الفصل الرابع- عشر العصر
الفصل
الرابع عشر العصر
كثيراً ما استوقفتني سورة العصر وتعبيراتها البسيطة،
وتساءلت ما المقصود بهذه السورة، وماذا يعني العصر؟ هل العصر حقًا هو وقت، أم أنه
يعني الزمن أو الدهر؟ وما دلالة تسمية سورة كاملة بهذا الاسم؟ ما إن تم تحليل لفظ
العصر إلا وبانت عظَمةُ هذه السورة وروعة تعبيراتها.
في البداية دعونا نفهم ما معنى (سورة) التي وصف بها ربنا
سُوَر القرآن الكريم؟؛ لأنّ فهم لفظ سورة، والوقوفَ على هذا المصطلح الذي لم
تعهدْه العرب، سوف يجعلنا نتعامل مع القرآن بشكل مختلف عما نتعامل به حالياً.
ورد في معنى كلمة سورة عدة معانٍ، منها اللغوي، ومنها
الاصطلاحي بحسب الفهم التقليدي:
المعنى اللغوي
السُوْر: الحائط، والسُوَر: جمع سورة: وهي كل منزلةٍ من
البناء، ومنه: سورة القرآن، لأنها منزلةٌ بعد منزلةٍ مقطوعة عن الأخرى، والجمع:
سُوَر (بفتح الواو)، ويجوز أن يجمع على: "سوْرات" بسكون الواو وفتحها.
والسورة في كلام العرب: الإبانة لها من سورة أخرى، وانفصالها عنها. وسميت بذلك
لأنه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة، وقيل: سميت بذلك لشرفها وارتفاعها؛ كما يقال
لما ارتفع من الأرض: سور، وقيل سميت بذلك لأن قارئها يشرف على ما لم يكن عنده؛
كسور البناء. (كله بغير همز). وقيل: من السؤر (بالهمز): من قول العرب للبقية: سؤر،
وجاء في أسآر الناس: بقاياهم، وقيل: سميت بذلك لتمامها وكمالها؛ من قول العرب
للناقة التامة: سورة.
المعنى الاصطلاحي
(الطائفة المترجمة توقيفًا؛ أي المسماة باسم
خاص بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، أو هي: طائفة من آيات القرآن جُمعت، وضم
بعضها إلى بعض حتى بلغت في الطول المقدار الذي أراده الله تعالى لها).
بعد استعراض الفهم التقليدي وتقسيماته، دعونا نحاول فهْم
هذا اللفظ من خلال منهجنا الذي نستخدمه في فهم اللفظ القرآني.
السؤال الأول الذي يجب أن نطرحه هو: ما معنى كلمة (سورة)؟
وما خصائصها وصفاتها؟
أصل الكلمة هو سور، وهي تعني العلو والارتفاع، والسُّوَر
جمع سورة، وهي كل منزلة من البناء، بحسب قواميس اللغة.
لدينا في القرآن لفظ (سار) وأصله سير، ولفظ (سورة) وأصله
سور، وهما لفظان متقاربان، إذ الاختلاف الوحيد هو الحرف الأوسط، والذي جاء في لفظ
(سير) ياءً، وفي لفظ سور واواً.
ما هو السير كما جاء في القرآن؟
السير هو الانتقال من مكان إلى مكان. الشخص الذي يسير هو
شخص ينتقل بشكل كلي من مكان إلى مكان آخر، وهذا المعنى جاء كثيفاً في كتاب الله،
وعلى سبيل المثال:
(فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ
بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي
آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ
لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (سورة القصص: آية 29).
سير نبي الله موسى هنا هو انتقال متكرر من مكان إلى مكان،
وغالباً ما يطلق السير على المسافات الطويلة، والتي تتطلب توقفاً متكرراً.
إذا تتبعنا لفظ (سور) في القرآن، فسوف نجد أن هناك ثلاث
آيات كريمة، يمكننا من خلالها فهم خصائص هذه الكلمة وصفاتها.
الآية الأولى: (يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ
وَٱلْمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ
قِيلَ ٱرْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ
لَّهُۥ بَابٌ بَاطِنُهُۥ
فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن
قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ) (سورة الحديد: آية 13).
ضرب السور كما هو واضح من الآية الكريمة هو مدُّ خطٍ فاصلٍ
بين فريقين. إذا كان السير هو انتقالٌ من نقطة إلى نقطة بشكل متقطع، فإن لفظ (سور)
هو انتقال من نقطة إلى نقطة بشكل متصل. حتى يتضح المعنى نفترض وجود ستارةٍ ما، إذا
نقلْتَ هذه الستارة من نقطة إلى نقطة أخرى فهذا هو السير، أما إذا امتدَّت
الستارةُ من نقطة إلى نقطةٍ أخرى فهنا أصبحت سوراً. النتيجة الطبيعية للسير هو
الانعزال عن نقطة البداية، عن طريق إطالة المسافة بين النقطتين؛ أي مدُّ البعد
الجغرافي. أما نتيجة السور هو عزلٌ بين نقطتين، مع بقاء التقارب جغرافي.
الآية الثانية التي يمكن من خلالها الغوص بشكل أكبر لفهم
لفظ (سورة) هي الآية في سورة ص.
الآية الثانية: (وَهَلْ
أَتَىٰكَ نَبَؤُا ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا ٱلْمِحْرَابَ ) (سورة ص: آية 21).
تسوَّر القومُ المحرابَ؛ تعني أنهم أحاطوا بنبي الله،
وصنعوا ما يشبه السور حوله. التسَوُّرُ هنا هو عزل الشيء المُسوَّرِ عن الخارج، عن
طريق الإحاطة به بشكلٍ ما.
الآية الثالثة: (فَلَوْلَآ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ
مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (سورة الزخرف: آية
53).
رغم أنَّ بعض المفسرين قالوا عن لفظ (أسورة) هنا أنها لفظ
غير عربي، إلا أنَّ أصل الكلمة (سور) والحالةَ التي تصفها الأسورة -وهي الإحاطة
بالمعصم- يتكاملان؛ فتعطينا لمحة عن أن السورة هي الشيء الذي يحيط بشيء آخر.
