء فيه، والناس في هذا الزمن مطالبون باتباعه؛ لأنه بالطبيعة هو خير من يتفاعل ويفهم النص الإلهي.

بالنظر إلى الآيات والمشاهد القرآنية المختلفة، سوف ندرك هذه الحقيقة دون مواربة، ونفهم أن تفاعل النبي قد يكون وحياً من الله، وهذا الوحي يختلف عن وحي الرسالة؛ بل هو ما نسميه نحن بمفهومنا المعاصر إلهاماً من الله، ومنه ما هو اجتهاد شخصي، بناءً على تفاعل معرفي لديه. الوحي الخاص بالتفاعل هو وليد الموقف، ويعمل داخل حدود الزمان، بينما الوحي الخاص بالرسالة -وهنا أتحدث عن القرآن تحديداً- فهو وحي مستمر، ولا يخضع للزمان. الخلط بين الوحيين هو سبب هذا العراك بين أصحاب النقل والعقل، كما بيّنا في أكثر من موضع.

هذا ليس معناه أن يتم تجاهل  كلام النبي في مسألة ما، فهذا لا يقول به إلا متحامل. نحن إلى يومنا هذا نسترشد بأقوال فلاسفة من أزمنة مختلفة، ولا ضير في ذلك، فما بالك بقول النبي. يجب أن يكون تعاملنا مع أقوال النبي هو تعامل استرشادي، وليس إلزامياً، بحيث إن أظهر النص القرآني معنى أشمل وأعم يتم على الفور تحكيم النص القرآني. هذه الطريقة في التعاطي مع أقوال النبي سوف تقضي تماماً على الجدل المستمر، والخاص بأحداث يراها الكثيرون غير متوافقة مع الحياة اليوم.

سوف يضع الأمور في نصابها بشكل سليم التعامل مع النبي كأنه بشر، وليس ملكاً يمشي على الأرض. بشر لديه قدرات تحليل واستقراء، ويعتريه ما يعتري البشر. بشر واقع ضمن الأمر الإلهي (اقرأ)؛ وهو بمعنى حلل واستنتج وتدبر. بينما وظيفته على أنه رسول كانت قاصرة على الأمر الإلهي (بلغ). دعونا نستعرض بعض المشاهد القرآنية لنقف على مفهوم النبي بشكل سليم.

المشهد الأول:

(قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ  فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) (سورة البقرة: آية 33).

عندما قمنا بتحليل قول الله تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (سورة البقرة: آية 32) كنا قد توصلنا لنتيجة مفادها أن الله سبحانه وتعالى أعطى آدم القدرة على التسمية. وهذه القدرة هي التي أهلت آدم لتسمية كل ما يقع عليه نظره، أو يقع تحت يديه (كتاب تلك الأسباب - الجزء الثاني)؛ إذ إن عملية التسمية يلزمها معرفة خصائص وصفات الشيء المراد تسميته.

عندما قال الله سبحانه وتعالى لآدم أنبئهم بأسمائهم، لم يكن قد زوّد آدم بأسماء الأشياء؛ ولكن بالآلية التي تمكن آدم من التسمية. هذا الفرق فرق شاسع؛ فلو أن الله منح آدم أسماء الأشياء، ثم قال له أنبئهم بالأسماء، لكان النبأ هنا وحياً خالصاً، أو ما يشبه الرسالة التي ينقلها آدم دون أي تدخل. بينما ومن خلال فهم التعبير القرآني (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) نجد أن آدم استخدم الآلية التي منحه الله إياها، واستطاع تسمية كل الأشياء التي عرضها الله عليه. ومن هنا برزت قيمة هذا المخلوق، الذي استطاع التفاعل بشكل سليم مع القدرة التي وهبها الله له.

من هنا نجد أن (النبأ) يختلف عن الرسالة، فالرسالة هي نقل حرفي للشيء المرسل، دون أي تدخل. بينما (النبأ) هو تفاعل الإنسان مع ما هو متاح بالنسبة إليه، ومن خلال القدرات التي وهبه الله إياها، ليعطي بالنهاية نبأ. إننا نستخدم هذا الجذر اللغوي في حياتنا المعاصرة بشكل سليم؛ ويعني قدرة الإنسان الخاصة على التعامل مع الأشياء، وهو لفظ (يتنبأ). فعندما نقول أن فلان يتنبأ بحدث أو بشيء ما؛ فإننا نعني أن فلان هذا لديه قدرة على التحليل والاستنتاج، مكنته من فهم أمور قد تغيب عن الآخرين، ولذلك استطاع التنبؤ. لفظ (النبي) ذاته يحمل في طياته قدرة الشخص على التعامل مع الأحداث بكفاءة عالية، أضف إلى هذه الكفاءة عناية الله التي ترعاه، فيكون الأمر أكثر وضوحًا.

إذا أدركنا أن البشرية في أطوارها البدائية لم تكن قدراتها العقلية بهذه الكفاءة، أضف إلى ذلك أنّ الصدق والأمانة وعدم التحيز في فهم الأشياء لم يكن بالقدر الكافي لدى الأغلبية، فلن يكون هناك صعوبة في فهم لماذا كان بعث الأنبياء شيئاً هاماً للغاية؛ لتصحيح مسار البشرية وتعليمها. ما إن ارتقت البشرية حتى توقف بعث الأنبياء، أو على الأقل التحدث باسم الله لم يعد متاحاً للناس، وحل بدلاً منه العقل والمنطق والتفاعل مع القرآن، وهذا نوع من الرقي البشري الذي تأهلت له البشرية، أراده الله لها.

المشهد الثاني:

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (سورة البقرة: الآية 213).

الآية الكريمة توضح بشكل لا يقبل الشك وظيفة النبيين؛ وهي الفصل والحكم بين الناس، عن طريق الكتاب الذي بين أيديهم. نلاحظ أن وظيفة النبيين كانت كما تبين الآية وظيفة وقتية؛ إذ يحكم النبيين بين الناس فيما اختلفوا فيه، وليس تشريعاً كما يعتقد بعضهم. التعبير القرآني (بين الناس) يدل على وقتيّة النبوة. وإرسال الأنبياء للبشرية كان كثيفاً في بداية البشرية؛ بسبب حاجتها لمن يبين لها ويُفصّل لها.

 هذا المشهد يؤكد ما نقوله؛ من أن صفات النبي وقدراته التي ملكها هي من قلب وظيفته، وليست وحياً قاطعاً ملزماً من الله، كوحي الرسالة التي يرسلها الله في كلمات وألفاظ محددة، لا يملك أمامها الرسول سوى التبليغ كما هي.

المشهد الثالث:

(مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ  وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (سورة الأحزاب: آية 40).

لابد لنا أن نتساءل: لماذا خاتم النبيين؟. كما بيّنا في الجزء الثالث من الكتاب أن التدخل الإلهي لتقويم البشرية بدأ كثيفاً أو غزيراً عندما كانت البشرية تخطو أولى خطواتها، وكان العقل ذا  قدرات محدودة. مع تطور القدرات العقلية للإنسان أصبح الإنسان قادراً على إدارة وإدراك كثير من الأمور، وقلَّ معه التدخل الإلهي المباشر.

من أهم التدخلات الإلهية التي ساعدت الإنسان على إصلاح مساره وتعديل سلوكه كان إرسال الأنبياء. إذ يأتي كل نبي يسوس القوم الذي جاء فيهم، يتفاعل مع الكتاب الموجود، أو يأتي بكتاب آخر في شكل رسالة. أفعال الأنبياء وتصرفاتهم داخل مجتمعاتهم كانت تعتمد بشكل كبير على القدرات التي منحها الله لهذا النبي، وعلى الوحي من الله.

