الفصل الثالث عشر- النصارى
الفصل
الثالث عشر النصارى
بعد أن تناولنا مفهومَي الذين هادوا واليهود، سوف نتطرَّقُ
من خلال السطورِ القادمةِ إلى مفهومِ النَّصارى، والسمات الرئيسة التي يمثلها هذا
الاسم، وعلى من ينطبقُ تحديداً.
اسم (نصارى) مشتق من الجذر نصر، وأصله إتيان خَيرٍ وإيتاؤه.
في لسان العرب يشير لفظ نصر إلى الإعانة ونصر المظلوم. من خلال تتبع اللفظ في كتاب
الله سنجد أن لفظ (نصر) يعني حالة من التعاون والمساندة على الخير، وهو ما يتطابق
مع جذر الكلمة بشكل تام.
حتى يمكننا فهم معنى كلمة (نصارى) لا بد أن نوضّح الفرق
بينها وبين كلمة (أنصار)، ومن ثَمَّ يمكننا فهم الآيات التي تحدثت عن النصارى،
وفهم مَن المقصود بالنصارى.
ذُكر لفظ (أنصار) في كتاب الله في سبع آيات بمجموع ثماني
مرات، وكانت تشيرُ إلى أنصارِ نبي الله عيسى (الحواريون) صلوات ربي عليه، وأنصار
نبي الله محمد صلوات ربي عليه. كذلك جاء اللفظ مضافاً للظالمين، في إشارة قرآنية
إلى أنَّ الظالمين ليس لهم أنصار.
جذر كلمة (نصارى وأنصار) هو نصر، ولكنّ الاختلاف في أنّ لفظ
(أنصار) بدأ بالهمزة،لفظ (نصارى) انتهى بحرف الألف المقصورة.
اسم الفاعل (ناصر) مشتق من الفعل نصر، ويدل على حدوث الفعل منه،
وهو مفهوم متعدٍ، وجمعه (أنصار)، والمبالغة (نصّار) التي تدل على قوةٍ ودعم ٍيُبذل
من أجل الآخرين. ومن هذا الوجه سُمِّي المسلمون الأوائل من أهل المدينة (أنصاراً)؛
لأنهم نصروا الدعوة بأموالهم وأنفسهم بعد أن آمنوا بها. معنى ذلك أنهم تحرَّكوا
بقوةٍ لنصرة النبي.
(وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)(سورة التوبة: آية 100).
كذلك سمي الحواريون الذين نصروا نبي الله عيسى بالأنصار؛
لأنهم بادروا إلى نصرة نبي الله عيسى،
وكانوا أيضاً مدفوعين بقوةٍ تحركهم، وهي قوة الاقتناع بدعوة نبي الله عيسى.
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ
قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ
آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (سورة آل عمران: آية 52).
كما ذكرنا سُمِّي أتباع نبي الله عيسى في بداية الدعوة بالأنصار،
وما لبث هذا الاسم أن تغيَّر إلى النصارى، فما هو التحول الذي جعل الاسم يتغيّر من
أنصار إلى نصارى؟
كلمة (نصارى) مفردها (نَصران) على وزن فَعلان، وهي ليست اسم
فاعل، وإنما صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي مفهوم لازم، مثل: شبعان، حيران، ظمآن،
غضبان، وتدلّ على صفةِ حالٍ لازمة بذات الإنسان.
دلالة كلمة (نصارى) تدل على توجيه الدعم والقوة بشكل
تلقائيّ، أو بقوة دفع العادة المتكررة، أو بمعنىً آخر مناصرة متوارثة، وذلك خلاف
لفظ (أنصار) الذي يشير إلى المبادرة.
من هنا نجد أن كل من ينصر فكرة لم يختبرها، وإنما تناولها
بالوراثة، فهو واقع تحت مفهوم النصارى. بينما من يناصر فكرة اختبرها وآمن بها بشكل
تام، فهو واقع تحت مفهوم الأنصار وليس النصارى.
الفرق بين مفهوم ( الذين هادوا ) ومفهوم (نصارى) هو أن
مفهوم (هادوا) فيه سكون وبطء، بينما مفهوم (النصارى) فيه حركة. أو بمعنى أكثر وضوحاً؛
الشخص المؤمن بفكرة بشكل وراثي دون اختبارها، وهو محايد تماماً تجاهها ولا
يناصرها، ينطبق عليه لفظ ( الذين هادوا ). بينما الشخص المؤمن بفكرة وراثية أيضاً
دون أن يختبرها، ولكن ينصرها بشكل ما، هو من النصارى.
لاحظ أنّ من مفهوم
(الذين هادوا ) ومفهوم (النصارى) كلاهما يفتقر للدليل والبرهان في إيمانه.
هذا المعنى نجد صداه في قول الله سبحانه وتعالى عن
الظالمين، بأنْ ليس لهم أنصار.
(وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ
نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنصَارٍ) (سورة البقرة: آية 270).
الظالمون ليس لهم أنصار على الحقيقةً؛ لأن نصرة الظلم تأتي
في غياب الدليل والبرهان أو تغييبه. لا يمكن أن تجد أنصاراً للظالمين؛ لأن لفظ
(أنصار) نفسه يمتنع بسبب خواصه وصفاته، التي يلزم معها برهان ودليل، وقوة محركة.
بينما الظلم يقوم على الحيل لا على الأدلة. السقوط في الحيل باعتبارها أدلة هي
مسؤولية الإنسان نفسه، فلا داعي لأن تذهب النفس حسرات على أولئك الذين يستبدلون
الأدلة بالحيل، ويستقبلون البراهين بالجدال.