من خلال ترتيب المعطيات التي بأيدينا نستطيع أن نقول: إن
لفظ (سورة) من خصائصه الامتداد من نقطة إلى نقطة أخرى، والإحاطة بالشيء، بحيث يكون
وحدةً منفصلةً و معزولة عن محيطها بشكلٍ ما.
الآن سوف نطبق لفظ (سورة) على سور القرآن؛ لنرى إلى ما
تشير. لكي تسمى سورة في القرآن بمسمى (السورة) فلا بد أن تشملها خصائص المسمى
وصفاته؛ بمعنى أن سورة القرآن يجب أن تكون متصلة من أول آية إلى آخر آية، وتحيط
بشيء ما، وهو بالتأكيد موضوع السورة.
هذا يعني أن كل آيات السورة لها علاقةٌ ما ببعضها، ورغم أن
كثيراً من المفسرين يعتقدون أن كثيراً من سور القرآن تناقش قضايا مختلفة داخل
السورة الواحدة، إلا أنّ تحليل لفظ (سورة) لا يؤيِّدُ ذلك إطلاقاً. إن كنّا لا
ندرك العلاقة بين الآيات بعضها ببعض، فهذا ليس معناه أنَّ السورة تناقش موضوعات
منفصلة؛ بل يعني أننا لم ندرك هذه العلاقات؛ لذا يجب تكثيف البحث في هذا الاتجاه.
لو أضفنا إلى لفظ (السورة) الخاصية الفريدة التي تحملها
كلمات الله، وهي الإعجاز والبلاغة، لأدركنا أن لفظ (سورة) يعني بمفهومنا المعاصر
مفهوم النظرية بلا أدنى تردد.
السورة بهذه الخصائص والصفات تعني بمفهومنا المعاصر مفهوم
النظرية.
النظرية أو وجهة النظر هي وصف لظاهرةٍ ما، بشكل موجز وبليغ،
وفي أقلِّ عددٍ من الكلمات، بحيث تعبِّر هذه الكلمات عن الظاهرة بشكل سليم.
النظرية البشرية قد يعتريها الخلل؛ لأنها ببساطة شديدة وجهةُ نظر بشرية، ربما غاب
عنها بعض المعلومات، أو لم تأخذ في الحسبان بعض العلاقات بين مكونات الظاهرة التي
تصفها، أو أنها لم تستطع استيفاء جميع الخصائص والصفات التي تحيط بالظاهرة بشكل
متكامل.
بينما السورة ومعناها القرآني هي وصفٌ من الخالق، أو
النظرية التي وضعها الخالق لوصف شيء ما، والإحاطة به بشكل متكامل، وهذا الوصف هو
وصف حقيقيٌّ ودقيقٌ للغاية؛ لأنها وصف من صاحب العلم المحيط.
هل أدركتم الآن هذا الكنز الثمين، والذي لم يقدره الكثيرون
حق تقديره؟.
كنزٌ لا يقدر بثمن، كتاب به 114 سورة، أو قلْ نظرية تصف
الكون وعلاقاته المتشعبة، وعلاقة الإنسان بهذا الكون، سواء على المستوى المادي أم المستوى
غير المادي. ومع ذلك أُهمِلَ هذا الكتاب، لدرجة لم نصل لفهم لفظ (سورة) وما تشير
إليه إلى يومنا هذا.
حتى أقرِّب لك الأمر، تخيَّل أنّ علماء العالمِ اجتمعوا
وكتبوا كتاباً فيه نظرياتُ كل شيء، نظريات في العلوم الطبيعية، نظريات في العلوم
الإنسانية، نظريات تصف علاقة الإنسان بكل ما حوله، نظريات تصف علاقة مكونات الكون
بمنتهى الدقة. ثم صاغوا هذه النظريات في عبارات لا أروع ولا أجمل من ذلك، من ناحية
جمال تعبيرها، ودقة كلماتها وإحكامها. ثم دفعوا هذا الكتاب إلى أهل قريةٍ ما،
وقالوا لهم دقِّقوا النظر في كل كلمة في هذا الكتاب؛ فهو عبارة عن وصفٍ وتفصيلٍ
لكل شيء.
فتحوَّلت بعد فترة عبارات هذا الكتاب ونظرياته إلى مبارزة
موسيقية بين بعضهم بعضاً، وأصبح مجرّد حفظِ العبارات التي وردت في الكتاب غايةً في
حدِّ ذاتها. وصار من يحاول فهم هذه العبارات، أو من يشير إلى ما تحتويه مثيراً
للقلاقل والفتن.
تخيَّل أن أهل القرية يردِّدون صباحاً ومساءً قانون نيوتن
الأول: "الجسم الساكن يبقى ساكناً، و الجسم المتحرّك يبقى متحركاً، مالم تؤثر
عليه قوى ما"
يرددون القانون بكل المقامات الموسيقية المتاحة، ويدفعون
أولادهم لحفظ القانون بكلِّ ما أوتوا من قوة. ترديد القانون الفيزيائي بمقام
النهاوند لن يصنع منك عالماً ولا قارئاً لقوانين الطبيعية. هذا ليس تقليلاً من
إتقان النطق بالقرآن وتجويده، بقدْرِ ما هو وضعٌ للأمور في نصابها، حتى لا تظنّ
الأجيال القادمةُ أن هذا هو المطلوب منهم تجاه آيات الله.
يجب أن يعلمَ كلُّ جيلٍ أن عليه مسئولية البحثِ والتدبر،
وبذل الجهد في فهم آيات الله. يجب أن تعلم الأجيال أن آيات الله ليست حكاياتٍ
شعبيةً يتسامرون حولها، أو أشعاراً تثير الشجون والحنين فقط. لا شكَّ أن مجردَ
الاستماعِ لآيات القرآنِ بصوتٍ جميلٍ متعةٌ، وهي صفةٌ من صفات هذه الآيات
العظيمةِ، ولا يمكن أن نُنكرَ على أحدٍ هذا، بل نؤيدهُ ونشجعهُ، ولكنَّ المطلوب هو
إدراك المراد منه، ووضع كل أمرٍ في نصابه حتى لا تضيع الأولويات.