 لابد أن نفرق بين الوحي الخاص بالرسالة؛ وهو وحي ملزم لا يمكن تجاوزه، والوحي الخاص بالنبوة؛ وهو تفاعلي في زمن النبي. من الطبيعي أن يكون الوحي الخاص بالنبوة في بداية البشرية كثيفاً جداً، ولكن مع التطور كان وحي الأنبياء يقل شيئاً فشيئاً، وتبعاً لذلك يزداد تفاعل النبي مع الرسالة في شكل اجتهاد؛ حيث إذا لم يوفق تماماً يتم تصويبه أيضاً بالوحي، كما سوف نرى.

هذه الدورة تتناغم تماماً مع تطور البشرية، وليس انتقاصاً من قدر نبي معين حاشا لله؛ بل لأن الخط العام والمنهج القرآني يشير إلى ذلك، وإلى أن الله سبحانه وتعالى يريد للبشرية أن تملك حريتها، وتتفاعل باستخدام القدرات التي وهبها إياها، لينظر ماذا تفعل. في المشهد التالي نجد تفاعل النبي مع حدث ما، ولكن القرآن والوحي جاء يصوّب ما حدث. 

المشهد الرابع:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (سورة التحريم: آية 1).

الخطاب في هذه الآية الكريمة لمقام النبوة، ومع ذلك يقول له الله لم تحرم ما أحل الله لك. هذه الآية الكريمة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن مقام النبوة هو مقام تفاعل مع الرسالة، وليس وحياً من الله ملزماً. يجب أن نسأل أنفسنا: هل فِعل النبي هذا كان بوحي من الله في أن يحرم ما أحل الله له؟ بالطبع لم يكن وحياً؛ لأن الله عاتبه في ذلك، وهو في مقام النبوة.

لا يمكن لأحد أن يدعي أن ما فعله النبي وهو تحريم ما أحل الله كان وحياً، ولكن من الواضح أنه كان تفاعلاً واجتهاداً، ولمّا لم يكن هذا الاجتهاد مصيباً نزل الوحي بقرآن نقرؤه جميعاً، يعطينا لمحة عظيمة عن الفرق بين مقام النبوة ومقام الرسالة. آية أخرى في كتاب الله تشير إلى نفس المبدأ في سورة الأنفال، وتدل أيضاً على أن ما فعله النبي وهو في مقام النبوة كان تفاعلاً، ولم يكن وحياً.

(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ  تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ  وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (سورة الأنفال: آية 67).

لا يعقل أن نعتقد أن فعل النبي هنا كان وحياً، ثم ينزل قرآن يعاتب في ذلك، وإنما كما تقص علينا الآية أن مسألة الأسرى كانت اجتهاداً من النبي، وهو في مقام النبوة، وعندما جانبها الصواب نزل الوحي للتوجيه.

هاتان الآيتان توضحان لنا كيف كان التوجيه الرباني، من خلال الوحي لتصرفات النبي التي فعلها تفاعلاً مع الأحداث؛ لأنه نبي؛ أي في مقام النبوة. القرآن دقيق في تعبيراته؛ فقد عاتب النبي، ولكنه لم يعاتب الرسول؛ لأن وظيفة الرسول تختلف عن وظيفة النبي.

ربما يعتقد بعضهم طالما أن القرآن قص علينا كيف كان يصحح للنبي، فهذا معناه أن كل أفعاله وأقواله التي لم ينزل فيها القرآن معاتباً صحيحة مائة بالمائة، ويلزمنا اتباعها.

لعمرى أن استنتاجاً كهذا يقوم على العاطفة لا يراعي نسق القرآن، والخط العام الذي تسير فيه البشرية. هذه الآيات الكريمة التي جاء فيها الأمر صريحاً بمعاتبة النبي، ترشدنا إلى أن تفاعل النبي ليس وحياً ملزماً كما نعتقد؛ وإنما تفاعل للنبي مع النص . ليس لدي شك في أن تفاعل النبي هو التفاعل الأرقى و الأفضل والأسمى، ولكن لا بد أن ندرك البعد الزمني؛ حتى لا نقع في الشرك، ونجعل النبي حاكماً على زمن لا يعلم عنه شيئاً، وتصبح البشرية تحصيل حاصل، وتفقد الميزة الأساسية التي وهبها الله، وهي التفاعل والتطور، وتصحيح مسارها تبعاً للرسالة التي تملكها.

المشهد التالي يعرض عدداً من آيات القرآن، التي تشير إلى التوجيه الرباني للنبي وهو في مقام النبوة، وتتعلق بتصريفات المجتمع وقتها.

المشهد الخامس:

هذه مجموعة من الآيات التي خاطب فيها ربنا نبيه وهو في مقام النبوة، وكلها متعلقة بالمجتمع وقتها.

فنجد الآية في سورة الأنفال تطلب من النبي تحريض المؤمنين على القتال:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) (سورة الأنفال: آية 65).

الآية التالية تتحدث عن الأسرى وقت معارك النبي مع الكافرين، وتوجيه ربنا للنبي:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (سورة الأنفال: آية 70).

هكذا نجد باقي الآيات تتحدث جميعها عن وقائع في عصر النبي، وتوجيهه للتعامل معها.

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (سورة التوبة: آية 73).

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) ( سورة الأحزاب: آية 1).

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (سورة الأحزاب: آية 28).

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (سورة الأحزاب: آية 50).

المشهد السادس يعطينا لمحة عظيمة على أن من أفعال النبي وهو في مقام النبوة ما هو ليس وحياً؛ وإنما هو تفاعله مع الرسالة.

المشهد السادس:

(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)(سورة آل عمران: آية 61).

(يغل) معناه أن يأخذ الشخص شيئاً لنفسه بعيداً عن الآخرين، وهنا نجد القرآن ينفي عن الأنبياء هذا التصرف غير السليم، ومع ذلك يقول أن من يغلل يأت بما غل يوم القيامة. هذا معناه أن تصرف الأنبياء هو تصرف نابع من إرادتهم، وليس وحياً في هذه الحالة؛ إذ إن لديه حرية الإرادة في أن يغلل أو لا يغل.

لو كانت الآية وحياً للنبي لا يستطيع تجاوزه لما جاءت تحذر أن من يغلل يأت بما غل يوم القيامة؛ وإنما كان التحذير بالطرد من مقام النبوة، كما حدث في مقام الرسالة الذي بيّنَته الآيات في سورة الحاقة:

)تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46))(سورة الحاقة: آيات 43-46).

بشيء من الإنصاف، ومن خلال مقارنة الآيتين نجد أن النبي لو حدث وغل؛ فعقابه يوم القيامة، وسوف يستمر في مقام النبوة؛ لأنه تفاعل مباشر مع الرسالة، ولكنه تجاوز. بينما عقاب الرسول الذي يقول غير ما بُلغ؛ هو قطع الرسالة فوراً عنه. هذا الفرق الجوهري يبين لنا المساحة التي يتحرك فيها النبي، بينما لا توجد مساحة للرسول خارج النص الإلهي.

لو كان فعل النبي وحياً من الله مباشرة، وخالفه النبي؛ لتم طرده مباشرة من مقام النبوة في الدنيا، وقطع عنه الله هذا الوحي، كما أخبرنا ربنا عن الرسول الذي يمكن له أن يتقول على الله. لا شك أن أنبياء الله ورسله هم الصفوة، وإنما اصطفاهم للصفات الطيبة التي يحملونها، ولكن الآيات تشير لكل ذي لب إلى الفرق بين النبي والرسول، وكيف يتعامل القرآن مع كليهما .