الآية تقرر حقيقة انتفاء وجود أنصار للظالمين، ولكن حسب
تحليلنا للفظ (نصارى) يمكن أن يطلق لفظ (نصارى) على من يدعم الظالمين، فهم يدعمون
فكرة -غالباً- وراثية بالنسبة إليهم.
بعيداً عن الدين يتضح مفهوم (النصارى) في النظام القبلي؛ إذ
لو افترضنا أن شيخ القبيلة له داعمين ومؤيدين من قبيلته، فهم في الغالب نصارى
وليسوا أنصاراً. كذلك لو طبقنا مفهوم أنصار ونصارى على المستوى الحزبي في الشؤون
السياسية؛ فالمدافع عن الحزب في كل الأوقات بغض النظر عن الخطأ والصواب، هو من
نصارى الحزب. بينما الذي يدافع عن المواقف الصحيحة، ويعارض المواقف الخطأ، ينطبق
عليه مفهوم الأنصار.
كذلك يمكن فهم الفرق بين المفهومين إذا رأينا من يناصر
شخصاً أينما حل، فهو ليس من أنصار هذا الشخص، ولكنّ التعبير الصحيح أنه من نصارى
هذا الشخص. بينما من يؤيد الفكرة بغض النظر عن الشخص، ينطبق عليه مفهوم أنصار.
سوف نحاول في السطور التالية استعراض لفظ (النصارى) الوارد
في كتاب الله، وفهم مدلوله في ضوء ما حصلنا عليه بواسطة الجذر اللغوي.
الآية الأولى: (إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (سورة البقرة: آية 62).
هذه الآية الكريمة وضعت النصارى في فئة الذين لا خوف عليهم
ولاهم يحزنون، واستبعدت كما ذكرنا فئة اليهود. التعريفات المتداولة لمفهوم النصارى
ومفهوم اليهود تتعارض مع هذه الآية؛ لأن مفهومنا الحالي عن اليهود أن لديهم فكرة
التوحيد واضحة أكثر بكثير ممن يتم توصيفهم بالنصارى. بناءً على ذلك فإن هذه
الأوصاف لا تنطبق بشكل قرآني على ما تم توصيفه لحاجة اجتماعية أو سياسية.
النص القرآني لا يفرّق بين أحد، ويعطي أوصاف نماذج وأنماط
معينة، فمن انطبق عليه هذا الوصف فهو واقع تحت هذه الفئة، كما ذكرنا ذلك أكثر من
مرة. مفهوم النصارى أو الذين يناصرون فكرة ما بالوراثة داخلون في نطاق الآية
الكريمة.
لكن كيف نوفق بين مفهوم آية (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن
يقبل منه) وهذه الآية؟
مناصرة الفكرة بشكل وراثي مهما كانت هذه الفكرة، لا تجعل
الإنسان في موقف حرج ما لم يتحيز لهذه الفكرة بشكل متعمد ويطلب بشدة التحييز الذي هو ضد
مفهوم الإسلام، أو يجحد أفكاراً أخرى بدون دليل أو برهان.
إذا جحد الإنسان معرفةً ما رغم وضوحها، فقد انتقل من مفهوم
النصارى إلى مفهوم كُفرِ الفكرة، ولا ينطبق عليه مفهوم الإسلام. ولكن طالما هو
منصف في أحكامه، غير متحيز، ولكن لسبب ما فإنّ نظامه المعرفي غيرُ قادر على
استخلاص فكرة معينة؛ فهو واقع تحت مفهوم النصارى، ولا يخرج عن مفهوم الإسلام،
والذي هو المظلة الرئيسة.
إذا اعتقد الإنسان المناصر لفكرةٍ ما بتفوقه، وأنه أهدى من
الآخرين، واحتكر رحمة الإله، وتطرَّف في ذلك، فقد خرج من مفهوم النصارى إلى
اليهودية. الآية الكريمة رتبت الفئات الأربعة من حيث الهداية، فأكثر هذه الفئات
هداية هم الذين آمنوا؛ لأن إيمانهم ذاتيٌّ قائم على قدرات متطورة. الفئة الأقل من
الذين آمنوا هم الذين هادوا، ولكنَّهم أعلى درجة من النصارى؛ بسبب قلة تشددهم. ثم
يأتي بعد ذلك النصارى، وهي الفئة الأقل من حيث الهداية، ثم الصابئون.
فئة النصارى هي فئة وسطية بين الذين هادوا واليهود؛ إذ إنهم
ليسوا بقدر تعصب وتشنج فئة اليهود ولكنهم في ذات الوقت لديهم درجة من التعصب أكثر
من الذين هادوا.
الآية الثانية: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ
مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ
بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (سورة البقرة: آية 111).
هذه الآية الكريمة تلقي الضوء على المفهوم الشامل للفظ
(هود) ولفظ (نصارى)، ونلاحظ أيضاً في هذه الآية استبعاد لفظ (يهود) تماماً؛ لأنه
لفظ يصف الفئة المتطرفة و المحتكرة للهداية. لا بد أن نتساءل من هم الذين قالوا لن
يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى؟
من المعروف أن التسميات الحالية لا تخدم هذه الآية بشكل
صريح؛ إذ إن اليهود بوصفهم الحالي لا يعتقدون بدخول أحد غيرهم الجنة، وكذلك
النصارى بوصفهم الحالي لا يعتقدون بدخول أحد غيرهم الملكوت. إذن الآية تتحدث عن
فئة واحدة فيها اليهود والنصارى، وليست اتحاداً فيدرالياً بين يهود ونصارى يقسمون
الجنة فيما بينهم نكاية بالمسلمين.
