الفصل الخامس عشر المزمل والمدثر
الفصل
الخامس عشر المزمل والمدثر
في هذا الفصل نحن على موعد مع سورة المزمل، والحالة الخاصة
التي يصفها هذا اللفظ في كتاب الله. ما معنى المزمل؟
وما الرسالة التي يرسلها الله لنا من خلال ألفاظ هذه السورة؟
جاءت الآية الأولى في السورة تحمل نداء لهذا المزمل: (يَا
أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ).العجيب أنّ المفسر القديم نسبَ جميع النداءات في كتاب
الله إلى النبي صلوات ربي عليه. فكلما رأى نداءً محيراً نسبه إلى الرسول، وكأنّ
القرآنَ رسالةٌ خاصة بين الله والرسول، وليس موجهاً لعموم البشرية. عندما خاطب
الله سبحانه وتعالى رسوله جاء الخطاب بلفظ (يا أيها الرسول) و(يا أيها النبي)، أما
النداءات الأخرى فهي نداء للإنسان بصفة عامة، يدخل ضمنها النبي بوصفه إنساناً،
وليست موجهةً إلى النبي على التعيين.
لكي نفهم ما المقصود بالمزمّل لا بد أن نرجع إلى أصل الكلمة
(زمل)، ومن ثمّ نفهم السياق الذي قيلت فيه الكلمة، حتى نصل إلى فهم شامل للحالة
القرآنية التي تشير إليها كلمة المزمّل.
أصل كلمة (المزمل) هو زمل، لها أصلان: أولهما: تحمّل ثقل من
الأثقال، والآخر: صوت. اعتماداً على أصل الكلمة، قال المفسرون: إن المقصود بالمزمل
هو المتحمّل أعباء النبوة والرسالة، وهو رسول الله صلوات ربي عليه. لكن لو نظرنا
إلى المطلوب من المزمل لعلمنا أنّ الإنسان بصفة عامة هو المخاطب؛ لأن الآية
الرابعة تطلب منّا ترتيل القرآن: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)
(سورة المزمل: آية 4). الرسول كما نعلم مطالب بالتبليغ، والإنسان بصفة عامة مطالب
بترتيل القرآن، ويدخل في هذا الخطاب الرسول بصفته البشرية، فما هو الترتيل؟
في لسان العرب لابن منظور أصل كلمة (رتل) هو حسن تناسق
الشيء. وجاء في مادة رتل في لسان العرب: "في التنزيل العزيز: ورَتِّل القرآن
ترتيلاً؛ قال أَبو العباس: ما أَعلم الترتيل إِلاَّ التحقيق والتبيين
والتمكين". عندما نضيف مفهوم (رتل) إلى معنى كلمة (القرآن)، والتي قلنا
مراراً أنها تعني الشيء القابل للقراءة، نجد أنّ المخاطب هو الباحث وطالب العالم،
الذي يريد فهمَ الآيات ودراستها وفهم مكنونها.
من هنا نستطيع القول أن المخاطب في أول السورة هو كل باحث
يحاول فهم هذا الكتاب الإلهي العظيم وقراءته. ليس المقصود إطلاقاً الذين يتلون
منطوق الآيات، بل الذين يقفون على الآيات مقارنةً وقياساً، وهذا هو الترتيل. بقول
الله: (يا أيها المزمل) نداء لطالب العلم، المجتهد المتحمل هذا العبء.
من عجائب اللغة أن لفظ (زميل) والمشتق أيضاً من الأصل زمل؛
يعني باحث في جامعة بمفهومنا المعاصر، مما يؤكد النظرية التي نرتكز عليها في فهم
اللغة؛ وهي أن اللغة هبة إلهية، ولها نظام وبرنامج دقيق، وليست لغة اعتباطيةً
تتلاشى فيها أحياناً علاقة الدال بالمدلول.
إذا تساءل الإنسان كيف أستطيع فهم أمرٍ، أو حتى كيف أستطيع
تدبر آيات الله على مستوىً متقدم؟ نقول له الإجابة جاءت في سورة المزمل.
سورة المزمل تحمل إرشاداتٍ لهذا الباحث، أو إن جاز لنا
التعبير (زميل الترتيل القرآني)، حتى يستطيع إتمام عمله على أكمل وجه. ما هي هذه
الإرشادات؟ وكيف نفهمها؟
جاءت هذه التوجيهات في الآيات الثلاثة التالية، ترشد هذا
الباحث إلى قيام الليل ومتابعة العمل بالليل، ولم تحدد الآيات حداً معيناً من
الليل؛ ولكن جاء فيها الزيادة والنقص، وهذا التراوح بين الزيادة والنقص لا شك
معتمد على الباحث نفسه. المستفاد من هذا الترتيب وهذا الإرشاد الرباني هو بذل
الجهد قدر المستطاع، ومحاولة القيام بالعمل البحثي في فترات الليل.