المشهد السابع:

(إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ  يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ  فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا  وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (سورة المائدة: آية 44).

الآية الكريمة تشير إلى حقيقة غائبة عن الكثيرين، وهي أن الكتاب هو الأصل والمرجع، بينما النبي عليه التفاعل مع الكتاب. لذلك جاءت التوراة ككتاب مرجع، وتعاقب عليها النبيون، يحكمون بحكمها، ولم يطلب ربنا من الأنبياء اتباع حكم بعضهم بعضاً، وإنما طلب العودة إلى التوراة والاحتكام بها.

هذه الحقيقة لا تحتاج لمجهود لفهم علتها؛ لأن الكتاب ونصوصه هي كلام الله الذي يتميز بالشمول والعموم والإحاطة، بينما تفاعل النبيين هو تفاعل زمني، محكوم بالعصر الذي عاشوا فيه.

لدينا في كتاب الله أمر صريح للناس لا يقبل التأويل بالرجوع إلى الكتاب الذي بين أيديهم إن غم عليهم أمر، أو حدث لديهم التباس في فهم أمر نبيهم، بل أكثر من ذلك، يطلب منهم ربنا مراجعة كل شيء على كتاب الله الذي بين أيديهم، وإن استسلموا وتمسكوا بأمور ليست في الكتاب؛ إنهم إذاً لضالون. إنها آية في سورة آل عمران تنكر على بني إسرائيل تحريمهم على نفسهم ما لم يحرم الله عليهم، وأتباعهم تحريم نبيهم إسرائيل وهم لا يعلمون والتبس عليهم الأمر.

(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ  قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (سورة آل عمران: آية 93).

رغم أن الآية تقول صراحة أن إسرائيل حرم على نفسه نوعاً من الطعام، إلا أنها استنكرت على بني إسرائيل تقليد هذا التحريم. لماذا أنكرت الآية على بني إسرائيل  تقليدهم لإسرائيل؟

لأن نبي الله إسرائيل أو النبي بصفة عامة يتفاعل مع المعطيات التي وهبه الله إياها، فإن أصاب -وهي الحالة السائدة- فنعم هي، وإن لم يصب؛ فينزل الوحي ليصحح ما لم يصب فيه. ولأننا لم نكن معاصرين للنبي، ولا نعرف على وجه التحديد الظروف التي مر بها النبي ولا المجتمع، وكلها أمور ظنية؛ فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي النص الإلهي الذي لا يمكن تغييره ولا تبديله. لذلك طلب الله من بني إسرائيل مراجعة التوراة، واستخراج أمر التحريم منها إن كانوا صادقين.

الآية تقول للناس إنه لا تحريم إلا بأمر من الله صريح، ورغم ذلك لدينا تاريخ طويل من التحريم، حتى أن لفظ التحريم يجري على لسان بعضهم كتحية الصباح. التحريم الأبدي لا يجوز لأحد كائن من كائن، ولو كان نبياً فليس له أن يحرم خارج إطار الرسالة، أو بمعنى صحيح خارج الأوامر الإلهية المباشرة؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم علة الأشياء على حقيقتها، وعلاقاتها.  بينما النبي محدود بالزمان الذي جاء فيه. إذا نهى النبي عن شيء فهو نهي وليس تحريماً، قد يزول بزوال العلة، ولكن تحريم رب العالمين لا يزول أبداً، لذلك جاءت الآية الكريمة تحمل هذا الإرشاد الرباني العظيم لقوم يعقلون.

 باختصار شديد، الرسالة مستمرة، وهي الأصل، والمتمثلة في النص الإلهي، بينما النبي هو تفاعل مرهون بالظروف والحياة التي عاشها النبي. ولذلك أعلن القرآن صراحة ختام النبوة، وأن البشرية لم تعد بحاجة للأنبياء تسوسها، وأعطى القرآن بدائل أخرى تعتمد اعتماداً مباشراً على قدرة العقل على التمييز.

لقد وصلنا لمرحلةٍ نجد فيها مؤسسات تصدر أمراً بالتحريم، في تجاوزٍ واستهانةٍ بأمر الله لا مثيل لها. لو تتبعنا الأشياء التي تم تحريمها، ثم تراجع عنها المشرعون، لبدا بعض هذه المحرمات كفكاهة، ولتوقِف كل لبيب ليعيد النظر في التلفظ بالتحريم، ويسلك مسلك العلماء في تحري الدقة في اللفظ.

بعض الأمثلة على المحرمات التي حرمها الناس إفتاءً على رب العالمين، وهم لا يعلمون الفرق بين تحريم الإله الأبدي والملزم، ونهي المجتمع.

المثال الأول: تحريم الطباعة

مع ظهور الطباعة في منتصف القرن الخامس الميلادي، حدثت نهضة كبيرة جداً في العواصم الأوروبية، التي استخدمت الطباعة في مضاعفة المعرفة وتسهيل انتشارها. لكن في الدولة العثمانية كان هناك أمر آخر، وهو صدور فتوى بتحريم الطباعة؛ خوفاً من تحريف القرآن الكريم، أو العبث بالكتب الشرعية.

تحريم كهذا جعل الأمر يبدو إلهياً. لو أن هناك عالماً واحداً يقرأ القرآن، ومر على الآية السابقة التي بين أيدينا؛ لقال لهم ائتوني بآية في كتاب الله تحرم الطباعة إن كنتم صادقين، كما قال الله سبحانه للمفترين القائلين بتحريم نوع من الطعام اقتداء بإسرائيل: ائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين.

لماذا قال لهم الله فاتلوها، ولم يقل مثلاً اقرؤوها أو تدبروها أو اعقلوها؟

القراءة والتدبر والتعقل كلها أمور تعتمد على العقل، مثل القياس والمقارنة، أما لفظ التلاوة فهو تتبع الشيء حرفياً دون تدخل من الإنسان. معنى ذلك أن التحريم أمر شديد الخطورة، لا يجوز فيه القياس أو المقارنة، وإنما هو أمر لا بد أن يكون ظاهراً وواضحاً لا لبس فيه. لو أنصف أصحاب الطباعة لقالوا ممنوع استخدام الطابعة، ثم جاؤوا بمبرراتهم كما يحلو لهم، ولكن الكارثة هي القول بالتحريم، والتجرؤ على لعب دور الإله بكل ثقة.

التلفظ بالتحريم هكذا بكل سهولة هو أمر شديد الخطورة؛ لأنه يخلط بين الأمر الإلهي والتفاعل البشري، مما يُفقد النص الإلهي وظيفته. وهذا ما يحدث بسبب الوعاظ والدعاة والمؤسسات التقليدية، والتي تتسبب بكل سهولة ويسر في صرف الناس عن الله، بل و الاستهانة بأمر الله، طالما أثبت الوقت أن كل شيء قابل للتغيير والتبديل.  

المثال الثاني: تحريم القهوة

في بداية القرن السادس عشر دارت معركة فقهية، عنوانها تحريم القهوة؛ لأنها مفسدة للعقل، وخطرها أشد من الخمر. انتقلت معركة القهوة إلى مدن عديدة، وجاءت الفتاوى بتحريم شربها، ومطاردة شاربيها، بل وحرق مخازن البن، ولم يهدأ هذا الجدل إلا عندما جاء مفتٍ جديد إلى إسطنبول في عهد السلطان مراد الثالث، وأعلن أن شرب القهوة غير محرم شرعاً.