كذلك ورد لفظ ( الذين هادوا أو نصارى) بدون ال التعريف يجعلنا نقول إن كلا
اللفظين في الفئة نفسها.
الذين قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى هم بالفعل (هُودٌا أو نصارى) بنص الآية الكريمة.
لابد من ملاحظة الذين هادوا و النصارى لهم نفس المنهج الفكري تقريبًا إذ كلاهما لم
يؤمن إيماناً حقيقيًا قائم على الدليل والبرهان والبحث. كلاهما استقي ظاهر ايمانه
من تقليد الأخرين ولكن يختلف كلًا منهما عن الآخر في درجة التعصب لما يعتقد. فإن
كان الذين هادوا يشملهم الهدوء والسكون
فإن النصارى ليسوا كذلك بسبب طبيعة الإسم الذي منحهم قوة واندفاع بدرجة ما.
منهجين فكرين متقاربين تمامًا وذلك مما يدفعنا للقول أنهم
يظنون أن الجنة مقصورة على نماذجهم أو
بمعنى أكثر وضوح مقصورة على أصحاب الإيمان
الوراثي، ومناصري هذا الإيمان الوراثي. إنه الصراع بين الموروث والعقل في كل
الملل؛ إذ يظنُّ أصحاب الملة الواحدة أن الإيمان الوراثي هو المنقذ، ويجب التمسك
به ومناصرته. بينما يقول رب العالمين أن الإسلام الحنيف؛ أي عدم التحيز والتطلع
دومًا للمعرفة والحقيقة، هو السبيل الوحيد للنجاة.
الآية الثالثة: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى
عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ
يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ
فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ) (سورة البقرة: آية 113).
رغم أن الآية السابقة تقول أن هناك من يظن أنه لن يدخل
الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، إلا أن هذه الآية ترصد لنا اشتباكاً بين اليهود
والنصارى.
لا يمكن فهم الآيتين السابقتين عن طريق استخدام المسميات
البشرية؛ لأن المسميات البشرية جعلت الذين هادوا واليهود شيئاً واحداً، ولكنَّ
الغوص في الكلمات لا يقول بذلك أبداً؛ بسبب وجود الفروق بينهما. هذه الآية الكريمة
من أعظم الأدلة على أن المسميات في كتاب الله ليست كما يظن الناس وإلا لو كانت
المسميات كما يصنفها الناس حاليًا لاصبحت هذه الآية والآية السابقة في تعارض واضح.
إذ كيف يذكر ربنا في الآية السابقة أنهم قالوا لا يدخل
الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ثم ياتي هنا ويقول إن اليهود قالت ليست النصارى
على شيء والنصارى قالت ليست اليهود على شئ. لا يمكن فهم ذلك إلا من خلال فهم طبيعة
الإسم وخصائصه وصفاته ولا يمكن أن يتساوى الذين هادوا مع اليهود ولا يمكن أن يكونا
نفس الفئة.
هذه الآية اشتباك بين الفئة المتطرفة المقيتة التي تحتكر
الهداية ( اليهود) والفئة المناصرة للإيمان الوراثي. الآية الكريمة تحكي سجالاً
بين فئتين، يبدو أنهم لا يقبلون بعضهم بعضاً، وإن كنت أرجّحُ أن قول النصارى (ليست
اليهود على شيء) ما هي إلا ردة فعل لما قاله اليهود؛ بسبب طبيعة النصارى الأقل حدة.
الآية الرابعة: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ
مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (سورة البقرة: آية 120).
هذا الخطاب للمسلم أو الإنسان الباحث عن المعرفة، غير
المتحيز. فإذا جاءه علم ما واطمأنّ به، سوف يختلف عمّا يعتقده اليهود من
التَّزَمُّتِ والتشدد، وما يعتقده النصارى من فكرة مناصرة الموروث، وعلى هذا
الأساس لا يمكن لهذه الفئات أن ترضى عن صاحب هذا الفكر الجديد. طبيعة الذين تلقوا
معتقداتهم بالوراثة لا تقبل أي خروج عن
المألوف يعتقدون أنّ كل تجديدٍ هو طعن في
الدين؛ ولذلك لا تجدهم أبداً يرضون عن الأفكار الجديدة أو من يعتنقها.
الآية الخامسة: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى
تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) (سورة البقرة: آية 135).
كنا قد تعرضنا لهذه الآية الكريمة عند الحديث عن معنى
الإسلام ومعنى الحنفية، وسوف نركز هنا فقط على مفهوم النصارى. الآية تشير إلى
المنهج الصحيح، وتحديداً الحنفية؛ وهي التطلع للمعرفة والفهم، مقابل الركون
للموروث، سواء ركون ساكن مثل الذين هادوا، أم ركون مع المناصرة مثل النصارى. لاحظ
هنا أيضاً أنّ لفظ اليهود مستبعد تماماً؛ لأن اليهودية درجةٌ شديدةٌ من
التَّزَمُّتِ.
الآية السادسة: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ
نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ
شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (سورة
البقرة: آية 140).