(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)
نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ
الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا(4))(سورة المزمل: آيات 2-4).
يبدو لنا أن الإرشاد الرباني الذي يشجع على البحث والقراءة
في فترات الليل، إنما يرتبط بعمليات حيوية تعزز هذا الإجراء.
يقول الباحث ألبريشت فورستر في جامعة توبنجن الألمانية: إن
عملياتٍ حيوية عديدةً تبدأ في الدماغ، وهي في أثناء النوم تكون أكثر من أي وقت.
تبعاً لهذا الباحث فإننا في حالة الاستيقاظ يتم بناء اتصالات بين الخلايا العصبية،
ومع النوم تبدأ عملية إعادة البناء والترتيب داخل الدماغ، إذ يساعد النوم في هذه
الحالة على عملية التنظيف والترتيب داخل الدماغ.
النوم بحسب رأي الباحث يلعب دوراً هاماً جداً في تثبيتِ
المعلومات، وإعادة تنظيم الذاكرة، ويحوِّلُ المعلومات الموجودة في الذاكرة إلى
معرفةٍ ذات كفاءة عالية.
الآن نستطيع القول: إن العملَ الذهني أثناء الليل بمثابة
شحذ الدماغ بكمٍ من المعلومات والمعرفة، وما إن يلجأ الإنسان إلى النوم حتى تتم
إعادة ترتيب هذه المعلومات وتنظيمها، بشكل يساعد على الاستنتاج والفهم والتحليل.
بعيداً عن النتائج العلمية والأبحاث في هذا المجال، إلا أنّ المشاهد اليومية تؤكد
نجاح استراتيجية العمل الذهني ليلاً، وكيف يشعر الإنسان عند الاستيقاظ بأنه أكثر
قدرة على فهم ما لم يفهمه، بل ويجد أنّ قدرته على معالجة النواقص أكثر كفاءة.
يبدوا أن القيام ليلً لأداء مهمة البحث
والفكر مهمة شاقة، وقد عبرت عنه الآية
التالية بالقول الثقيل.
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا
ثَقِيلًا) (سورة المزمل: آية 5).
في هذا الآية إشارة إلى الاتصال الإلهي والذي بدوره يمنح
الإنسان فهماً، أو يلقي عليه أمراً، كما أشارت آيات كثيرة إلى ذلك؛ من أن الإنسان
الذي يجتهد قدر استطاعته يفتح له الله ما لا يتوقعه. مثال ذلك الآية في سورة النجم
التي تشير إلى أن على الإنسان السعي وتبشره بأن سعيه لن يضيع هباء.
)وَأَن
لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40)
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ(41)((سورة النجم: آيات39-41).
وكذلك الآية المشهورة في سورة الكهف التي تؤكد على أن الله
لا يضيع أجر من أحسن العمل. " إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ
ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا"(سورة الكهف
: آسة 30).
الآيات التالية تشرح لماذا الليل هو المعني بالعمل الذهني
والبحث والتدبر:
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ
وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا(6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا(7))(سورة المزمل: آيات 6-7).
قال المفسرون في الآية الأولى: إن المقصود بـ (ناشئة الليل)
هو بدايته، وقال آخرون: بل هو كلُ الليل. النشء هو نوع من التكوين، فتصبح (ناشئة
الليل) تعني تكوين الليل أو طبيعة الليل. أما لفظ (وطئاً) فهو كما جاء في قاموس
اللغة يعني تسهيل الشيء وتمهيده. فيصبح مفهوم الآية الكريمة هو أن تكوين الليل
وطبيعته أكثر ملاءمة وتمهيداً لما سوف تقوم به، وهو العمل الذهني والتدبر وترتيل
الآيات.
لا بد أن نلاحظ أن هذه الآيات تتحدث عن الوضع الطبيعي، وليس
الإنسان المجهد المتعب، وكذلك تتحدث عن جزءٍ من الليل وليس الليل كله. قيام الليل
بالنسبة للإنسان المجهد في دراسة أمرٍ ما وبحثه، لن ينفعه في شيء؛ لأنه لن يستقبل
التسهيل الإلهي والفتح بسبب الإجهاد. إننا نتحدث عن حالة خاصة جداً، وهي التدبرُ
ومحاولة فهم الأشياء؛ فأوقات الليل مناسبة تماماً لهذه الحالة.