المثال الثالث الموقف من  الصنبور

في نهاية القرن التاسع عشر تم مد مواسير المياه، وتركيب صنابير المياه في منازل القاهرة، مما جعل الناس يستغنون عن السقاة الذي يجلبون الماء للمنازل مقابل أجر. من أجل ذلك توجه السقاة إلى أئمة المذاهب الأربعة في الأزهر؛ لاستصدار فتوى بأن مياه الصنبور لا تصلح للوضوء والطهارة. استجاب أئمة الحنابلة و أفتوا بأن مياه الصنابير بدعة وضلالة، بينما أفتى الحنفية بإباحة مياه الصنبور، وجواز الوضوء منه؛ ولهذا سمي الصنبور بالحنفية في مصر.

هذا المثال تحديداً وإن لم يكن القول فيه بالتحريم المباشر إلا أنه مثال واضح للتأثيرات الخارجية على الآراء الفقهية وتأثرها بالظرف الزماني وطبيعة المجتمع والتجاذبات المختلفة التي يعيشها المجتمع.

 القول بأن مياه الصنبور بدعة ولم يصل إلى التحريم؛ ربما بسبب انفتاح المجتمع المصري وقتئذ على المجتمعات الأخرى، وربما لو أن الأمر كان في أحد المجتمعات المنغلقة لجاء الأمر بالتحريم وتكفير المخالف، كما في مسألة قراءة الصحف والمجلات. 

المثال الرابع: تحريم قراءة الصحف والمجلات

 في مطلع القرن العشرين كان لبعض فقهاء العراق والكويت والأحساء موقف شديد العداء تجاه قراءة الصحف والمجلات، فلم يكتفوا بتحريم قراءتها بل وتكفير من يقرؤها. هل تعلم ما السبب في التحريم، ومن ثم التكفير؟ لأنها بزعمهم تحتوي على معلومات علمية غريبة، مثل كروية الأرض، والتطعيم ضد الأمراض.

المثال الخامس: تحريم أكل الطماطم

عندما أحضر بعض الناس الطماطم في نهاية القرن التاسع عشر إلى حلب في سوريا، لم يستسغ أهل المدينة شكلها الأحمر المخالف لكونها من الخضروات، وأطلقوا عليها لقب "مؤخرة الشيطان". في هذا الوقت أصدر مفتي حلب فتوى بتحريم أكل الطماطم، إلا أنها انتشرت بعد ذلك، ولم يعد هناك أي حرج في أكلها.

لا شك أن فتاوى التحريم هذه يتبعها عقاب لمن يخالفها، قد يصل إلى الإعدام، كما حدث مع تحريم الطباعة. إنه القتل باسم الله، والافتراء على الله.  لذلك نقولها وبكل يقين أن الوقوف على اللفظ وفهم معناه بدقة من أكمل العبادة لله، حتى لا نضل، ويتسبب هذا الهرج في ضلال الآخرين، حتى لو حسنت النيات.

المشهد الثامن:

(وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) (سورة آل عمران: آية 80).

هذه الآية العظيمة  جاءت ضمن مجموعة آيات في سورة آل عمران، تضع النقاط على الحروف، وتفصل مهمة الكتاب ومهمة النبي، وتحذر من أولئك الذين يدفعون الناس إلى الاعتقاد بربوبية النبيين.

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا  أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ  قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي  قَالُوا أَقْرَرْنَا  قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(83))(سورة آل عمران: آيات 78:83).

الآيات تركز تركيزاً شديداً على التمسك بالكتاب، وعرض كل شيء على الكتاب، وتؤكد أن البشر الذين اصطفاهم الله سواء للحكم أو للنبوة ما هم إلا متبعون للكتاب. النهي جاء في الآيات من اتخاذ الملائكة والأنبياء أرباباً؛ لأن الله لم يأمر بذلك بل أمر بأن يكون الناس ربانيين؛ أي يرجعون في كل أمر لربهم.

قد يظن بعضهم أن اتخاذ الأنبياء أرباباً بعيد كل البعد عن المؤمنين، ولكن الحقيقة لا يمكن إدراكها إلا من خلال قياس الأفعال. الإنسان الذي يعلي كلام النبي فوق كلام رب العالمين الوارد في كتابه هو في الحقيقة اتخذ النبي رباً من دون الله، وهذا هو الكفر الذي حذر منه ربنا في الآيات، والله لا يأمر بالكفر.

 كما ذكرنا أن تفاعل النبي مع النص هو تفاعل معتمد اعتماداً كلياً على الزمن، وهناك ظروف قد لا نعلم عنها شيئاً أثرت في تفاعل النبي مع النص. لذلك تجنباً للارتباك، و احترازاً من الوقوع في الكفر، فلا بد من عرض كل أمر على كتاب الله، وعدم التهاون مطلقاً في ذلك. حتى إن صح أمر عن النبي، فهذا ليس معناه اتباعه رغم وجود تعارض مع القرآن، بحجة أن النبي هو أكثر علماً ودراية بكتاب الله؛ لأن الظروف غابت عنا، وهناك عوامل لا حصر لها قد يكون لها تأثير في مقولة كهذه، من الصعب حصرها أو تتبعها بشكل تام.

 لذلك لا ضامن حقيقياً إلا كلام الله، فهو المعيار الذي يجب أن يُقاس عليه كل قول وكل فعل، ومن يقول غير ذلك يتحمل تبعات ما يقول.

تقديم كلام النبي على كلام رب العالمين بأي حجة كانت هو ذاته اتخاذ أرباب من دون الله، إذ جعلَ النبي سلطة على الناس دون رب العالمين، أو سلطة منفردة عن رب العالمين. سيقول الناس كيف تفرق بين النبي وربه؟، ويسوقون كلام أشخاص، ويستدلون بنصوص تاريخية؛ يوهمون الناس أنها أدلة على إشراك النبي مع رب العالمين في الحكم. الحقيقة أنّ هذه ليست أدلة؛ وإنما حيل لا تستطيع الصمود أمام الأدلة، والحَكم الوحيد القادر على التفريق بين الحيل والدليل هو الإنسان ذاته

إنسان ما بعد النبوة قادر بالنص الإلهي على التفريق بين الحيل والدليل، إن كان حقاً يرغب في ذلك، ولديه الأدوات التي تمكنه من ذلك، لكنّ الضالين أوهموه أن عقله لا يستطيع ولا يقدر. نتيجة لذلك قعد المسكين عن التعقل، ووقع في شباك الشرك دون أن يدري، وإن وصلته الحجة وطرقت بابه المعرفة صد عنها، فوقع في الكفر الذي حذر منه رب العالمين.

لقد تطرف بعضهم ووصل لمرحلة أخطر، عندما زعموا أن سنة النبي يمكن أن تقيد القرآن أو تنسخه؛ بمعنى إبطال حكم من أحكامه. النبي كما قلنا تفاعل مع النص الإلهي حسب حاجة زمانه، والناس في كل عصر مأمورون باستمرار التفاعل، وهذه هي روح القرآن الغائبة عن الكثيرين.

بنص كتاب الله لا يمكن لنبي أن ينفرد عن الكتاب بعيداً عن رب العالمين، فما بالك بشيء يخالف الكتاب.

(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) (سورة آل عمران: آية 79).