إنها عبارات وكلمات خالق الكون، يصف من خلالها كلَّ شيء،
مكانها تحت المجهر، وفي أروقة المعامل، وعلى طاولة بحث العباقرة من كل جيل.
الجموع الغفيرة التي ترى في التدبر ثقلاً وهماً، وفى الفهم
تكلفاً وجهداً، لا يرون حاجة ملحة في أن يعرفوا ماذا يعني قانون نيوتن الثاني
وماذا يصف.
ماذا سوف يعود عليهم إن عرفوا أن القانون الأول لنيوتن يصف
القصور الذاتي للأجسام، أو أن القانون يفسِّر حركة الطائرة إذا غيَّر الطيَّارُ
وضع الوقود، أويصف السقوط الحر لجسم في
الجو، أو إطلاق صاروخٍ عبر الغلاف الجوي.
كل هذا الهراء الفكري مثيرٌ للقلق، وباعثٌ على الإزعاج. لك
أن تتخيل كيف ينظر العلماء الذين وضعوا هذه القوانين إلى أهل هذه القرية؟ كيف لم
يستطع أهل هذه القرية إدراك أهمية ما بين أيديهم، وتعاملوا مع الكتاب بشكل بسيطٍ
للغاية.
كيف لم يُثر انتباههم كمُّ هذه التعبيرات التي تتحدث عن
نشأة الأشياء ومآلها، وكيف لم يلتفتوا إلى كمِّ التراكيب اللغوية العجيبة،
والكلمات الفريدة، التي تصف الأشياء وتتحدث عنها. اليوم أصبح مفهوماً إلى حد كبير
لماذا يشتكي أهل القرية من الجهل والظلم، وسوء العيش والنكد والضنك. هكذا هم بعض
الناس؛ إن أعطيتهم مكتبةً أحرقوا كتبها في برد الشتاء، وإن منحتهم سفينةً صنعوا من
خشبها كوخاً تعيساً على الشاطئ.
نظريات معرفية يموج بها كتاب الله، كل سورة نظرية، أوَّلُها
مرتبطٌ بآخرها، وتحيط إحاطةً تامة بموضوع معين، هو في الغالب اسم السورة. نعم، اسم
السورة هو الموضوع الرئيس الذي تتحدث عنه السورة القرآنية، وتدور الأحداث حوله،
ويكمن في هذا الاسم أعظم الأسرار، بل إن تحليله بطريقة صحيحة سوف يكشف الكنوز
المختبئة خلف كل آية من آيات هذه السورة.
لقد أعطينا أمثلة كثيرة على هذه النظريات المعرفية في كتاب
الله. عندما تمَّ تحليل كلمات سورة الفيلِ وجدنا أنها تحكي وتشير إلى نظرية
الانقراض الكبير، الذي حدث منذ ملايين السنين. سورة الفلق التي وصفت وجود الشر، وكانت
مثالاً واضحاً على نظرية الشر. سورة الكوثر التي دارت حول الموهبة التي يمتلكها كل
إنسان، وتلك الميزة التي يتميز بها كل واحدٍ عمَّن سواه.
إن كانت السور القصيرة سهلة بعض الشيء في تتبعها، وفهم
الجوانب التي تتناولها، إلا أن السور الطوال صعبة التتبع بشكل كامل؛ بسبب كمِّ
العلاقات المتشابكة التي ترسمها هذه السور.
لقد تحدثنا في هذا الكتاب عن سورة الرحمن، وأشرنا لهذه
الحقيقة، ولكن لم نستطيع بالفعل تفسير كل الآيات؛ لأنها بالفعل تحتاج لمجهود جبار،
بل وتحتاج لتكاتف الجهود من فريق كامل، وليست بشكل فرديّ. هكذا كل السور في كتاب
الله، تحتاج لفرق متكاملة تضم أغلب التخصصات لفهم علاقة آياتها بعضها ببعض. إن كنا
قد استطعنا الإشارة إلى بعض السور القصيرة، وفهم تعبيراتها بسبب قصرها، إلا أن
خضوعَ هذه السورِ مرةً أخرى لفرقٍ متخصصة سوف يكشف الكثير والكثير مما لم نستطع
إدراكه أو غاب عنا.
أحد تلك النظريات المعرفية
المهيبة هي سورة العصر، وهي من السور القصيرة، والتي تشمل معلومات غزيرة وكثيفة،
واحياناً مرعبةً لمن يمر عليها مرور الكرام.
العصر
هذه السورة تضيف عمقًا معرفيًا جديدًا لمفهوم المسلم
الحنيف، الذي تناولناه في هذا الكتاب، وتتكامل تماماً مع المفهوم الشامل للإسلام
الذي أشار إليه القرآن.
عندما تم تفسير كلمة (العصر) تارة بأنها الزمن، وتارة بأنها
وقت الصلاة المعروفة؛ اعتماداً على التصورات البشرية دون مرجع حقيقي، جاءت
التفسيرات دون رابط حقيقي، لا علاقة بين كلمات السورة ولا بين آياتها.
عند محاولة فهم كلمة العصر من خلال كتاب الله ذاته، فاضت
الرحمة من بين ثنايا تلك السورة العظيمة، وفي الوقت نفسه ارتفعت إشارات التحذير،
وانطلقت أصوات التنبيه؛ بسبب الخسارة المتوقعة التي أشارت لها السورة.
كلمة (العصر) ذاتها هي السر! إنها تعني الخلاصة أو المُلَخَّص،
وليس وقت العصر أو الدهر أو الزمن، كما تم فهمه. سورة إسمها الملخص أو الخلاصة أو
الموجز تستحق أن تقف أمامها كثيراً لأنها حقا سورة لخصت المطلوب من الإنسان وكيفية
النجاة. في السطور التالية سوف نقدم الدليل على أن لفظ العصر يعني الملخص ولا يعني
الزمن أو الدهر.