الآية التالية تشرح سبباً إضافياً ليكون الليل أكثر ملاءمة
للبحث والترتيل؛ وهو أنَّ النهارَ معاشٌ، أو أن النهار فيه سبحٌ طويل:
(إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا
طَوِيلًا) (سورة المزمل: آية 7).
السبح في النهار هو الحركة المستمرة، والتي بدورها تمنع
التفكر والتدبر؛ ولذلك الليلُ وطبيعةُ السكون فيه هي الأنسب في حالة التدبر
والترتيل.
السورة الكريمة تأخذ بيد الباحث أو كما قلنا زميل الترتيل
خطوة بخطوة، وتشرح له ما يجب عليه فعله في سبيل تحقيق نتائج جيدة في ترتيل القرآن.
جاءت الآية التالية لتضع اللمسات الأخيرة التي سوف تكلل العمل بالنجاح، وهي
استحضار الرب وصفات الرب القادر ذي العلم المحيط بكل شيء، ثم التبتل إليه.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ
إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) (سورة المزمل: آية 8).
لفظ (التبتل) أصله بتل، ويعني إبانةُ الشيء من غيره. يقال
بتَلْتُ الشيءَ، إذا أبَنْتَهُ من غيره. الآية تذكِّر الإنسان بالإخلاص في العمل،
وتحري الدقة في إبانة الشيء من بعضه بعضاً، وهذا ما يفعله الباحث تحديداً في كل
العلوم، وهو محاولة تدقيق كل شيء وتفصيل كل أمر.
أكتفي هنا بالآيات الثمانية من سورة المزمل، حيث يمكن تلخيص
الفكرة الرئيسية التي دارت حولها السورة كالأتي:
سورة المزمل أو لفظ (المزمل)
يشير بشكل حصري إلى الباحث أو زميل الدراسة بمفهومنا المعاصر، وفي هذه المرحلة ليس
مطلوباً من المزمل سوى التعلم، وجمع أكبر قدر من المعرفة والبيان.
ليس مطلوباً من المزمل أن يُنذر أو يتصدى لأيِّ أمر، وهو
ترتيب رباني عظيم؛ لكي يزداد تركيز المزمل على تحصيل العلم وكفى. مرحلة الإنذار
ونقل هذه المعرفة هي مرحلة المدثر، والتي شرَحَتْها سورة المدثر التالية.
من هو المدثر ؟
الآية الأولى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (سورة المدثر:
آية 1).
فعل (دثر) له أصل واحد، وهو: تضاعف الشيء وتناضده بعضه فوق
بعض. جاءت سورة المدثر بعد سورة المزمل التي وصفت ذلك الباحث المجتهد الذي يقوم
الليل ولا يفتر في طلب العلم، حتى إذا تراكم العلم لديه طلب اللهُ منه أن يقوم
فينذر. ليس هناك أدلّ على أن لفظ (المدثر) يعني ذلك الممتلئ بالعلم من قول الله
سبحانه في الآية التالية قم فأنذر.
الآية الثانية: (قُمْ فَأَنذِرْ) (سورة المدثر: آية 2).
لا يقوم وينذر إلا من امتلك
قدرة حقيقة على التفنيد ورد الادعاءات، وهذه القدرة لا تأتي هكذا دون تراكمٍ
حقيقيٍّ للمعرفة، التي تثمر بدورها علمًا وفهمًا.
لاحظ أننا نتحدث عن تكوين العالِم الحقيقي، وليس الشخص
العادي، حتى لا يختلط الأمر على الناس.
إذا أردنا قياس مفاهيم المزمل والمدثر بمفاهيمنا المعاصرة؛
فإنْ كان لفظ (المزمل) أقرب ما يكون لزميل الجامعة أو الباحث في طور البحث والعمل،
فإنّ (المدثر) هو المرحلة التالية؛ وهي الأستاذ أو ذلك الشخص الناضج علميًا
ومعرفيًا.
سورة المزمل وكذلك المدثر أشارتا إلى السبيل الذي يجب أن
يسلكه الباحث إن أراد علماً وفهماً، فليس هناك سماء تمطر معرفة، وليس هناك وصفة
سحرية يمكن أن تجعل الإنسان عالماً أو باحثاً؛ إنما هو طريقٌ طويلٌ وشاقٌّ، طريق
يبدأ بالبحث والسهر والتقصي. ليس مطلوباً من هذا الباحث أو الزميل أن ينشر علماً
أو يتعجل، بل أن يكون جُلُّ هدفه الاستزادة، حتى إذا امتلأ علماً قام مقام المدثر.