يطلب الله من الناس أن يكونوا ربانيين؛ أي يضعوا في حسبانهم أن الرب هو السلطة والرعاية التي يجب أن يدخلوا تحتها. لن يستطيع الإنسان أن يكون ربانياً -أي واقعاً تحت السلطة والرعاية الإلهية- إلا من خلال العلم والدراسة، وليس من خلال التقليد. عرض كل أمر على كتاب الله، وتحري الدقة والحيادية، هو الضمان لكون الإنسان ربانياً. أما الكسل المعرفي فسوف يسوق الإنسان لاتخاذ غيره رباً يثق في قوله، سواء أكان نبياً أو رجل دين أو علامة في عصره، حتى لو خالف كلام الله، وبيّنه له المتدبرون.

نص صريح يقول فيه الله:

(وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا  أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) (سورة آل عمران: آية 80).

قد يتوهم بعضهم أن اتخاذ الأرباب هو قول الإنسان صراحة فلان ربي؛ ولكن المتتبع للفظ (الرب) في القرآن سيعلم أن لفظ (الرب) هو صفة كل من له سلطة مشمولة بالرعاية.

 مثال (الرب) في القرآن هو الملك الذي عاصر نبي الله يوسف، عندما خاطب صاحبه في السجن اذكرني عند ربك. ربك هنا تعني ذا السلطة عليك، ويقال رب الأسرة لما له من سلطة مشمولة بالرعاية. الله لا يطلب من الناس اتخاذ الملائكة أو الأنبياء أرباباً؛ أي ذوي سلطة مطلقة، ولكن متابعة تسمح بالنقاش واختيار الأفضل .

 عدم اتخاذ النبي رباً نجده ماثلاً بشكل واضح في موقعة بدر، عندما نزل النبي بجيشه في موقع معين، فجاءه رجل من الجيش يسمى الحباب بن المنذر. لما رأى الحباب منزل المسلمين قال: (يَا رَسُولَ اللّهِ؛ أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ ولا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: ”بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ”. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ)

لقد فهم الحباب مقام النبوة بشكل صحيح، إذ سأل هل هذا أمر من الله، أم أنه الرأي والمشاورة؟. لم يتخذ الحباب النبي رباً هنا، ولم يعتقد أن تصرف النبي وحيٌ من الله لا يجب النقاش فيه. إننا مطالبون في كل أمر لا يوافق العقل والمنطق أن نسال كما سأل الحباب، أهذا أمر من الله أم هو الرأي والمشورة؟. أما ورسول الله محمد صلوات ربي عليه ليس بيننا اليوم فلم يبق لنا إلا أن نعرض الأمر على كتاب الله؛ لنعرف هل هو أمر ملزم أم أنه أمر يجوز لنا فيه الاجتهاد والمناقشة.

 لقد فهم الرعيل الأول هذا الفرق جيداً، ولم يتخذوا النبي رباً؛ بحيث أن ما فعله لا يمكن التقدم عليه أو التأخر، وإنما أدركوا أن ما فعله وقاله النبي خارج كتاب الله إنما هو اجتهاده وتفاعله.

هذا أبو بكر الصديق عند وفاته يوصي بالخلافة لعمر بن الخطاب، ولم يكن الرسول قد أوصى من قبل، أو فعل ذلك. بكل بساطة لو أن أبا بكر الصديق اتخذ النبي رباً لما كان له أن يفعل إلا ما فعل النبي، ولكن لأنه علم أنه الرأي والمشورة فقد أوصى عمر بن الخطاب بعده، ليس متبعاً بل متفاعلاً ومجتهداً.

إنه الخلل الواضح في العقول التي لا تدرك هذه الفروق، فتراهم يرون متابعة النبي على أمر هين مثل الملبس أو اللحية عظيم ومخالفته أمر جلل. بينما لا يرون فعل أبي بكر بعده، وهو أمر تولية أمير على الأمة جميعها دون أن يكون فعله رسول الله صلوات ربي عليه ليس فيه أي مخالفة.

اجتهد أبو بكر وفهم الفرق بين الرسالة والنبوة وأجره على الله،  ووقع المقلدون في فخ التقليد ولم يدركوا الفرق واتخذوا الأنبياء أربابًا وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا.

الأمثلة كثيرة على اجتهاد الرعيل الأول بعد وفاة النبي  وفعل أفعال لم يفعلها في حياته، ولكن أصحاب الحجر والجمود وجدوا مخرجاً لذلك؛ بالادعاء أن الصحابة كذلك أفعالهم من الشرع وملزمة.

لقد أمر الله الناس بألا يتخذوا الأنبياء أرباباً، وفهم ذلك بعض من الرعيل الأول، وتفاعلوا مع ذلك إلا المتأخرين أَبَوا، ولم يتخذوا الأنبياء فقط أرباباً؛ بل اتخذوا معاصري الأنبياء أرباباً، بل وزادوا عليهم من التابعين. شتان بين التوجيه القرآني الذي يدفع البشرية دفعاً لاتخاذ دورها والقيام بمسؤوليتها، ومجموعة من الناس ذوي ثقافة محدود للغاية، تريد فرض رأيها وسيطرتها على العالم.

الآية التالية تشير إلى الفرق بين الرسول والنبي؛ إذ يجب على النبي أن يتبع الرسول وليس العكس. ما معنى أن يجيء الرسول إلى النبيين؟ معنى ذلك أن النبي يتبع الرسالة مع الرسول، وذلك بالتبعية يجعل النبي متابعاً ما جاءت به الرسالة التي أرسله الله بها، من خلال ما آتاه الله من معرفة وحكمة.

تشير الآية التالية مرة أخرى إلى أن النبي يتفاعل من خلال معارفه مع النص الإلهي، وليس منفرداً أو مخالفاً للنص الإلهي. لذلك على الناس فهم ذلك جيداً، فإذا وجدوا ما يخالف النص الإلهي تركوه؛ لأن الالتزام بما يخالف النص الإلهي بحجة أنه قول النبي هو عين اتخاذ الأنبياء أرباباً، وهو الكفر الذي حذر منه ربنا:

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ  قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي  قَالُوا أَقْرَرْنَا  قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) (سورة آل عمران: آية 81).

هل تعلم أن في تفسير هذه الآية الكريمة قال ابن مسعود أن فيها خطأ.

أنقل لك من تفسير الطبري "عن مجاهد في قوله: (وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة)، قال: هي خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود: "وإذ أخذَ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب" عن الربيع في قوله: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين)، يقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وكذلك كان يقرؤها الربيع: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب" إنما هي "أهل الكتاب".

ما قاله ابن مسعود والربيع يتخذه المشككون حجراً يقذفون به كتاب الله، ويشكون في دقته وحفظه. لكن اتباع منهج دقيق في فهم كتاب الله سوف يقضي على هذه الخرافات تماماً، ولن يدع المجال للقول على كتاب الله كلٌّ بما يشاء.

هل هي (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) أم (وإذ أخذَ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)؟

من خلال تتبع الآية وفهم السياق سوف نجد أن المقصود هو النبي، وليس لأهل الكتاب علاقة بهذه الآية؛ وإنما توهم ابن مسعود وخلط بين الآية وآيات أخرى. عدم فهم الآية وفهم الألفاظ بشكل دقيق جعل المفسر يورد قول ابن مسعود بهذا الشكل العجيب. إتيان الكتاب والحكمة والميثاق من الله بهذا الشكل موجه للنبيين، بالإضافة إلى أن سياق الآيات يتحدث عن النبيين، ويحذر من اتخاذ النبيين أرباباً، فما دخل أهل الكتاب في هذا التوجيه.

