الفصل الثاني _عشر اليهود

الفصل الثاني عشر اليهود

بعد أن حاولنا فهم معنى الإسلام ومعنى المسلم، سوف نحاول في هذا الفصل فهم لفظ اليهود، وما هي الحالة التي يشير إليها هذا اللفظ.

التفاعل مع كتاب الله يتم عن طريق الإطار المعرفي للبشر في كل زمان ومكان. لك أن تتخيل أنّ مجموعة مكونة من مليون شخص أطلقت الدولة عليهم مسمى مسلمين، فهل هذه التسمية صحيحة؟ هل كل الأفراد في هذه المجموعة غير متحيزين ومتجردون عند التعامل مع الأفكار؟

تسمية الدولة أو السلطة أو تسمية المجتمع هي تسمية تخدم الغرض الذي أعدت من أجله، ولكنّ تسمية القرآن تسمية حقيقية، لا تنطبق إلا على من توافرت فيه شروط الإسلام كما بيّنها القرآن. جميع التسميات ينطبق عليها هذا المبدأ؛ إذ إنها تسميات حقيقية في كتاب الله، وليست تسميات تبعاً لمفهوم هذه الكلمات عند البشر، حتى وإن تأثرت بعوامل عديدة جعلتها عنصرية أو طائفية أو حزبية.

المشاهدات اليومية العادية سوف تخبرك أن من تطلق عليهم لفظ اليهود أو النصارى حسب التوصيف الفقهي مختلفون بشكل كبير جداً في مناهجهم الفكرية، ولا يمكن وضعهم جميعاً تحت منهج فكري واحد. الاعتقاد بأن القرآن يسمي المسميات هكذا بالجملة، ولا يقيم لها بالاً، هو اعتقاد بدائي للغاية ولا يجوز. قد يكون المعتنق للطقوس اليهودية -حسب تسميتنا-يهودي المنهج الفكري فعلاً، وهذا ليس معناه أنهم الوحيدون الذين ينطبق عليهم هذا التوصيف. الصحيح أن كل من توافرت فيه صفات المسمى وخصائصه هو ذو منهج يهودي أو نصراني. كذلك الذي يتبع منهج المسلم أو عدم التحيز من أي فئة فهو مسلم، وعندما يطمئن ويستقر على مفهوم فهو مؤمن.

توصيفات غاية في الدقة في كتاب الله، يجب التعامل معها بكل حذر؛ حتى ننقل ونبلغ آيات الله بكل أمانة دون تحيز أو احتكار للمعرفة.

العنصرية والطائفية هي أكبر عائق يهدد وجود البشرية؛ إذ ينتشر الكره والعنصرية باسم الله، وتنشب الصراعات، ويهلك الأبرياء. جميع الفرق المتناحرة ترى أنها على الصواب، وأنها تقدم خدماتها للإله. قراءة  القرآن وترتيل آياته بشكل علمي ، وفهم معاني هذه التسميات، من خلال كتاب الله، سوف يمنع التنطع، الذي يزج الناس جملة واحدة في خانة الكفر و خانة العداء، ويرميهم في النار قولاً واحداً. فهم هذه التصنيفات سوف يساعد المسلمين بالمفهوم القرآني في كل مكان على تقبل بعضهم بعضاً، وفهم أسباب الطائفية، وفهم المناهج الفكرية المختلفة عنهم، ومعرفة كيفية التعامل معها.

ماذا إن التزم كل إنسان بكتاب الله ولم يتجاسر على خلق الله، ولم يحتكر هذه التقسيمات، ولا سيما أنها تقسيمات تقوم بالأساس على قدرة الإنسان المعرفية؟.

 هذه المسميات في كتاب الله قائمة بالأساس على النظام المعرفي للإنسان، وتعامل هذا الإنسان مع المعرفة حوله، وتعاطيه مع مجتمعه. فكما أن المسلم هو وصف لكل إنسان غير متحيز، مقبل على المعرفة، ليس لديه فكرة مسبقة يريد إثباتها، نجد على الجانب الآخر أن الكافر هو الممتلئ بالتحيز، وينكر كل حقيقة ومعرفة رغم وضوحها وجلائها. أما المشرك فهو ذلك الشخص غير المستقر، الذي يخلط الأمور بشكل عجيب، فإذا ظهرت الحقيقة أمامه بشكل واضح لابد له أن يدمج معها شيئاً آخر؛ لأنه غير قادر على التعامل مع الحقيقة بشكل مجرد.