لا سبيل للقول أن أنبياء الله المذكورين في الآية الكريمة
كانوا هوداً أو نصارى بمفهومنا الحالي؛ إذ إنّ اليهودية والنصرانية لم تكن معروفة
وقتئذ. ولكن تصبح الآية ذات معنى إن كان مفهوم الذين هادوا ومفهوم النصارى هو
مفهوم عام، و يصف نمطاً من البشر في تعامله مع الأفكار. الآية تخبرنا أن أنبياء
الله المذكورين في الآية لم يكونوا وراثيين أو مناصرين لما ورثوه؛ وإنما كانوا
باحثين و منفتحين على كل جديد.
هذا المعنى يكاد يعلن عن نفسه في حالة نبي الله إبراهيم،
ولكنّ الجديد هو ذرية نبي الله إبراهيم، والتي يبدو أنها كانت تنتهج النهج العظيم
نفسه الذي انتهجه نبي الله إبراهيم، في البحث عن الحقيقة وطلب المعرفة. لو اعتقدنا
أن مفهوم الذين هادوا هنا أو مفهوم النصارى هو المفهوم الذي نتداوله لوقعنا في
إشكالية كبيرة إذ يصبح الوصف هنا في غير
محله. كيف ينفي القرآن صفة عن قوم هي بالأساس لم يعرفها الناس إلا بعد هذا العصر.
لا يمكن أن يكون ذلك كذلك إلا إذا كانت هذه المسميات تصف أنماط فكرية وليست طوائف
كما نفهمها اليوم.
الآية السابعة: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ
يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (سورة المائدة: آية 14).
الآية الكريمة تشير إلى صفة هامة من صفات النصارى، وهي تراث
نصرة الأفكار. والتوارث في حد ذاته دون إعمال العقل عرضة للتزييف والتحريف،
وبالتالي نسيان بعض الحقائق. نسيان الحقائق يخلق الاختلاف بالتأكيد؛ إذ تنقسم هذه
الفئات إلى فئات متناحرة، كلٌّ حسب ما يتذكر من معلومات ومن حقائق. العداوة غالباً
تتم بين أصحاب النقل، إذ يصرُّ كلُّ فريقٍ على صحة ما نقل. ولو أنهم عَرَضُوا ذلك
على العقل، و فرزوا ما بين أيديهم، لزال الاختلاف وانتهت العداوة.
الآية تشير إلى أن هذا النمط الفكري نمط كثير الاختلاف بعضه
البعض. لا شك أن الاختلاف سببه عدم تبني
هذا النمط الفكري نهج الأدلة واعتماده على التلقين و النسخ والتقليد والرؤى الشخصية.
الآية الثامنة: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ
أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ
أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء
وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) (سورة المائدة: آية 18).
كنا قد تعرضنا لهذه الآية الكريمة عند الحديث عن اليهود،
وقلنا إن كل أصحاب الإيمان الوراثي سواء كانوا متشددين أم مناصرين، فإنهم يعتقدون
بقربهم من الله؛ بسبب ما يبذلونه من جهد، ويعتقدون أن الله يحب ذلك؛ وبالتالي هم
أحبابه وابناؤه؛ بمعنى الأقرب إليه.
يشترك اليهود والنصارى في مسألة التشدد؛ مما جعل فئة
النصارى أقل هداية من فئة الذين هادوا، ولكنهم لا يتساوون مع فئة اليهود.
الآية التاسعة:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن
يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ)(سورة المائدة: آية 51).
النشاط اليومي والتاريخي لا يؤيد أن اليهود والنصارى
بمفاهيمنا التقليدية بعضهم أولياء بعض، حيث المناصرة والدعم على وجه الحقيقة؛ فما
يحدث هو عكس ذلك. لكن في حالة فهم الألفاظ من خلال الإشارات القرآنية، سندرك أن
هاتين الفئتين هما أقرب الفئات إلى بعضهم مقابل الذين آمنوا.
عندما يصبح الأمر متعلق بالموالاة فإن النصارى أصحاب الإيمان الوراثي الأقل
تشددا سوف يميلون لفئة اليهود الأكثر تشددًا لأن بينهم مشترك وهو التراث الذي
ينهلون منه.
الآية الكريمة تحذر المؤمنين من اتخاذ هذه الأنماط الفكرية
المتحجرة أنصاراً أو أعواناً لأن نصرهم لا ينفع، ولا عونهم؛ بسبب طريقة تعاطيهم مع
الأمور. تعطيل العقل والركون إلى الموروث والدفاع عنه هو ظلم كبير؛ ظلم للجيل
الحالي، وظلم للجيل القادم، وحجر على التفكير، ونوعٌ من أنواع تغذية التحيُّز الذي
يسببُ كلَّ ضلال.
الآية العاشرة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ
هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (سورة المائدة:
آية 69).
هذه الآية الكريمة تشبه الآية الأولى التي تم شرحها، فلا
داعي للتكرار، ولكن سوف نقف عليها في نهاية الفصل؛ لبيان وجهة نظر جديدة في إعراب
لفظ (الصابئون).
الآية الحادية عشر: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ
عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا
نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ) (سورة المائدة: آية 82).
كنا قد شرحنا وصف اليهود، ولماذا اليهود أشد الناس عداوة
للذين آمنوا؛ وذلك بسبب تعنتهم الشديد، وتشددهم، واحتكارهم للحقيقة. الآية أيضاً
تشير إلى أن فئةَ النصارى أقربُ مودةً للذين آمنوا، وعلَّلت ذلك بأنَّ منهم قسيسين
ورهباناً، وأنهم لا يستكبرون.