أصل كلمة (العصر) كما في قاموس اللغة لها ثلاثة أصول: الأصل
الأول: دهر أو زمن، والثاني: ضغط شيء حتى يتحلب (استخلاص)، والثالث: تعلقٌ بشيء
وامسك به.
عندما استشهد المعجم على أن العصر يعني الدهر كانت سورة
العصر إحدى أهمّ استشهاداته، حيث قال أن العصر هنا هو الدهر أو الزمن. لكن المتتبع
للفظ (العصر) في كتاب الله سيجد أن معنى العصر هو خلاصة الشيء أو نهايته. ربما استعار الإنسان هذا المفهوم لوصف
حقبةٍ زمنية ما، بغرض التعبير عن خلاصة
هذه الحقبة، أو أهم ما فيها. مدلول كلمة (العصر) في كتاب الله جاء في أربعة مواضع،
جميعها بلا استثناء تصف خلاصة أو عصارة الشيء، وليس لها أي علاقة بمفهوم الدهر:
الآية الأولى:(وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ
أَحَدُهُمَآ إِنِّىٓ أَرَىٰنِىٓ أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ ٱلْءَاخَرُ إِنِّىٓ
أَرَىٰنِىٓ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا
بِتَأْوِيلِهِۦ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ
ٱلْمُحْسِنِينَ( (سورة يوسف: آية 36). أعصرُ خمراً؛ أي أستخلصُ الخمر.
الآية الثانية: (ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ
يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (سورة يوسف: آية 49)
يعصرون هنا أيضاً؛ بمعنى يستخلصون شيئاً من شيء.
الآية الثالثة: (وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَٰتِ مَآءً
ثَجَّاجًا) (سورة النبأ: آية 14)
يقول المفسرون: إن المعصرات هي الرياح التي تعصر السحاب
لينزل منه الماء. رغم أن لفظ (المعصرات) يحتاج لدراسة منفصلة؛ لبيان ما هي
المعصرات التي ينزل منها الماء، إلا أن الشاهد هو أن المعصرات هي ما تعصر الأشياء،
وهو متوافق تماماً مع معنى العصر، وهو استخراج شيء من شيء، أو خلاصة الشيء.
الآية الرابعة: (والعصر)
(سورة العصر: آية 1)
الآية الأولى في سورة العصر
العصر هنا أيضاً لا يخرج عن كونه الخلاصة أو المستخلص، وليس
معناه الزمن أو الدهر؛ لأنه ليس هناك أي دليل على كونه الدهر، حتى إن الدهر جاء
ذكره في كتاب الله من قبل:
(وَقَالُوا مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا
ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُم
بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّون) (الجاثية: آية 24).
كلمة الزمن غير موجودة في كتاب الله، ولكن هناك كلمة بديلة
عنها هي الأمد، كما في سورة الحديد
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن
تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا
يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ
الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ
مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)(سورة الحديد: آية 16).
نرجِّحُ بشدة أنّ العصر بمعناه المتداول حالياً -وهو فترة
من الزمن- ما هو إلا معنى فرعي من المعنى الأصلي، وكأنه يشير إلى أهم ما في هذه
الفترة. فعندما نقول عصر الحديد مثلاً؛ فإننا نشير إلى أهم ما في هذه الفترة، وهو
اكتشاف الحديد أو استخلاصه. كذلك عصر الازدهار العلمي فهو يعني الاكتشافات العملية
التي صاحبت هذه الفترة، فكانت أهمّ ما فيها. عصر التحرر كذلك يشير إلى أهم ما في
الفترة التي حدث فيها التحرر، وهكذا.
عندما نرى في كتاب الله سورة تسمى العصر فنحن أمام أمر
عظيم، بل هو أمر يلخِّص كلَّ شيء حرفياً. العصر يعني الملخَّص، ولكي نفهم إلى ماذا
يشير هذا الملخص، يجب أن نستمرَّ في القراءة لتكتمل الصورة.
سياق الآيات التالية بعد آية العصر لا يشير أبداً إلى أنَّ
المقصود هو الدهر، وإنما متوافقة تماماً مع كون العصر ملخص الشيء وخلاصته. هذا
الملخص جاء من خلال آيتين فقط، بشكل بليغ وموجز، يصف عمل الإنسان على الأرض.
الآية الثانية: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)
تعني أن مجمل حياة الإنسان خسارة، وهذا المعنى يُرجِفُ
القلوب، ويجعل كل لبيبٍ يراجع حساباته مراراً وتكراراً، لا أن يمرَّ من خلال
السورة مرور الكرام.
لك أن تتخيل أنَّ مدرِّساً وقف في الصف، وقال: الطلاب
راسبون! أليس هذا التنبيه كفيلاً بأن يثير الرعب في نفوس الطلاب؟. إذا استثنى
الأستاذ قائلاً: إلا مَن حضرَ تدريبات الأسبوع الثامن. لا شك أن في هذه الحالة سوف
يقوم الطلاب ببذل كل طاقتهم لهضم كل ما يخص الأسبوع الثامن، بل وتجنّب كل ما من
شأنه تعطيلهم عن هذا الأسبوع. لن يمر على عبارة كهذه دون انتباه إلا طالب مستهتر، غير
جديرٍ بالنجاح.
هناك حالة غريبة من الثقة بالنجاة لدى الغالبية العظمى من
الناس لا يمكن إنكارها، حتى ولو لم يؤدِّ ما عليه، وحتى لو لم يعرف من الأساس ما
هو المطلوب منه بالضبط.
أمر وجود الإنسان في هذه الحياة أمر في غاية العجب، ومصيره
يلفه الكثير من الغموض، ومع كل هذا الغموض تجد أكثر الناس لا يرغبون في المعرفة،
والتي يمكن أن تكون طوق النجاة بالنسبة إليهم.
مفهوم المسلم الحنيف حسب التعريف القرآني، الذي تناولناه في
الفصول السابقة، لا ينطبق أبداً على هذا الشخص الذي لا يرغب في المعرفة. فقدان
البوصلة المعرفية بهذا الشكل من النذر كارثية، وللأسف الشديد كرَّس كثير من رجال
الدين هذا الإحساس لدى بعض الناس؛ مما جعل الكثير من الناس يرفض خوض تجربته
الشخصية في التعرف على الخالق، واكتفى بما يقوله له بعضهم عن الخالق ومراد الخالق،
حتى وإن كان يرفضه العقل.