لدينا ملاحظة جديرة بالاهتمام، سوف تمنحنا قدراً كبيراً من فهم الفرق بين الرسول والنبي:

لقد بقي رسول الله في مكة يبلغ ما أُنزل إليه من ربه، وطوال هذه الفترة لم يخاطبه ربه بلفظ النبي. لقد كانت مهمة الرسول في مكة مهمة محددة وهي تبليغ الرسالة، ولذلك تفاعله مع الرسالة كان في أضيق الحدود، بينما بمجرد وصوله للمدينة وتأسيس مجتمع احتاج لتفاعل كبير، مما استحق معه مسمى نبي.

لو تتبعنا لفظ (نبي) في القرآن سوف نجد أن الخطاب بلفظ النبي لم يرد في مكة أبداً؛ وإنما كان الخطاب بلفظ النبي موجهاً له بعد قدومه إلى المدينة، بينما نجد أن الله خاطبه بلفظ الرسول وهو في مكة. السور المدنية والأحداث التي حدثت في المدينة، تخبرنا بكل وضوح أن لفظ النبي وُصف به النبي في مرحلة المدينة، كما في الآيات التالية:

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)(سورة الأحزاب: آية 1).

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)(سورة الأحزاب: آية 28).

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)(سورة الأحزاب: آية 45).

 بينما لفظ (الرسول) نجد له أثراً  واضح في السور المكية كما يلي:

(وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِىٓ إِلَيْهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا فَٱعْبُدُونِ)(سورة الأنبياء: آية 25).

(وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلْأَسْوَاقِ لَوْلَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُۥ نَذِيرًا)(سورة الفرقان: آية 7).

(وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِى ٱتَّخَذُوا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ مَهْجُورًا) (سورة الفرقان: آية 30).

أدلة كثيفة لو رتلنا بعضها إلى بعض، لن نحتاج لوقت طويل لفهم مهمة النبي ومهمة الرسول، والخروج من مأزق الروايات، ولماذا تبدو غير متناسبة مع الحياة المعاصرة، بل وتعتبر عبئاً في كثير من الأحيان.

لماذا لا تعتبر عبئاً ونحن نعتبر المجتمع القديم الذي عاش فيه النبي مجتمعاً مثالياً بكل ظروفه وعلاقاته، ويمكن تطبيق ظروفه على مجتمعات مختلفة الأزمنة والظروف؟ لأنها دعوة لاستنساخ المجتمع، وإنشاء نسخ مكررة منه على طول الكرة الارضية، وهذا مخالف للسنن الكونية.

النص الوحيد الذي يملك قابلية القراءة المرنة، ويضع خطوطاً عريضة لكل شيء، هو القرآن، ولا شيء غير القرآن. والنبي مهما أوتي من جوامع الكلم، لا يملك القدرة على ذلك، ولا يستطيع. لو اعترض أحدهم بأنّ تفاعل النبي يصلح لكل زمان، وقابل للقراءة كذلك، مثله مثل القرآن؛ فنحن نقول له: لماذا لم يضمه الله إلى القرآن، طالما أنه وحي من الله كذلك، وله نفس الخصائص؟ أما وهذا لم يحدث، فالله الله في كتاب الله، ولا تشركوا بالله شيئاً.

في السطور التالية سوف أوضح بعض الأمثلة لتفاعل النبي، وكيف أن اعتبار هذه الأمثلة شرع وجزء من دين الله، أساء للنبي وأساء لدين الله.

مرة أخرى، التفريق بين لفظ (النبي) ولفظ (الرسول) بشكل حيادي يضع الأمور في نصابها، ويغلق باباً فتحه التقليديون بوضع أفعال وتصرفات بشرية خالصة للنبي داخل منظومة الدين، ومن ثم خلط الدين بالتاريخ أو بالعادات الاجتماعية، وعدم مراعاة البعد التطوري للبشرية.

تعدد زوجات النبي

المثال الأشهر لدينا هو تعدد زوجات النبي أو حتى  زواجه من السيدة عائشة، أو حتى تصرفاته مع زوجاته:

بالنسبة إلى عدد زيجات رسول الله، كانت تفاعلاً لشخصه كونه بشراً، ليس لها أي علاقة بالرسالة، وهذه طبيعة المجتمعات وقتها، وهو ليس ملاكاً بل بشراً له ميول ورغبات وتفاعل، كما يتفاعل مجتمعه وقتها.

(لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ  وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا) (سورة الأحزاب: آية 52).

الخطاب في الآية الكريمة للنبي، وكما ذكرنا من قبل أن ما حدث تفاعل للنبي وليس وحياً، ولكن جاء الوحي ليوقف هذه الزيجات، رغم أن هذا هو المتعارف عليه في ذلك العصر. عدم قدرة الفقيه على التفريق بين مقام الرسالة ومقام النبوة، وبين الوحي والتفاعل الإنساني المتأثر بالواقع، جعلهم يسيئون لرسول الله أشد إساءة.

زواج الرسول الكريم صلوات ربي عليه لم يكن بدعاً في مجتمعه، وليس له علاقة بمضمون الرسالة التي يحملها، فلا داعي لتحميل الأمر ما لا يحمل بالأساس. أتفهم غيرة الناس على الرسول الكريم، ولكن فهم المجتمع وقتها وفهم ظروفه يضع الأمور في نصابها بعيداً عن كونها ميزة أو عيباً. هل ينبني على هذه الزيجات أي أمور شرعية خارج ما جاء في القرآن؟ بالطبع لا.

بالمثل زواج الرسول من السيدة عائشة، والجدل القائم هل تزوجها الرسول وهي في عمر 9 سنوات، أم ثماني عشرة سنة؟ لماذا كل هذا الجدل؟ هل زواج الرسول من السيدة عائشة جزء من الرسالة، أم أن هذا الأمر يخص الجانب البشري للرسول، ويخضع لمجتمعه، وليس لنا أي علاقة به، ولا يمكن أن ينبني عليه أي حكم تشريعي.

من يتخذون تصرفات النبي أو التصرفات البشرية للرسول، ويريدون أن يشرعوا من خلالها أموراً ليست في كتاب الله هم المسيئون حقاً لمقام الرسالة، والجاهلون بمقام النبوة.

عندما ختم الله بالنبي صلوات ربي عليه، إنما كانت رسالة واضحة لا لبس فيها للبشرية. إن الحكم باسم الله قد انتهى وإلى الأبد، وعلى البشرية أن تعي ذلك جيداً، وتتعامل على هذا الأساس. لقد آن الأوان ليصبح العقل هو رسول كل إنسان، يهدي للتي هي أقوم، وينتهي عصر الوصاية؛ بسبب تطور القدرات العقلية لهذا الإنسان. للأسف الشديد وكعادة البشرية دائماً لم تستطع التخلص من الموروث القديم، وظلت متمسكة بشكل الوصاية بعد وفاة الرسول، والذي جاء في إعلان الخلافة.

إعلان انتهاء عصر النبوة من خلال القرآن، كان بمثابة الوثيقة التي أسست لعهد جديد تماماً، يملك فيه الإنسان مسؤولية ضخمة وتكليفاً عظيماً؛ بسبب ارتقائه، وقدرته على ذلك. لقد جاء إعلان الخلافة بمثابة عودة خطوة للخلف، وطلب استمرار حكم النبي دون أن ندري.

لو لم يكن كذلك فكيف يمكن لنا فهم دور الخليفة الذي يدعوه الناس خليفة رسول الله. لرسول الله مقامان لا ثالث لهما، وهما مقام الرسالة ومقام النبوة، وأما مقام الرسالة فليس لأحد أن يخلفه فيه؛ لأنها كانت متعلقة بنزول القرآن، والقرآن اكتمل.