ما جعلهم خارج دائرة الكفر أنَّهم لا يستكبرون، وهي الصفة
التي يتصف بها المتشددون غالباً في مواجهة الأفكار الجديدة. لعل عدم الاستكبار هذا
هو ما نجَّى هذه الفئة، وجعلها تقع في حيز الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أما
اليهود فهم خارج هذا الحيز.
لكن ما دلالة وجود لفظ (القسيسين والرهبان)؟ ولماذا انعكس
هذان اللفظان على جعل النصارى أقرب مودة للذين أمنوا؟
أولاً: لفظ قسيس
أصل كلمة (قسيس) قس، وتعني تتبُّع الشَّيء. نلاحظ أيضاً
تقارب الصوت مع لفظ (قص)، وهو أيضاً تتبع الشيء. لكن من خلال مقارنة صوت الصاد
القوي وصوت السين الأضعف نجد أن القص هو التتبع بقوة، بينما القس هو التتبع
الضعيف، أو اليسير.
من هنا نجد أن لفظ قَصَّاص هو الشخص الذي يتتبع الشيء بقوة
وإصرار، بينما (القسيس) بالقياس هو الشخص الذي يتتبع الشيء، ولكن ليس بالقوة
المطلوبة.
طالما أننا نتحدث عن المناهج الفكرية والأنماط التي تعتنق
هذه المناهج، فإن القسيس هو من يحاول تتبع الأشياء وفهمها بشكل ما. هذا القدر
البسيط والذي يتوافر للقسيس يجعله متواضعاً نوعاً ما؛ لأنه باحث عن الحقيقية، ولكن
بشكل ضعيف. مجرد توافرِ الرَّغبة في تتبع الحقيقة أو تتبع المعرفة أحدثت رقةً في
التعامل مع الآخر؛ إذ أصبحتْ فئة النصارى أقربَ مودةً، لأن منهم نمطَ القسّيس. لا
بد أن نلاحظ أنّ مسمى (قسيس) الحالي لا يشترط أن يكون منطبقاً على اللفظ القرآني.
القرآن يعطي وصفاً لنموذج بشري، إذا توافرت فيه صفة تتبع
المعرفة سُمي (قسيساً)، وإن لم تحصل له هذه الصفة، لا يمكن أن يُسمى (قسيساً). يجب
أن نفرق تماماً بين الوصف القرآني والوصف البشري للأشياء، القائم على ظاهر
الأشياء، بينما القرآن يصف حقيقة الأشياء.
قد ينطبق على القسيس الذي نعرفه اليوم لفظ (المسلم) إذا كان
متجرداً لمعرفة الحقيقة، وغير متحيز، أو ينطبق عليه لفظ (اليهودي) إذا كان متعصباً
متشدداً محتكراً الإله ورحمة الإله، وقد يكون (كافراً) إن كان منكراً للحقيقة
عمداً.
ثانياً: لفظ رُهبان
(رهب) لفظ يدل على الخوف كما جاء في قاموس
اللغة ولسان العرب. لا بد أن نفرق بين الخوف والرهب؛ فالرهب حالة رقيقة، بينما
الخوف حالة يغلفها الفزع. على ذلك يكون الراهب هو الشخص الذي يخاف ويرهب شيئاً ما،
وطالما نتحدث عن المناهج الفكرية فهو لا شكَّ الشخصُ الذي يَرهب، أو يحاول عدم
الوقوع في المحذور. إنه صاحب قلب رقيق، يجعله أقلَّ عداءً بكثير للذين آمنوا،
بخلاف الشخص المُتزمِّت المتشدد الذي يحتكر الإله، والمندفع في كره كل من يخالفه.
بعد بيان مفهوم القسيس والرهبان، يتضح لنا لماذا فئة
النصارى أقرب مودة للذين آمنوا؛ وذلك لأن منهم نموذج القسيسين، الذين لديهم الرغبة
في المعرفة، وإن لم تكن قوية، ونماذج أخرى تملك رقة في القلب، تجعلها لا تُضمِر
العداءَ اتقاء الوقوع في المحذور.
الآية الثانية عشر: (إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (سورة الحج: آية 17).
هذه الآية الكريمة تؤكد ما ذهبنا إليه، من أن فئة النصارى
من الفئات التي قال فيهم الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ إذ إنهم بشكل من الأشكال
بريئون من صفة الكفر.
بعد بيان مسمى (النصارى) ومن قبله (اليهود) و(الذين هادوا)
نستطيع التأكيد على أن هذه المسميات تختلف عن المسميات البشرية؛ فمسميات القرآن
تصف نماذجَ وأنماطاً فكريةً، بينما التسميات البشرية هي تقسيمات عنصرية، بزغت
نتيجةً لحاجة المجتمعات لتنظيم بعض المعاملات الاجتماعية، والتنظيرات السياسية.
هذه التقسيمات العنصرية أنتجت عقليات مشوهة؛ تُكفِّر
بالجملة، وتطلق الأحكام، مستندة حسب زعمها إلى كتاب الله، وهي في الحقيقة مستندة
إلى تصورها التاريخي عن كتاب الله.
أنا هنا لا أُحابي أحداً، ولا يعنيني أمر فئة بعينها، ومن
الممكن أنَّ من نصنفه حسب التصنيف التقليدي على أنه يهودي، قد يكون حسب التصنيف
القرآني مسلماً، أو من الذين هادوا، أو من النصارى، أو من الكافرين. كل ما هنالك
أنني أتمنى أن يفرق الناس بين المدلول البشري و المدلول القرآني. وليس معنى أنّ فئة
انطبق عليها هذا المسمى في وقت ما يصبح ملازماً لها بغض النظر عن سلوكها ومناهجها
الفكرية.