تكمن الجنة الحقيقية في هذه
التجربة الشخصية، والسير في هذا الطريق بصدق وإخلاص، ومن رضي بأن يكون مع الخوالف
أو مع الجموع فقدْ فَقَدَ جنة الدنيا، ومصيره في الآخرة لا يختلف كثيراً عن حياته
التي عاشها أعمى في الدنيا.
هناك 7 مليارات ونصف المليار في هذا العالم حتى هذه اللحظة،
كلٌّ منهم يعتقد نفسه غير خاسر. ببساطةٍ التحذير القرآني موجه لهذا الجمع الغفير
في كل زمن أن الإنسان خاسر، والاستثناء الوحيد هو كما جاء في الآية الثالثة.
الآية الثالثة: (اإِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر)
ثمان مليارات نسمة
إلا قليلاً يعتقدون أنهم من الذين آمنوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، فلست أنت
وحدك من تعتقد ذلك!
لقد تم شرح مفهوم الإيمان في الفصول السابقة، والذي لا بد
أن يسبقه الإسلام كما ذكرنا، والإسلام هو حالة حركة مستمرة لقبول الحق دون تحيز،
وتطلعٍ للمزيد.
الإسلام الفكري أو الإسلام العقلي هو ملة جميع الأنبياء بلا
استثناء، وهو المنهج الفكري الذي اتخذه الأنبياء للوصول للحقيقة، والتعرف على
الخالق. دون هذا التجرد ودون فهم هذا المنهج الفكري الذي تتضمنه كلمة إسلام، يصبح
الإنسان غير ذي ميزة حقيقيّة، ولم يدخل بعد إلى دائرة الإيمان الحقيقية بالخالق،
بعد أن يكون تخلص من كل التجاذبات والأهواء.
الإسلام بمفهومه القرآني هو المدخل الرئيس للإيمان، هو حركة
فطرية لدى كل النفوس السوية. قد تنتكس هذه الفطرة بسبب بيئة ثقافية معينة، أو حتى
بسبب القهر والظلم والفقر، ولكنها تبقى اختيار الإنسان نفسه إن لم يكن راغباً في
الخروج منها. مجرد الرغبة الصادقة في المعرفة، حتى لو حالت الظروف دون المعرفة،
كفيلة بأن تضع الإنسان تحت مظلة الإسلام كما ذكرنا. الإيمان نسبيّ، شأنه شأن كل
أمور الحياة، ولكي نوضّح أمر الإيمان سوف أضرب مثالاً على ذلك:
بفرض أن إنساناً لديه معرفة بأمر أو اعتقاد معينٌ أياً كان
هذا الاعتقاد، وبفرض أنه مؤمن بهذا الاعتقاد؛ بمعنى مستقرٌ ومطمئن له تماماً، ثم
حدث أمر وظهرت معرفة جديدة تختلف عما كان يعتقد، فماذا سوف يكون تصرف هذا الإنسان؟
المسلم: الإنسان المسلم سوف يتعامل مع الأمر بكل حيادية،
ويحاول فهم الأمر راغباً بكل إخلاص في معرفة الحقيقة، وبكل تجرد. فإذا وصل لقناعة
بصحة الفكرة الجديدة، واطمئن لها فهذا هو الإيمان ويصبح من المؤمنين. أما إن بذل
جهده ولكن توصّل لقناعة بصحة اعتقاده القديم فهو أيضا هنا من المؤمنين. لاحظ أنه
بذل الجهد ولم يكتفِ بالإعراض؛ لأن كثيراً من الناس يظنون أن مجرد الإعراض عن فكرة
جديدة هو في صالحهم، وهذا خطأ كارثي.
أما إذا كذّب الفكرة دون بحث وجهد، فهو من المكذبين، وإذا
أعرض عن الفكرة طلباً للسلام النفسي كما يعتقد بعضهم، أو لأي سبب آخر، فهو من
المعرضين. إن جحد الفكرة رغم معرفته بحقيقتها وعقلانيتها فهو من الكافرين، وإذا
خلط الأمور على نحوٍ لا تجد لديه حدوداً بين الصواب والخطأ -كما يفعل كثيرٌ من
الناس عندما لا يفرقون بين الأفكار التي عليها أدلة، والأفكار التي هي مجرد
فلسفات- فهو من المشركين. الإشراك هو أخطر حالة فكرية؛ لأنه حالة خادعة ينتهجها
الكثير من الناس؛ إما بسبب نقص معرفة، أو الرغبة في الظهور بمظهر المحايد.
أحد أهم مظاهر الشرك هو المساواة بين الدليل والحيل، فترى
الإنسان لا يفرق بين النتيجة وبين الرأي الشخصي. كثيراً ما أرى هذه الحالة عندما
أقدِّمُ بحثاً مفصلاً عن أمر من الأمور، فتجد أن هناك فئةً تعتقد أن ما تقوله هو
وجهة نظر خالصة، رغم التأكيد على الأدلة.
بغضِّ النظر عن صحة ما أسوقه أو خطئه، فلا بد أن يكون
للإنسان موقفٌ قاطع من المعرفة التي تخالف ما يعتقده، فإما أن يعتنق الفكر الجديد،
وإما أن يظل متمسكاً بما يعتقد، ولا بد في الحالتين أن يكون هذا الاعتقاد نابعاً
بعد جهد وبحث، وليس هرباً من البحث والجهد.
تمييع الأمر ليس في صالح الإنسان؛ لأن الأمر لا يرتبط
بمسألة ثانوية أو مسألة محايدة، مثل نوع الطعام أو حالة الطقس أو نوع معين من
السيارات. المسألة متعلقة باعتقاد سوف ينبني عليه أشياء أخرى كثيرة، وبالنهاية سوف
يتحدد مصيرك تبعا لهذه الاعتقادات، التي يأخذها بعضهم بكثير من التساهل.