أعلى درجات الإشراك هو الإشراك بالله؛ إذ تجد أن الإنسان يؤمن بكلمات الله بدرجة ما، ولكنه في الوقت نفسه يدعم تأويلات قد تناقض كلمات الله. هذه الحالة واضحة عند كثير من المتدينين؛ إذ تجد أن هذا المسكين يؤمن بقول الله في كتابه بحرية الاعتقاد، ولكن في الوقت نفسه يؤمن بقتل المرتد. قتل المرتد عقائدياً لا يمت بصلة لكتاب الله. ومع ذلك تجد كثيراً من هؤلاء المتدينين يؤمنون بنص كهذا يخالف كتاب الله وهذا نوع من أنواع الشرك.

خطورة هذا النوع من الشرك أنه بالمعرفة قد يتحول إلى كفر، مما ينذر بخطرٍ جسيم على مستقبلِ هذا الإنسان. يتحول الشرك إلى كفر بمجرد أن يعرف الإنسان خطأ ما يعتقد؛ إذ تتوافق المفاهيم الجديدة مع المفاهيم العقلية لديه، ولكن يا للحسرة بسبب التحيز المعرفي يصرُّ إصراراً غير مبررٍ على صحة ما يعتقد، في إنكارٍ واضحٍ للمعرفة الجديدة، معتمداً فقط على ثقةٍ مزيَّفةٍ في معرفته الموروثة، وهنا يصبح الشرك الخفي كفراً بواحاً.

كل متجردٍ للحقيقة متتبعٍ لها باحثٍ عنها هو مسلمٌ حنيف، وكل من يخلط هذا بذاك ولا يستطيع التفريق بنفسه وقع في الشرك، وكل من أنكر المعرفة وجحدها داخلٌ تحت مظلة الكفر. لا يهم ما يقوله أو ما يبدو عليه أو ما هي طائفته في بطاقة الهوية. لا يهم ما يرتديه وما يفعله من طقوس فالأمر متعلق بتفاعله المعرفي مع محيطه.  الأمر كله متعلقٌ بقدرة الإنسان المعرفية، ولذلك كان جميع الأنبياء مسلمين؛ لأنهم كانوا باحثين عن الحقيقة غيرَ متحيزين.

قبل أن ندلف إلى تحليل كلمة (يهود) لابد أن نشير إلى أن فهم كلمة (مسلم و كافر ومشرك) تحديداً لابد أن يتبعها فهمٌ لسياق الخطاب. التعريف الذي تناولناه في الفصل السابق والذي نتناوله في هذا الفصل، يتحدث عن معرفة الحقيقة، والاعتقاد، ومعرفة الله. ولكن إن جاء سياق الإسلام مخصصاً في الحديث عن الحرب مثلاً؛ فهو يعني عدم الاعتداء، وعدم التحامل، والإنصاف في التعامل.

إذا جاء وصف الكفر في تعاملات الناس مع بعضها؛ فإن الكفر هنا يعني جحد حقوق الناس، وظلمهم، وقطع حقوقهم عمداً وبإصرار شديد. كذلك لابد من الوقوف على مفهوم الشرك، والفرق بين الشرك المعرفي والشرك الذي يعتبر خيانة، مثال ذلك: العلاقات المتعددة، أو حتى العمل ضد صالح المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان. لذلك عندما ندرس آيات الكفر في كتاب الله وآيات القتال لابد أن نبحث ونفرق بين أنواع الكفر، وهل هو كفرٌ معرفي أم هو كفرُ الحقوق؟ وهل الإشراك إشراكٌ معرفي أم إشراكُ خيانة؟ ولا يمكن تعميم الأحكام؛ مما يسبب فوضى لا حصر لها.

لاشك أن ألفاظ مثل (الكفر والشرك وأهل الكتاب) لو حاولنا تتبعها كما جاءت في كتاب الله، لوضَّحت كثيراً من المسائل الغامضة؛ لذلك هي تحتاج لجهدٍ كبير. ويكفينا هنا هذه الإشارة الخفيفة، وإن كان هناك فرصةٌ سانِحة سوف نخصِّصُ لها كتاباً كاملاً نفصلها تفصيلاً دقيقاً، أو يلتقط أحد الباحثين الخيط فيحمل على عاتقه مهمة هذا البحث.