هذه السورة العظيمة تنقل لنا
صورة مكتملةً لهذا المدثر، وسوف نحاول بقدر ما فتح الله لنا أن نفهم علاقة المدثر
ببعض الآيات المذكورة في السورة الكريمة.
الآية الثالثة: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (سورة المدثر: آية 3).
لا شك أن التعرض لعملية نقل العلم عملية شاقةٌ ومحفوفة
بالمخاطر؛ لذلك كان الإرشاد الرباني أن يجعل المدثرُ ربَّه نصب عينيه، وهو أكبر من
كل ما سوف يواجِهُه. إذا واجه المدثرُ تكذيباً أو استهزاءً أو إيذاءً أو كفراً،
فالمقابل أعظم بكثير الذي وعد اللهُ الصادقين. هذه الآية هي بمثابة إعدادٍ جيِّدٍ
للمدثر، وتهيئةٍ لما سوف يتعرض له، فمهما تعرّض لمتاعب فليجعلْ أمرَ اللهِ أكبرَ،
حتى ينجز ما يرغب في إنجازه.
الحقيقة التي لا تقبل الشك أن كل الذين جاؤوا بأمور غير
سائدة واجهوا المتاعب، خصوصاً إذا كانت المجتمعات بسيطة ومتواضعة. يبدو الأمر أفضل
في المجتمعات الحرة؛ إذ يكون هناك مجال متسع للتعبير عن الأفكار وعرضها، وللإنسان
حق التعامل معها بشيء من الحرية. التوجيه الرباني يُعِدُّ المدثرَ للتعامل مع كل
المنغصات والإحباطات التي قد تجرُّها عليه هذه المهمة.
الآية الرابعة: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (سورة المدثر: آية
4)
(الثياب) أصلها ثوب، وهو العطاء أو النوال، وليس
المقصود هو الثوب الذي يرتديه الإنسان. ما يزيد الدليل على أن المقصود بالثياب هو
العطاء أو النوال هو أن مفهوم التطهير جاء في كتاب الله واصفاً الأشياء المعنوية،
مثل القلب والنفوس.
الثياب التي يرتديها الإنسان هي أحد معاني الثياب، ولكنها
هنا ليست الثياب التي نعرف؛ بسبب اقترانها بمفهوم الطهارة، والتي وصفتْ كلَّ ما هو
معنوي. من هنا يكون مقصودُ (وثيابك فطهر) هو العطاء الذي أفاض الله به على هذا
المدثر، بأن يجعله زكياً، لا يطلب به رياءً ولا سمعةً، ولا يسخِّره لخدمة غرضٍ ما.
التطهير تخليص الشيء من كل ما يشوبه، فإذا كان الحديث عن المدثر الذي نال حظاً من
العلم، وجاء دوره لكي يقوم بهذا العلم؛ فإن ابتغاء وجه الله بهذا العلم وعدم رجاء
أحد به غير الله هو ديدن العلماء. كلُّ من يأكلون على موائد الحاكم بهذا العلم،
وخصوصاً في المجتمعات غير الحرة، هو رجس وخلاف الطهارة.
القرآن يرشد العلماء إلى اجتناب كل ما يمكن أن يدفعهم
للإنحرافَ، أو يؤثِّر بشكل سلبي فيما يقولون ويجعله موظفا لأغراض خبيثة أو
استعماله في تضليل الناس، وأن يكون خالصاً لوجه الله، ليس لأحد فيه شيء. التعبير
القرآني وثيابك فطهر تحذر كل ذو عقل رشيد
من أن يقع في الضلال فيستعمل الحق والعلم في تثبيت أركان الباطل وخلط الصحيح
بالخطأ، فيفسد الصحيح ولا ينفع.
الآية الخامسة: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (سورة المدثر: آية
5).
معنى (الرجز) هو الاضطراب. وهنا أيضاً توجيه رباني لهذا
المدثر، إذا كان في موقف الإنذار أو نقل العلم أن يكون متثبتاً واثقاً، ولا يَدخل
في الأمور التي لم يتوثق منها ويفهمها جيداً. آفة العالِم أن يتكلم في كلِّ شيء،
فعندما يصبح العالِم له صوت يصل بسهولة إلى مسامع الناس لربما أغراه ذلك للقول في
كلِّ أمر، حتى أنه يقول في أمور ليس واثقاً فيها بالقدر الكافي، أو لم يعطها حقها
في البحث والتقصي. لذلك جاءت هذه الآية تشير إلى ترك الرجز؛ أي الاضطراب أو القول
قبل التّثبت.
الآية السادسة: (وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) (سورة المدثر:
آية 6).