الإيمان الذي يصل إليه الإنسان بعد أن يكون مسلماً هو
النجاة الوحيدة من الخسران، فرجاءً أعد قراءة مفهوم المسلم، ومفهوم المؤمن في الفصول
السابقة بكل تأنٍ.
لو طبَّق الناس المفهوم القرآني للإسلام والإيمان سوف تنتهي
كل مشاكل العالم؛ لأنّ كل الناس سيصبحون متقبّلين للمعرفة الجديدة، غير متحيزين،
ومتطلعين للحقيقة.
تحدث المشاكل جميعها عندما يدخل على الخطّ أصحاب المصالح،
أو من لهم حسابات أخرى، والمقلدون الذين لا يدركون حقيقة المفاهيم بشكل كامل،
ويساهمون في إرباك الناس وتشويش المفاهيم.
الإيمان المذكور في سورة العصر هو الإيمان في حالته العامة،
وليس الإيمان بالله مثلاً، أو الإيمان بالكتاب. هذه الحقيقة قد تزعج بعض الناس؛
لأنهم يعتقدون أن هذا التنظير يشجع الناس على عدم الإيمان بالله، و تمييع مفهوم
الدين. للأسف الشديد هذه النظرة نظرة ضيّقة، لا تستوعب نتائج الإسلام ونتائج
الإيمان.
النتيجة الحقيقية لكون الإنسان مسلماً؛ أي أن يكون جاهزاً
باستمرار لتقبل الحقيقة، واستبدال المفاهيم المغلوطة بأخرى سليمة كلما أدركها، ومن
ثم الإيمان بها، هذا بالنهاية سوف يؤول به إلى معرفة الله. أما الإنسان المتحيز
منذ البداية، ويبحث عن طريقة مريحة تعفيه من المسؤوليات، ويظن أنه أدى ما عليه،
فهو خارج التعريف القرآني بالأساس، ولن يستطيع خداع الله بادعائه. الإيمان يدور
حول استقرار القلب بعد بحثٍ الحقيقة، والاطمئنان لها وليس لقب يحمله الإنسان
بالميلاد.
كل إنسان في هذه الدنيا مؤمن بأشياء، مكذِّب بأشياء، معرض
عن أشياء، كافر بأشياء، مشركٌ بأشياء.
بقدر وزن الإيمان لدى هذا الإنسان تقل احتمالية خسرانه، أما إذا زاد وزن
التكذيب والإعراض والغفلة لديه فقد خسر.
لكي يزيد الإنسان وزن الإيمان لديه لا بد أن يكون مسلماً
بالمفهوم القرآني، ويستمر هكذا مع كل معرفة يقابلها في حياته. مع زيادة المعرفة
سوف تزداد الشكوك، والسبيل الوحيد لطرد هذه الشكوك هو استمرار البحث وخوض تجربته
الشخصية؛ لأنها الضمان الوحيد لتجنب الخسران وزيادة جرعة الإيمان.
بعد أن يستقر الإيمان بالإنسان، لا بد أن يتبع هذا الإيمان
عمل صالح. بفرض أن الإيمان قاد الإنسان للاعتقاد بصحة تأويل آية قرآنية لم يكن على دراية كاملة بها
أو فكرة نبيلة ، هنا لابد أن تتم ترجمة هذا الإيمان عمل وإلا سوف يصبح إيمان فارغ
المحتوى.
الإيمان بمعرفة لا بد أن يتبعها العمل بهذه المعرفة. من
توصل إلى الإيمان بالله، وبكتاب الله، فلا بد أن يؤدي ما في هذا الكتاب، وإن كان
لديه شك في شيء، فلا بد أن يخوض تجربته مرة أخرى بإخلاص وتفانٍ للوصول للحقيقة.
أيُّ محاولة لاستبدال حالة المسلم بحالة التحيز هي حالة شركٍ لا يغفرها الله. لا
أحد يرغب أن ينتهي به المطاف خاسراً إيمانه، مقابل تحيزه الكبير لكثير من الأشياء
في حياته.
العمل الصالح هو نتيجة طبيعية للإيمان، فالإنسان الذي يصلي
لله أو يصوم هو بالفعل وصل لمرحلة استقرار واطمئنان، أنّ هذا العمل من تكاليف
الله، لذلك يقوم به. الإنسان الذي أدرك أن حرية الاعتقاد هي مراد الله، وآمن بذلك،
لا يمكن أن ينخرط في أي عمل من شأنه إجبار أحد على الاعتقاد؛ لأنَّ فعلَ هذا ينافي
الإيمان الذي استقر في قلبه.
الإنسان الذي آمن أن زيادة التلوث مثلاً يضر بالبيئة، لا
يمكن أن يقدِمَ على فعلٍ من شأنه تلويث البيئة، ولو فعلَ لتمَّ خصم هذا الفعل من
رصيد العمل الصالح الناتج عن الإيمان. كل تقصير في الوصول إلى الإيمان هو خصم من
رصيده الإيماني، وكل تقصير في متابعة هذا العمل الصالح هو كذلك خصمٌ من رصيد العمل
الصالح. هذه هي فكرة الموازين التي سوف توضع للإنسان يوم القيامة، لكي تحصي عليه
كمْ مِن الإيمان قد حصّل، وكمْ من الإيمان قد ترك، كمْ من العمل الصالح قد فعل،
وكمْ من العمل الصالح قد ترك؛ لذلك من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية.
حسن المعرفة هي من تكفل للإنسان أن يزيد جرعة الإيمان وجرعة
العمل الصالح، والزهد في المعرفة مُهلكٌ إلى أقصى درجة ممكنة.
لم تكتفِ السورة بذكر الإيمان والعمل الصالح على أنهما
ضمانة للنجاة، بل أضافت بُعدين آخرَين، لا يقلّان أهمية عن الإيمان والعمل الصالح؛
البعد الأول: هو التواصي بالحق، والبعد الثاني: هو التواصي بالصبر.
التواصي بالحق
ما هو التواصي بالحق؟
لفظ (وصى) كما جاء في قاموس اللغة يعني وصلَ شيئاً بشيء،
ومن خلال النظر في كتاب الله، سنجد أن لفظ (وصى) يعني وصَلَ الشيء بمعنى تعاهَدَه.