ما يؤيد كلامي أن القرآن لم يصف النصارى بمفهومهم القرآني
أنهم كفار، وإلا ما دخلوا في قول الله تعالى: (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). بل إن
القرآن عندما وصف حالة من حالات الكفر قال: (قد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث
ثلاثة، أو إن الله هو المسيح ابن مريم).
)لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا
اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (سورة
المائدة: آية 72).
(لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا
مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن
لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ) (سورة المائدة: آية 73).
الذين يقولون هذا القول ليسوا من فئة النصارى، ولكنْ
وَصَفَهم الله بالكفر، وهذا الوصف وصف عقائدي، لا ينبني عليه قتال أو أي نوع من الاعتداء.
مسألة التكفير العقائدي بالجملة مسألة مستحيلة، ومن ينتهجها
شخص لا يفهم النص القرآنيّ، وغارقٌ في التراث التاريخي حتى أذنيه. لو فرضنا أنّ
شخصاً يريد أن يطلق حكم الكفرِ بناء على هذه الآيات التي بين أيدينا. في البداية
لا بد أن يكون الحكم على شخص واحد بشكل منفرد، بناءً على إقرار الشخص ذاته، مع
إدراكه ما يقول؛ بحيث لا يجوز أن يقول الشخص أنه يقصد أنَّ المسيح ابن الله بمعنى
المقرب أو أي شيء آخر.
عملية التكفير عملية صعبة للغاية فيما يخص المناهج الفكرية،
ولكنَّ كُفرَ الحقوقِ وإنكارَ حقوق الآخرين هو الواقع في نطاق الإنسان، ويستطع
تقديره بشكل سليم والحكم فيه. على كل مجتمع حماية نفسه من هؤلاء الكافرين الذين
يجحدون حقوق الآخرين. التفريق بين الكفر العقائدي وكُفر الحقوق سوف يضع النقاط على
الحروف، فلن ترى أناساً يدعون لقتال مجتمعات لا تبادرهم بأي سوء، ويصمتون على من
يهضم حقوقهم و يسومهم سوء العذاب.
خلْطُ المفاهيم جعل الناسَ يتخبَّطون، وفي كل وادٍ يهيمون،
يعادون أبرياء، ويخضعون للظالمين؛ بسبب توصيفات بشرية لم تصلْ لحقيقة اللفظ
القرآنيّ. وذلك يؤيّد قولنا أن لفظ (النصارى) توصيفٌ لمنهجٍ فكريٍّ مختلف عن منهج
الكافرين. والقول بأنهم شيء واحد لا يمكن أن يصدر ممن يتدبر آيات الله كما جاء في
الآية التالية.
الآية الثالثة عشر: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم
بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ
اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (سورة التوبة: آية 30).
لم تذكر الآية أن اليهود من الذين كفروا؛ لأنهم بالتأكيد لا
ينكرون الحقيقة عمداً واستكباراً؛ ولكنّ قدراتهم المعرفية ضعيفة، ولو أنهم أنكروا
الحقيقة لما سُمّوا يهوداً من الأساس. كذلك في قول النصارى المسيح ابن الله بمعناه
القرآني، ليس كفراً صريحاً، ولكنَّه مضاهاةٌ لقول الذين كفروا، والفرق كبير بينهم.
القول بأنّ المسيح ابن الله بمعنى المقرب من الله، كما
يعتقد اليهود في أنفسهم أنهم أبناء الله وأحباؤه؛ هو لا شك تجاوزٌ، ولكنه ليس كفراً.
بينما القول أن لله ولداً هو القول العظيم، أو أن الله ثالث ثلاثة، وأن المسيح
نفسه هو الله.
الأقوال متعددة، والناس على اختلافهم مختلفون في ذلك، فلا
يمكن إطلاق لفظ التكفير بالعموم. كذلك لفظ (النصارى) لا يعني أنهم كافرون، ولكن إن
قال هؤلاء أن المسيح ابن الله في غير المعنى البيولوجي، فهو تجاوز ومضاهاة لقول
الذين كفروا وليس كفراً.
المسيحيون في كتاب الله
دعونا الآن نشرح لماذا مفهوم المسيحيين لم يذكر في كتاب
الله.
مفهوم المسيحيين هو مفهوم بشري خالص، لا يعكس حقيقة المسمى،
ولكي يكون مسمى حقيقياً لا بد أن يكون المسمى منتسباً إلى المسيح كما ذكر القرآن
أو يحمل صفات وخصائص الاسم. لذلك لا يوجد هذا التصنيف في القرآن ولم يذكره، لأنه
ببساطة تصنيف غير حقيقي.
من المضحك أنّ رجال الدين يستخدمون تعبير المسيحيين مرادفاً
للنصارى، ويضعون الجميع في سلة الذين كفروا دون أن يرمش لهم طرف، ودون أن يحاولوا
فهم ما تعني هذه المسميات في آيات الله. لو رتلوا القرآن لما قالوا على الله ما لا
يعلمون، ولما أساؤوا لدين الله، وما جعلوا القرآن عضين.
في السطور المتبقية سوف أتناول وجهة نظر مختلفة لحالة
إعرابية محيرة لأهل اللغة.
الآيتان التاليتان وقع إعراب (الصابئين) فيهما بشكل مختلف
كما سوف نرى.
الآية الأولى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَٱلَّذِينَ
هَادُوا وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ
ٱلْءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (سورة البقرة: آية 62).