أما مقام النبوة  فقد أعلن ربنا عن انتهاء هذا العصر، من خلال آية صريحة. من هنا لنا أن نتساءل عن مسمى (الخليفة)، والذي يعني أن يقوم الشخص المستخلف مقام المخلوف. هل يجوز لأحد أن يخلف رسول الله في أي من مقاماته؟ يبدو لي أن الأمر تم على أساس أن القادم سوف يعمل بعمل رسول الله، وعلى ذلك يمكن تسميته خليفة. التسمية بحسب مدلول الكلمة في القرآن ليست صحيحة، والناس مطالبون في هذا العصر الجديد بالتعقل وليس بالتقليد. هذا هو التوجيه القرآني، والذي سوف يزداد وضوحاً مع شرح وتوضيح دور القرآن في المرحلة القادمة، ودور ولي الأمر.

دعونا نستعرض هذا المثال المشهور لكي نوضح من خلاله دور النبي، وكيف حدث تداخل بين دور النبي ودور الرسول، وكيف تحول هذا التشويش إلى أمر خطير للغاية، يمكن أن يدخل في دائرة الكفر، وضلال لا مثيل له.

آية الرجم

آية الرجم المشهورة والواردة عند البخاري ومسلم. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ( إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ)(رواه البخاري 6442 ومسلم 1691 )).

أنا لست هنا معنياً بتفنيد سند الرواية ولا متنها؛ فقد قام باحثون أفاضل بالرد على هذه الرواية، وتفنيد كل كلمة فيها، ولكن سوف أتناول هذا الأمر من خلال مفهوم النبي والرسول.

لو سلمنا جدلاً أن رسول الله رجم، فهو لا شك رجم وهو بوصفه نبي يتفاعل مع النص القرآني في وجود عوامل كثيرة. لو أن النبي رجم بالفعل فلا يمكن إن يكون الرجم قد حدث في ظل وجود الآية الكريمة التي جعلت الجلد على الزاني، وإنما الطريق السليم في فهم هذه الحادثة الاعتقاد أنها حدثت قبل نزول آية سورة النور التي قررت الجلد:

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ  وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ  وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سورة النور: آية 2).

من الطبيعي إذا واجه النبي أمراً في حياته أو معضلة أن يجتهد قدر استطاعته لفهم هذه الحالة، ومن ثم يصدر حكماً عليها. في حالة عدم وجود نص صريح في كتاب الله، فليس أمام النبي إلا الاستعانة بما هو متاح في مجتمعه للقياس والمقارنة.

لقد كان الرجم في الشريعة اليهودية، فلا نستغرب أن رجمَ رسول الله اجتهاداً منه. إن كان نبي الله رجم فهذا الأمر لا يتعدى كونه تفاعل النبي مع الأحداث، ولا يمكن أن يكون قد حدث في ظل وجود آية الجلد؛ لأنه ببساطة لو رجم النبي في حالة وجود آية الجلد لكان نزل القرآن يعاتبه على ذلك، لماذا تخطيت آية الجلد إلى الرجم؟ أو أن القرآن  نزل يدعم ما فعل.  أما وأن كتاب الله خال من الرجم، فلا يمكن تجاوز ذلك أبداً.

أعلم أن التراث مليء بالأعاجيب، وأن أصحاب الحجر سوف يجدون أكثر من باب للالتفاف. سيقولون لك أن آية الرجم نسخت ورفعت وبقي حكمها، مستدلين برواية الشيخ والشيخة. إذا وصلنا إلى هذه النقطة، وأن هناك من هو مقتنع بمنطق كهذا، فلا نملك إلا أن نقول لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، فلا فائدة من شرح وتفصيل المزيد.

أسوأ شيء يمكن أن تسمعه من مدعي العلم، هو قوله أن آية الرجم نسخت حكم الجلد في حق الثيب أو المحصن. هذا ليس علماً ولا علاقة له بالمنطق؛ ولا يؤيده كتاب الله.  من قال أن قول النبي يمكن أن ينسخ نصاً إلهياً؟ من يملك الجرأة على قول ذلك، إلا شخص قدراته العقلية متواضعة للغاية.

لو يملك القائلون بالرجم مثقال ذرة من منطق، لقالوا حتى لو رجم رسول الله، فإن لدينا نصاً إلهياً لا يمكن تجاوزه، والصحيح أن النص الإلهي ينسخ كل قول عداه، ولا يمكن بحال من الأحوال أن ينسخ قولُ النبي النصَ الإلهي. هل يدرك القائل بأن قول النبي يمكن أن ينسخ النص الإلهي، هو بذلك اتخذ النبي رباً من دون الله؟ هل يدرك القائل بذلك أن في حالة اعتقاده ذلك هو في حالة شرك، وفي حالة إصراره مع بيان الدليل وقع في فخ الكفر؟.

يقع في الكفر كل من يجحد المعرفة مع بيانها ووضوحها، والضامن الوحيد للنجاة هو الإخلاص والبحث بصدق لمعرفة الحقيقة ومن ثم اتباعها.

عند فهم دور النبي، سوف نتمكن من تناول جميع الأحداث التاريخية على عهد النبي، من منظور تفاعل النبي مع مجتمعه، ولا يمكن جعله حكماً على الرسالة بذاته؛ لأننا كما ذكرنا لا نعرف الظروف المحيطة بهذه الأحداث مهما أوتينا من قوة. ولكن في المقابل لدينا نص إلهي عظيم، يفسر نفسه بنفسه. وسنظل نسترشد بأقوال النبي وأفعاله، ونعتز بنبينا الذي أدى الرسالة وصدق في التبليغ، ونعوذ بالله أن نجعله شريكاً لرب العالمين، أو نتخذه رباً.

سوف نختم هذا الفصل بمثال، لعل الله يفتح به آذاناً، وتفقه به قلوب، وهو مثال الأذان.  هذا المثال يوضح بصورة جلية كيف تفاعل النبي في ظل عدم وجود وحي وكيف تصرف.

قصة الأذن

كيف توصل النبي إلى الأذان؟ ولماذا استحدثه وهو لم يكن وحياً؟ ولماذا لم يوحه الله له مباشرة؟

لم يكن هناك شيء يمكن من خلاله إعلام الناس بوقت الصلاة، فتشاور رسول الله صلوات ربي عليه مع أصحابه لبحث الأمر، وإيجاد وسيلة لتنبيه الناس بوقت الصلاة. لاحِظْ أن الرسول تشاور مع أصحابه، ومع ذلك لم ينزل وحي يخبره بصيغة الأذان.

قال بعض الحضور: نرفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فاعترض بعضهم على هذا الرأي بأنه لا يفيد النائم ولا الغافل. قال آخرون: نشعل ناراً على مرتفع، فلم يُقبل هذا الاقتراح أيضاً. ها نحن نرى اقتراحات أو تفاعلات مع حالة موجودة، والأكثر من ذلك، الحضور هم من يشيرون على رسول الله، ورسول الله لم يقل إلى الآن رأياً.

أشار بعضهم إلى استخدام البوق، وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم، فكرهه الرسول صلوات ربي عليه.

أشار بعضهم إلى استعمال الناقوس، وهو ما يستعمله النصارى، فلم يقبله الرسول كذلك. بالنهاية أشار فريق بالنداء، إذ يقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها، فقبل هذا الرأي.