التواصي بالحق هو تعاهُد الحق، وممارسة الحق حتى يصير هو الأمرَ الطبيعيّ.
من أهم مظاهر التواصي بالحق أن يألف الناس الحق، وينفرون من
الباطل ويُستهجن. في المجتمعات التي لا تتواصى بالحق يصبح فعل الأمور العادية أو
البديهية غريباً ويستحقُّ الإشادة. لا تجد الناس في مجتمع يكيلون المدح لمسؤولٍ ما
لأنه فعلَ ما يجب عليه فعله إلا لغياب التواصي بالحق، وأصبحت الأمور البديهية مثار
الإعجاب والمدح الثناء.
تعظيم كل القيم النبيلة هو عين التواصي بالحق، والنفور من
القيم السلبية هو عين التواصي بالحق. مساعدة الآخرين، وتقديم يد العون للناس لغرض
استقامة الحياة، هو تواصٍ بالحق. قول الحقيقة وإماتة الشائعات هو عين التواصي
بالحق. نشر العلم ووَأْدُ الجهل هو قلبُ التواصي بالحق. تشجيع الحق والنظر في
الحقائق هو التواصي بالحق.
أكثر الناس لا يتواصون بالحق، إما عن جهل وإما لافتقارهم
للشجاعة. التواصي بالحق يحتاج إلى شجاعة، وخصوصاً إذا كان السائد خلاف الحق. لو
أردنا التركيز على قصة التواصي بالحق، وخصوصاً في مسألة نشر العلم سوف نرى العجائب.
جموع غفيرة من الناس تنشر الخرافات، وتتعصب لها، وأحياناً
تخاصم من أجلها، ولا يدركون أنّ محلهم من الاعراب هو التواصي بالباطل. أستغرب
كثيراً من ذلك الشخص الذي يبرر الخطأ دون أي بحث، ويجادل دون علم ولا هدى، ليثبت
وجهة نظره التي ورثها أو سمعها، ألا يدرك هذا الإنسان أنه قد وقع في التواصي
بالباطل، ودخل ضمن زمرة الخاسرين.
لا أكون مبالغاً إن قلت أن سبب نكبات الأمم هو وجود تلك
الجموع الكثيفة، التي تسير كما يسير الآخرون، تؤيد أفكاراً وتنشرها دون إلمام بهذه
الأفكار، وهم على ذلك يتواصون بالباطل، ويدحضون الحق، وقد أُمروا أن يتواصوا بالحق.
على الجانب الآخر يُحجم الناس كثيراً عن التواصي بالحق؛
بسبب فقرهم المعرفي، الذي لا يمكّنهم من تبيُّن الحق من الباطل.
أبرز مظاهر عدم التواصي بالحق تكمن في الإشراك. عندما يعتقد
الإنسان أن هناك وجوهاً عديدة للحق، فهو غالباً أشرك مع الحق وجوهاً أخرى؛ بسبب
عدم رغبته في تبيُّنها. عند ذلك لن يتحمس لنشر الحقيقة أو إماتة الباطل، بل يستوي
عنده الاثنان، وهذا الإنسان لم يتواصَ بالحق.
أمورٌ لا حصر لها سواء دينية أم علمية أم سياسية، ينغمس
فيها الناس انغماساً، يتواصون بالباطل، و يحجمون عن التواصي بالحق. لا تحتاج لجهد
كبير لفهم كيف يتجافى الناس عن التواصي بالحق، ويسارعون في التواصي بالباطل،
وبالتحديد في المجتمعات غير الحرة، والتي يمارَس فيها القهر. كيف يمكن للمجتمعات
أن تضغط على الأفراد في التواصي بالباطل، بدلاً من الحق. عملية التواصي بالحق
عملية قائمة على قناعات الشخص وإيمانه؛ لذا هي عملية ليست سهلة بل مكلفة.
تدور بين الحين والآخر معارك كلامية بين فريقين، أحدهما
يؤيد فكرة بشدة، والآخر يرفض بشدة. الأمر صحيٌّ إن كان بالفعل نابعاً عن قناعات،
وبَعد جهدٍ في البحث. أما إن كان مجرد تبني قناعات الآخرين، وجدال دون رغبة في
تبيُّن الحقائق، أو غرض الوصول للحقيقة، فكلا الفريقين لا يتواصون بالحق. الفريقان
يتواصيان بالباطل ولا دخل للحق بذلك.
التواصي بالحق يمس جميع نواحي الحياة، فلا يوجد مسألة من
مسائل الحياة إلا وينطبق عليها التواصي بالحق، والتواصي بغير الحق. كل ما عليك هو
أن تسأل نفسك قبل كل موقف، أو قبل أي تصرف، هل هذا التصرف تواصٍ بالحق أم أنه غير
ذلك؟
إن لم تكن متأكداً فأنت تحتاج لمزيد من الجهد والبحث لتحري
التواصي بالحق، فلا تتعجل وتقع في نقيض الحق. أنت من تصنع من هذه الحياة جنة على
الأرض، عندما تسعى للمعرفة بكل قوة، و أنت من تصنع منها حفرة عندما تضلّ وتبتعد عن
منهج الله، الذي أراده لعباده من السعي المخلص للمعرفة، ومن ثم التواصي بالحق.
كنت أمرُّ على هذه الآية مرور الكرام قبل أن أستوضح مفهوم
العصر، أما وقد أدركت الآن مفهوم العصر فقد شكَّلتْ هذه الآية ركناً أساسياً من
أركان وجود الإنسان على هذه الأرض. فهي أحد أربع نقاط رئيسة مثَّلتْ ملخَّص عمل
الإنسان ومصيرَه.