في السطور القادمة سوف نحلل لفظ (يهوديّ) لنحاول الوقوف على هذا المعنى، ونحاول التفريق بين المعاني القرآنية وما يعتقده الناس، وبنوا عليه تصوراتهم.

مفهوم اليهود

لفظ يهود أصلها هود ويعني السكون (البطء) كما جاء في قاموس اللغة. الفرق بين لفظ هود ولفظ هاد هو حرف العلة، حيث جاء حرف الواو في المنتصف في كلمة هود، بينما جاء حرف الألف في منتصف كلمة هاد. إذا كان حرف الألف يدل على مد الشيء وعلى الحركة الممتدة، فإن حرف الواو من خواصه الضم الممتد مما يشير إلى الاستحواذ.

حتى يمكننا فهم لفظ (هود) ومشتقاته، لابد أن نقارن بينه وبين لفظ (الإيمان)؛ إذ يبدو أن كليهما يشبهان بعضهما. الإيمان هو الاستقرار والطمأنينة، بينما هود هو السكون، ومنه الهدوء والهدى، وهو الاسترشاد بشيء. الإيمان كما بيّنّا في الفصل السابق هو عملية اطمئنان، ولكنها نابعةٌ من الداخل، نتيجة تفاعلاتٍ معرفية. بينما الهدى فهو اطمئنان نتيجة لمصدر خارجي، ولذلك نقول أن الإنسان يهتدي بالمصباح، كما اهتدى نبي الله موسى بالنار عند عودته من مدين.

(إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)(سورة طه: آية 10).

كذلك الهدى متناسب مع لفظ الاتباع، بينما الإيمان لا يصح أن يُتَّبع. أو بمعنى أقرب، الهدى يمكن أن يقلد، بينما الإيمان حالة خاصة بكل فرد.

(وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا  أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)(سورة القصص: آية 57).

الإيمان حالة راقية تعتمد على قدرة الإنسان الذاتية، وعلى ارتباط وثيق بتطور قدرات الإنسان. بينما الهدى حالة أقل؛ لأنه يحتاج لمصدر خارجي للقياس عليه.

من أجل ذلك كان الوصف الأشهر لأتباع نبي الله موسى صلوات ربي عليه هو الذين هادوا؛ لأن البشرية في ذلك الوقت لم تكن بالرقي العقلي والمعرفي الذي يؤهلها لمرحلة الإيمان بمفهومه القرآني. بينما في حالة أتباع نبينا صلوات ربي عليه فقد وصفوا بالذين آمنوا؛ لأن البشرية وصلت لمرحلة تستطيع الوصول لحالة الإيمان الداخلي. هذا لا يلغي أن هذه الأنماط جميعها موجودة في البشرية، ولكن بنسب متفاوتةٍ اعتماداً على قدرات الفرد المعرفية.

سوف نلاحظ أنّ مفهوم (الذين هادوا)، ومن ثم (اليهود)، مرتبط بالهدى بوصفه مظهراً وتصرفات خارجية أكثر منها سلوكاً داخلياً. إنها حالة تشبه حالة الطفل الذي يقلد أباه في كل أمر محمود، فهو في الحقيقة يهتدي بأبيه، ولو جاز لنا التعبير فهو من الذين هادوا، ولكن لكي يصل إلى مرحلة الإيمان يحتاج لمزيد من النضج والبحث والتجارب الذاتية.

لا شك أن لفظ (هاد) يختلف عن الجذر (هود) كما ذكرنا، باختلاف حرف العلة في المنتصف، والذي رأينا تأثيره شديد الوضوح في كتاب الله. بينما لفظ (هاد) أو (هادوا) جاء أحياناً كثيرة في مواضع محمودة، إلا أن لفظ (اليهود) بزيادة الياء في البداية جاء دائماً في مواضع مذمومة. يبدو أن تأثير حرف الواو ودلالته على الاستحواذ، ودلالة حرف الياء في البداية، أضافت للفظ صفات الاستحواذ، واستمرارية هذا الاستحواذ، عن طريق إضافة الياء في البداية.