في هذه الآية الكريمة يبدو لي الأمر أنه نهي عن الأكل بهذا
العلم؛ بمعنى لا تطلب بما وهبك الله أو بهذا العلم الاستكثار. الاستكثار هنا لفظ
عام. قد يكون الاستكثار في المال أو المنصب أو الشهرة. النهي جاء هنا حتى لا
يتلوّث العلم بمقاصد تُضعفُ العلم وتحوِّلُ وجهته. البشر بطبعهم يميلون لكل مظاهر
الدنيا، ولذلك جاءت الآية التالية لتعالج هذه المسألة، وذلك بالصبر وعدم طلب
الدنيا بالعلم، وهذه درجة الرسل، وليست درجة سهلة أبدًا.
الآية السابعة: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (سورة المدثر:
الآية 7)
إذا طلب العالِم الدنيا بالعلم فسَدَ العلم، وضل العالِم،
وأضل الناس؛ لذلك لا بد من تذكِّر هذه الآية جيداً (ولربك فاصبر) أي من أجل ربك
تحلَّ بالصبر ولا تتعجل، وعالج هذه الرغبات دائماً بذكر الغرض الأسمى الذي من أجله
تعمل.
الآية الثامنة وحتى العاشرة: (فَإِذَا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ
غَيْرُ يَسِيرٍ (سورة المدثر: آية 8- 10).
الناقور اسم آلة، وعلى ذلك فهو الآلة التي تَنقر، والنقر هو
إحداث ثقب بشكل سريع. فإذا نقر في الناقور؛ أي أن الناقور نفسه تم عطْبه أو إحداث
ثقبٍ فيه. إذا تم إحداث ثقب في الناقور فسوف يتعطل، ونتيجة هذا العطل يصبح الأمر
عسيراً على الكافرين غير يسير. يقول أهل اللغة: إن اسم (ناقور) على وزن فاعول، وهو
اسم آلة، بل مبالغة في الآلة. الحقيقة أن لفظ (الناقور) يوحي بذلك، إذ إنه اسم
آلة، وفيه من المبالغة، فهو يشير إلى قوة هذا الناقور وقوة فعله.
إذا عدنا لموضوع السورة الكريمة، وهو الإنذار والتذكير
بواسطة الباحث الناضج وهو المدثر، فإننا سوف ندرك معنى النقر في الناقور.
الآية الكريمة تتحدث عن تفنيد الافتراءات التي يأتي بها
الكافرون، وكأنها بالفعل تُحدث ثقوباً في البنية المعرفية للمؤمنين، فإذا تصدَّى
لها ذو علم، وفنَّدها بشكل سليم، وأفسد الآلية التي يرتكن إليها هؤلاء، فلا شك أن
هذا اليوم هو يوم عسير على الكافرين. الناقور هو الآلية التي يستخدمها بعضهم في
إحداث ثقوب في البناء المعرفي لبعض الناس، عن طريق تشكيكهم فيما يعتقدون.
مهمّة المدّثّر كما نرى ليست مجرد الرد، بل كسر الناقور
نفسه، من خلال بيان تهافت الطريقة التي يستخدمها هؤلاء. لا شك أننا نتحدث عن مستوى
متميزٍ من العلماء، يملكون الأدوات، و يجيدون استخدامها. هذه الآية توضح لنا سلوك
الكافرين، وبالمقابل سوف نرى كيف يكون سلوك المسلم.
في حالة تبيّن خطأ الطريقة التي ينتهجها الإنسان في فهم أمر
ما، فإنَّ الإنسان المسلم سوف يُذعن للحق؛ لأنه بطبيعته التي أرشد إليها القرآن
غير متحيز ويخضع للحقيقة.
أما في حالة الإنسان المتحيز فما يحدث هو العكس تماماً؛ سوف
يُسقط في يديه، ويرى أن مكانته قد اختلت، فيستكبر ويجحد، ولذلك لن يكون اليوم عليه
سهلاً أبداً. هذه الأمثلة نقرأ عنها ونراها كثيراً، كيف أن هناك من ينقاد للحقيقة
بمجرد بيانها أو حتى الإشارة إليها، وكيف أن هناك من يستنكف عنها ويستكبر.
رغم غزارة ما تحمله سورتا المزمل والمدثر إلا إن تتبعهما
بالكامل شيء ليس سهلاً أبداً، وحسبنا أننا أشرنا إلى هذه الإشارات؛ لعلها تنفع
المؤمنين، ويأتي من يستثمرها في فهم جميع الآيات الكريمة، وعلى الله قصد السبيل.
تم بحمد الله
Comments
Post a Comment