ها نحن نرى مناقشات تدور حول كيفية التنبيه للصلاة، ولم يأت وحي؛ بل كلها محض اجتهادات ممن حضر الواقعة.

أحد الصحابة وهو عبد الله بن زيد بن عبد ربه رأى صيغة الأذان في منامه، فأقره الرسول على ذلك. لا شك أن الناس يعتبرون أن قصة الأذان هي سنة عن النبي الكريم؛ لأنه أقر هذا الفعل. ليس ما يهمنا ذلك، وكل ما نبحث عنه هو هل ما حدث مع الأذان هو محض تفاعل لأشخاص، أم أنه وحي ملزم ؟

الإجابة على هذا السؤال بشكل منصف سوف تخبرك ماذا يريد الله من العباد. الله يريد منكم أن تجتهدوا وتتفاعلوا وتبذلوا قصارى جهدكم؛ لأن البشرية تتقدم بذلك، ولا تركنوا وتتكاسلوا فتهلكوا. الله يعطي مساحة للبشر لكي يتحركوا فيها، ويتحملوا مسؤولياتهم، ولكن البشر لا يرغبون بذلك، وهذا قصور في التفكير، وقصور في فهم دورهم ومفهوم العبادة.

قراءة التاريخ إن لم تُفِد الإنسان في قراءة الواقع تصبح عبئاً على الإنسان، ومن لم يستخلص منها فائدة فهي مضيعة للوقت. قصة الأذان هذه تعرض جانب التفاعل الغائب، وكيف كان يتعامل النبي ومن معه مع أمور الدين، والتي لم ينزل فيها نص. التفاعل والاجتهاد هذه هي صفة البشر الرئيسة. الفرق الرئيس بين اجتهاد النبي واجتهاد الآخرين أن النبي مخلص وصادق وأمين، وأكثر الناس نزاهة وحيادية في تعامله مع الأمور. لذا يلزم معاصريه اتباعُه ونصرتُه، حتى يبلغ ويؤدي ويقيم المجتمع.

لقد جاءت صيغة الآذان من خلال رؤية لأحد المعاصرين لرسول الله وليس رسول الله نفسه، أفلا يدل ذلك على مراد الله من عباده ؟ لماذا الإصرار الشديد على جعل النبي ربا أو نصف إله وهو برئ من ذلك  ولم يبلغ إلا ما أمره الله به وحفظه الله لنا في كتابه.

 نأتي بالنهاية إلى الحجة الشهيرة التي يسوقها كل مبتدئ عندما يتعرض لمناقشة وضع السنة بالنسبة إلى القرآن، وهي قصة الصلاة وكيف أصلي إذا رفضنا سنة النبي؟ 

هذا الطرح طرح طفولي للغاية، ومن يقرأ الكتاب ثم يطرأ على باله هذا السؤال فأنصحه بإعادة القراءة بهدوء وتريث. أنا هنا لم أتطرق لرفض سنة النبي بالمرة؛ ولكن أفرّق بين النص الإلهي وبين النص البشري حتى ولو كان مصدره النبي. النص الإلهي لدي هو النص المؤسس، والنص البشري هو نص استرشادي وغير ملزم، وسوف يتضح هذا الطرح من خلال فهم قصة الصلاة وكيف نصلي.

الأصل في الأشياء هو أن توافق كتاب الله، فإن وافقت كتاب الله قبلناها، وإن تعارضت مع كتاب الله رفضناها، وإن لم تتعارض مع كتاب الله بحثنا عن أفضل السبل لتحقيقها.

عندما نزل الأمر بالصلاة في الكتاب وهو (أن أقيموا الصلاة)، ثم ذَكر كتاب الله أن في الصلاة ذكرَ الله، وحمد الله، والثناء عليه، وبيّنت كثير من الآيات مواضع عدة في الصلاة. عندما قرأ رسول الله أقيموا الصلاة تفاعل مع هذا النص الإلهي وصلى بالكيفية التي وصلتنا. الحد الأدنى لقبول هذه الصلاة هو ألا تتعارض مع كتاب الله.

يقول بعضهم أن أوقات الصلاة في كتاب الله هي ثلاثة أوقات، وهذا بالفعل ما تحقق في الصلاة التي نصليها، والتي وصلتنا عن رسول الله. الصلاة لا شك فيها الركوع والسجود وذكر الله والقيام. إذن الأركان الأساسية متحققة، فما الذي يجعل إنساناً عاقلاً يرفضها. لا شك عندي أن الصلاة كانت تفاعل الرسول الكريم صلوات ربي عليه مع النص الإلهي الذي أمر بالصلاة، فلماذا أخالفه، طالما يحقق الحد الأدنى الموجود في كتاب الله؟

أما الذين يرغبون في المخالفة لأجل المخالفة ومحاولة إثبات وجودهم فكل إنسان عليه ما حمل. لو أن الصلاة التي وصلتنا لم يكن فيها القيام، لقلنا أنها تخالف كتاب الله، ولا بد للصلاة أن يكون فيها القيام كما أمر الله. لو عرضنا الصلاة على كتاب الله، ولم نجدها قد تحققت، أشرنا إلى ذلك دون أي غضاضة. أما وقد تحقق فيها الحد الأدنى وزيادة؛ فإننا نقبلها كما تفاعل معها رسول الله وأداها دون حرج.

من المعروف أن الوضوء مذكور بتفصيل أكثر من تفصيل الصلاة في كتاب الله، لكن هذا لا يعني أن الصلاة لم تذكر في كتاب الله كما يظن بعضهم، ولكن الشروط الأساسية للصلاة ذكرت في كتاب الله، وتفاعل معها النبي، وأداها بالكيفية التي وصلتنا، ونحن نقر بذلك. الذين يحتجون بأمر الصلاة هذا لكي يجعلونا نقبل كل معارض لكتاب الله، ندعو لهم بالهداية والبصيرة وعدم خلط الأمور.

قد يتبادر إلى ذهن أحدهم طالما أن الصلاة بهيئتها الحالية هي تفاعل النبي مع النص القرآني؛ إذن هي غير ملزمة ويمكن تغييرها.

السؤال: لماذا؟ لماذا تريد تغيير الهيئة، طالما لا تخالف كتاب الله؟ الذي يرغب في المخالفة من أجل المخالفة، للأسف الشديد قد يقع في فخ الخروج من مظلة الإسلام بالكامل، كما سوف نرى عندما نقوم بتحليل كلمة (مسلم و إسلام). الأصل في الإنسان الإنصاف وعدم التحيز، فإذا حاد عن الإنصاف وتحيز لشيء ما فقد البوصلة الأساسية. الحقيقة أن هيئة الصلاة الأساسية التي ذكرها القرآن تعطي مجالاً أوسع، وتتفق مع آيات كثيرة في كتاب الله لفئات كثيرة تؤدي صلاتها بطريقة ما، وقد أشار ربنا لذلك في كتابه.  عدم تحديد حركات الصلاة، وعدد ركعاتها في كتاب الله، يتوافق تماماً مع الرحمة التي يزخر بها كتاب الله، ويتوافق مع كون الله رب العالمين.

ربما يعتقد بعضهم أننا نزعم أن النبي لا يوحى إليه، وهذه مغالطة وافتراء. سنبيّن في الفصل القادم الفرق الجوهري بين وحي النبوة ووحي الرسالة، حتى نكون قد وضعنا النقاط على الحروف، ولا نشك لحظة في أن النبي أو النبيون يوحى إليهم من الله رب العالمين.

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع- عشر العصر

الفصل الأول - القرآن العظيم