الآية الثانية: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَٱلَّذِينَ
هَادُوا وَٱلصَّٰبِـُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ
ٱلْءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
(سورة المائدة: آية 69)
معنى الصابئين: المتحولون من دين إلى دين، أو من ملة إلى
ملة. وهذا المعنى يتوافق مع جذر الكلمة، ولا غبار عليه. نلاحظ في الآية الأولى أن
لفظ الصابئين جاء منصوباً؛ لأنه معطوف على اسم إنَّ، وهي الحالة الإعرابية
الصحيحة، حسب قواعد اللغة العربية المستخدمة حالياً.
في الآية الثانية جاء لفظ (الصابئين) مرفوعاً، وهو في
الحالة نفسها، معطوف على اسم إنّ، وكان من المفترض أن يكون منصوباً.
أهل اللغة لديهم تخريجان مشهوران لهذه الحالة:
التخريج الأول: وهو اعتبار أن جملة (الصابئون) في الآية الثانية
اعتراضية، فكأنها جملة جديدة، وتعرب مبتدأ مرفوعاً.
التخريج الثاني: العطف على اسم إنّ قبل دخول إنّ!. لن
اعلِّق على تخريج كهذا، يستطيع أي منصف من أهل اللغة إدراك أنّ هذه التخريجات فيها
ما فيها وهي تبريرات سيئة للغاية.
هذه الحالة من الحالات التي تدق جرس الإنذار لإعادة فهم
الحالة الإعرابية بناء على القرآن، بل وفهم الحالة الحقيقة التي يصفها التعبير
القرآني بكل دقة، وبعمق لا مثيل له.
لفهم هذه الحالة الإعرابية لا بد أن نفهم الحالة التي تصفها
الآية الأولى، ثم الآية الثانية.
حرف إنَّ له عمل أساسي؛ وهو التوكيد. وترتيب الفئات
المذكورة في الآية الأولى وحسب تحليل الألفاظ كما ذكرنا، هو الذين آمنوا ثم الذين
هادوا ثم النصارى.
الصابئون هم المتحولون من دين إلى دين، أو من ملة إلى ملة،
أو من منهج إلى منهج. هذه الفئات التي جاءت في الآية داخل حيز المبشرين من الله
بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الفئات التي تلي النصارى -كما بيّنا- مثل اليهود
والكافرين لا تدخل في هذا الحيز.
قال المفسرون في لفظ (الصابئين) أنهم فئة معينة، وتم
تصنيفها كما صُنِّفَت فئة اليهود والنصارى. بحسب فهم الكلمة سنجد أن الصابئين هي
حالة كل متحول من حالة فكرية إلى حالة أخرى. المستقرون على منهج فكري معين لا يصح
تسميتهم بالصابئين؛ وإنما الصابئ من هو في طور التحول فعلياً، حتى يكون اللفظ
حقيقياً معبراً عن المسمى.
في الآية الأولى جاء لفظ (الصابئين) آخر الفئات، واصفة
المتحولين من الفئة الأقل إلى الفئة الأعلى، والعكس بالعكس . في حالة التحول من
الفئة الأقل وهي اليهود والكافرين غير المشمولين في الآية إلى الفئة الأعلى وهي
النصارى، فإن الآية تخبرنا بشكل مؤكد أن هؤلاء داخلون ضمن حيز من قال فيهم الله لا
خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أما تحول فئة النصارى إلى فئة اليهود فهو تحول من الأعلى
إلى الأقل، وهؤلاء لا تنطبق عليهم الآية من الأساس؛ لأن فئة اليهود أو الفئة الأقل
بصفة عامة ليست مشمولة في هذه الآية. لهذا السبب نجد حرف (إنَّ) قد عمل عمله، وهو
التأكيد، وجاء لفظ (الصابئين) موافقاً الحالة الإعرابية. كأنّ الآية تؤكد على أنّ
الصابئين موقعهم في هذه الآية أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الآية الثانية وقع لفظ (الصابئين) بالرفع (الصابئون)، بين
الذين هادوا والنصارى. تعالوا نطبِّق القاعدة وهي التحول من منهج إلى منهج.
في حالة التحول من فئة النصارى إلى الذين هادوا، والمفترض
أن النصارى أقل هداية من فئة الذين هادوا وهم الأعلى، فالتحول هنا شيء مقبول
وسليم. على ذلك سيكون الصابئون هنا من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
على الجانب الآخر سيكون هناك تحول في الاتجاه الثاني، وهو
من الذين هادوا إلى النصارى، وهو تحول من الأعلى إلى الأقل. هذا التحول تحول ضلال،
فيصبح الصابئون هنا غير مشمولين بالآية، لأنهم انتقلوا من حالة هداية أعلى إلى
حالة هداية أقل
يمكننا القول هنا أن تأكيد دخول الصابئين في حيز الذين لا
خوف عليهم ولاهم يحزنون ليس تأكيداً تاماً؛ لذلك لم تعمل إنَّ عملها، ولم تؤكد لفظ
(الصابئين)، فجاءت علامتها الإعرابية مخالفة للنصب المتفق مع عمل إنّ بنسبة مائة
بالمائة.
هذا يعنى أن جزءاً من الصابئين داخلون في حيز الآية، وجزء
آخر لن تنطبق عليه الشروط؛ لذلك لم يؤكد حرف إنّ حالة الجملة تأكيداً قاطعاً
كالجملة السابقة، وجاء لفظ (الصابئون) بالرفع مشيراً إلى أن حرف (إنَّ) لم يعمل
عمله؛ لأن التعبير يصف حالة حقيقية.