أستغربُ كثيراً ممن يردّدُ المعلومات العلمية المغلوطةَ دون
بذل جهدٍ حثيث في وتتبعها وفهمها، مثل: كروية الأرض، أو حالات التطور. هل يظن
الإنسان أن شجاعته في تبني أفكار لم يختبرها، ومن ثم ينشرها، أهو تواصٍ بالحق؟
كلَّا، فهذا التصرف هو عين التواصي بالباطل. كما جاء الإيمان والعمل الصالح في هذه
السورة كحالة عامة، فكذلك التواصي بالحق هو حالة عامة. كل من لا يؤيد فكرة آمن بها
ويسعى في نشرها هو لم يتواصَ بالحق.
كل من ينشر فكرة أو رأياً ليس مؤمناً به بشكل سليم فهو
تواصى بالباطل. مفهوم التواصي بالحق ليس مقصوراً على المفاهيم البسيطة، مثل: أقمِ
الصلاة، أو صُمْ، أو لا تكذبْ، بل أعمّ وأشمل من ذلك. هو مفهوم يجتاح كل التصرفات
والأقوال والأفعال، ويجعل الإنسان في حالة حركة مستمرة لمشاركة إيمانه مع الآخرين،
ويصحح لهم ويصححون له، في شكل تواصٍ وليس فرضَ وصايةٍ، وهذا هو عمَارُ الإنسانية.
الركن الأخير في هذه الآية، والضامن للنجاة من الخسران، هو
التواصي بالصبر.
ما هو الصبر؟
الصبر في اللغة له ثلاثة أصول: الأصل الأول وهو ما يعنينا :
هو الحبس، ويقال صبَّرت نفسي على أمرٍ ما؛ أي حبستها عليه. هذا الأصل هو الصبر
المقصود؛ بمعنى مدافعة الأمر. فكأن الصابر حبس نفسه على الأمر متحملاً تبعاته،
ومحاولاً دفعه بكل السبل.
المعنى المتداول للصبر اليوم وهو الاستسلام ليس له أصل، وهو
من باب تحريف الكلم.
الصبر على المصيبة هو محاولة
تخفيف آثارها ومعالجتها، فالصبر على المرض هو البحث عن علاج له ومدافعة أمره، وليس
الاستسلام. الاستسلام للمصائب مثلاً أو الموقف السلبي تجاه الحياة ليس صبراً؛
وإنما تخلياً عن المسؤولية، وتخلياً عن عبادة الله، وهو أمرٌ مذموم. أعتقد أن أغلب
الناس مدركون لهذه الصفة، ولكن لا يربطون بينها وبين مفهوم الصبر كما جاء في
القرآن.
القصة المتداولة عن نبي الله أيوب أيقونة الصبر، وأنه كان
مستسلماً غير دافعٍ للمرض بكل ما أوتي من قوة، ليس عليها دليل، والقول المتداول
أنه ظل 80 عاماً لا يدعو الله بالصحة؛ لأنه كان يستحي أن يطلب من الله الصحة، هو
قول مرسل، لا يتوافق مع القرآن الذي قص علينا أن نبي الله أيوب دعا ربه، دون تحديد
أيِّ مدة أو إشارة زمنية.
التواصي بالصبر جاء بعد التواصي بالحق؛ لأن طبيعة الحق هي
طبيعة الغريب في المجتمعات، وخصوصاً المجتمعات القبلية، أو المجتمعات قليلة
المعرفة. التواصي بالحق يحتاج إلى الصبر؛ لذلك لا بد من تعاهد الصبر، وهو مداومة
واستمرار الدفع باتجاه الحق دون كلل أو ملل، حتى لو لم تكن النتائج ظاهرة أو مرئية.
الترتيب الذي جاء في الآية ليس ترتيباً عشوائياً، وإنما
ترتيب له فائدته؛ فلا يمكن أن يتواصى بالصبر من لا يتواصى بالحق، ولا يمكن أن
يتواصى بالحق من لم يعمل صالحاً، ولا يصح عملٌ صالحٌ إلا مِن مؤمنٍ مستقر ومطمئن،
والإيمان هو ثمرة الإسلام بمفهومه القرآني. هذه سلسلة متصلة من الأفعال، لا يمكن
تحقيق شرط فيها إلا من خلال هذا الترتيب، وإلا قد تنقلب النتائج.
هذه السورة لخّصت كل شيء، وها نحن نضع اللمسات الأخيرة لهذه
المفاهيم، و نوجزها في النقاط التالية:
أولاً: لا بد أن يكون الإنسان مسلماً في كل تصرفاته وأفعاله
وأقواله؛ بمعنى أن يكون غير متحيز في قبول المعرفة. كمال هذا الإسلام بكون الإنسان
حنيفاً؛ وهو المتطلعُ للمزيد بشغف ودون كلل.
ثانيًا: التطبيق الصحيح لمفهوم الإسلام لا بد أن يقود
للإيمان بوصفه حالةً عامةً.
ثالثًا: الإسلام ثم نتيجة له الإيمان هو حالة مستمرة. وزْنُ
إيمان الإنسان يتحدد بما حققه، ويخصم منه ما لم يستطع الإيمان به، أو ما أعرض عنه
أو كذب به أو أشرك به، أو كل فعل يقوم به يناقض هذا الإيمان.
رابعًا: لا بد أن يتبع الإيمان عمل صالح تبعاً لما آمن به
الإنسان، ويخصم من هذا العمل الصالح كل ما آمن به الإنسان، ولم يقم به.
خامسًا: التواصي بالحق، وتعاهد الحق بالقول والفعل والنقل،
ويخصم من ذلك كل فعل فيه تقصير، أو تواصٍ بالباطل.
سادسًا: التواصي بالصبر، والتحمل ومدافعة الباطل، والمداومة
على العمل الصالح، والتواصي به النابع من الإيمان الصادق.
هذه هي ملخص حركة الإنسان كما بينتها سورة العصر، والتي تعني بالأساس الملخَّص. سوف ننتقل في الفصل الأخير إلى نموذجين يشرحان كيف يتعامل الإنسان مع المعرفة، وكيف ينتقل من مرحلة الدراسة إلى مرحلة نقل الخبرة للآخرين، بأسلوب قرآني، وتجنُّب التعجل الذي قد يكون سبب ضلال الإنسان، وإضلاله للآخرين دون أن يدري من خلال مفهوم المزمل والمدثر
Comments
Post a Comment