لفظ (الصابئين) جاء في آية
أخرى بالترتيب نفسه، ولكن جاء منصوباً بالعلامة الصحيحة، وقد سبقه الذين هادوا،
وجاء بعده النصارى.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ
اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) (سورة الحج: آية 17).
حرف إنّ عمل هنا، وأكّد اللفظ؛ لأن الحالة مختلفةٌ تماماً،
وهي أن الله سوف يفصل بينهم يوم القيامة. لم تذكر الآية أنه لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون كما الآيات السابقة، ولكن أكدت أمراً مؤكداً بأن الله يفصل بينهم يوم
القيامة.
نكرر أن الإعراب في القرآن يعكس حالة حقيقة؛ ولذلك لا بد أن
يؤخذ في الاعتبار ما تعنيه الألفاظ وحالتها، حتى يتم فهم الحالات الإعرابية
الشاذة، والتي سببت إشكاليات لا حصر لها وحرجاً كبيراً.
سوف أعطي مثالاً آخر لتوضيح الفكرة، وهو المثال المحير الذي
جاء في سورة طه:
خاطرة حول إن هذان
لساحران
(قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ
يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ
الْمُثْلَىٰ) (سورة طه: آية 63).
اسم الإشارة (هذان) جاء في هذه الآية مخالفًا علامة
الإعراب، والتي من المفترض أن تكون (إن هذين لساحران).
سوف أنقل من تفسير الطبري القول في هذه الآية؛ لنعلم كم
الاختلاف الذي دار حول هذه الآية، ثم أشرع في تحليلها بناء على المنهج الذي
استخدمه في تحليل اللفظ القرآني.
(قوله تعالى: قالوا (إن هذان لساحران) قرأ
أبو عمر (إن هذين لساحران)، ورويت عن عثمان وعائشة -رضي الله عنهما- وغيرهما من
الصحابة، وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين، ومن
القرّاء عيسى بن عمر وعاصم الجحدري فيما ذكر النحاس. وهذه القراءة موافقة للإعراب،
مخالفة للمصحف. وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير
وعاصم في رواية حفص عنه (إنْ هذان بتخفيف (إن) لساحران) وابن كثير يشدّد نون
(هذانّ). وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب، ويكون معناها: (ما
هذان إلا ساحران). وقرأ المدنيون والكوفيون (إن هذان لساحران) بتشديد (إنّ)،
فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب. قال النحاس فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن
الأئمة.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ (إن هذان إلا ساحران)،
وقال الكسائي في قراءة عبد الله: (إن هذان لساحران) بغير لام، وقال الفراء في حرف
أبي (إن ذان إلا ساحران) فهذه ثلاث قراءات أخرى تُحمل على التفسير، لا أنها جائز
أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف.
قلت: وللعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها
ابن الأنباري في آخر كتاب الرد له، والنحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره، وغيرهم
أدخل كلام بعضهم في بعض. وقد خطّأها قوم حتى قال أبو عمرو: إني لأستحي من الله أن
أقرأ (إن هذان). وروى عروة عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سُئلت عن قوله تعالى:
لكن الراسخون في العلم، ثم قال: والمقيمين، وفي (المائدة) إن الذين آمنوا والذين
هادوا والصابئون، و(إن هذان لساحران)، فقالت يا بن أختي! هذا خطأ من الكاتب. وقال
عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: في المصحف لحن وستقيمه العرب بألسنتهم. وقال أبان
بن عثمان: قرأت هذه الآية عند أبي عثمان بن عفان، فقال لحن وخطأ، فقال له قائل:
ألا تغيروه؟ فقال: دعوه فإنه لا يحرم حلالاً ولا يحلل حراماً) انتهى الاقتباس من
التفسير.
كما نرى أن هناك إشكالية
كبيرة في هذه الآية، وقد تناولها أهل اللغة المعاصرون بتخريجات عدة، ليس لها علاقة
بحالة الجملة وما تصفه الجملة. لم تأخذ التخريجات المليئة بالثقوب أن القرآن يصف
حقائق مجردة، ويمكن البحث عن هذه التخريجات ومراجعتها لمن أراد الاستزادة.
في هذه الآية كذلك نرى أن التعبير القرآني يعكس حالة
حقيقية، وهي حالة فرعون عندما قال ما قال. عمل حرف (إنّ) التأكيد، ولكنّ فرعون نفسه
لديه شك في كون نبي الله موسى وأخيه هارون بالفعل ساحرين، أو أنهم ليسوا بساحرين،
فعندما نقل القرآن هذه الحالة نقلَ حقيقة الحالة، إذ بدا فرعونُ ظاهرياً مستخدماً
التوكيد، ولكنّ حالته الحقيقية ليست بهذا التأكد. من أجل ذلك جاءت (إن) لتصف قوله
على حقيقته، ولم تعمل فتنصب اسمها، واصفة الحالة التي عليها من عدم التأكد.
بمجرد اعتبار كتاب الله هو الحقيقة المطلقة بشكل عملي، وليس مجرد قولٍ خالٍ من المضمون، سوف يتغير كل شيء. سوف يتغير فهم الألفاظ، وتتغير قواعد الإعراب، وتستقيم اللغة بشكل لم يسبق له مثيل، وسوف يبوح كتاب الله بأسراره، ويصبح دليلاً عقلياً على وجود الخالق
Comments
Post a Comment