يبدو أن لفظ (اليهود) يصف مجموعات احتكرت الهدى، واستحوذت عليه، رغم أنه ليس تفاعلهم الذاتي، بل هو هدى مصدره خارجي. سوف نلاحظ ذلك بسهولة عند تتبع آيات الكتاب وفهم سياقها.

في الآيات المشهورة التي تحدثت عن الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، نجد أن تركيب (الذين هادوا) هو المستخدم، وليس لفظ (اليهود):

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (سورة البقرة: آية 62).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (سورة المائدة: آية 69).

يبدو من الآيات الكريمة أن تركيب (الذين هادوا) داخل تحت مظلة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بعكس لفظ (اليهود). يبدو أن الذين هادوا رغم أنهم غالباً يحتاجون نسخة من الهداية لاتباعها، إلا أنهم لا يحتكرون الهداية بمفهوما الشامل، وغير متشددين في ذلك كما لفظ اليهود، رغم أنهم نسخ مقلدة لهدى غيرهم. يمكننا القول أنهم حالة أقرب إلى حالة الوراثة منها إلى حالة التفاعل العقلي المطلوب. كذلك يمكن اعتبار الذين هادوا هم السواد الأعظم من أتباع الملل؛ إذ إنهم مع وجود نسخة معينة من الهداية فهم يتبعونها بغرض الهدى، ولكن دون تفكير وبحث.

لذلك كان نصيبهم في الآية الكريمة أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ لأن الأمر يتعلق بقدرات معينة، وقد تكون ظروف منعتهم من التطور والرقي. إذا اختلطت هذه الهداية المقلدة بشيء من الكفر أو التكذيب أو الاستكبار ولو حتى القليل فهنا تكمن المشكلة. نظام الذين هادوا المعرفي هش للغاية، ويمكن أن يوقعهم في الضلال بكل سهولة؛ بسبب غياب القدرات العقلية التي تؤهل للإيمان الكامل.

لذلك نجد أن الذين هادوا ليس شرطاً لهم أن يكونوا على بينة من أمرهم على طول الخط؛ بل إن القرآن يحكي عن هؤلاء القوم مواقف ليست في صالحهم مثل الآية في سورة النساء.

(مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (سورة النساء: آية 46).

الذين هادوا هنا يحرفون الكلم عن مواضعه بقصد؛ لأن الآية الكريمة وصفتهم بالكفر في نهايتها. الآية جاء فيها وصفان، وهما الذين هادوا ووصف الكفر، فلابد أن يتعلق وصف الكفر هنا بصفتهم، وهي الذين هادوا. لقد وضحت الآية لماذا كفر هؤلاء الذين هادوا؛ لأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه. ويبدو من وصفهم أنهم يحرفونه بغرض الهداية، أو هكذا يعتقدون.

إننا امام نموذج من البشر يبغون الهداية، ويبدلون الحقائق، ومن ثم يحيدون عن الطريق المستقيم، رغبة في الهداية أو هكذا يظنون. هؤلاء الذين يبدلون الحقائق عن قصد وعمد ملعونون، وموصفون بالكفر، حتى لو كانت نيتهم الهداية. هذه النماذج تموج بها جميع الطوائف، وهي أناس يغيرون الحقائق و يبدلونها، وهم في الحقيقة راغبون في الهداية، ولكن عقولهم صورت لهم أن عدم قول الحقيقة كاملة أو تغير الحقيقة بشكل ما أكثر فائدة ونصحاً للمجتمع

نياتهم حسنة، ولكن أفعالهم التزوير المختلط بتبرير الهدى كارثي. لدينا أمثلة كثيرة على هذه النماذج في التاريخ الإسلامي، سوف يدركها كل من يقرأ كتب التاريخ، ولا حاجة لنا بذكر هذه الأمثلة هنا.

 هؤلاء الذين هادوا أكثر الناس خطورة على كلمات الله وعلى معتقدات الناس، وخصوصاً في المجتمعات البسيطة المتواضعة معرفيًا. لأنهم بكل بساطة يضلون الناس بما لهم من مظهر الهداية، ولكنهم ضالون؛ لأنهم يغيرون ويبدلون قول الله بشكل متعمد، و يؤلونه بما يخدم رؤيتهم، وهم يعتقدون في ذلك الهداية. الآية التالية تعطينا لمحة أكثر عمقاً على تصرفات الذين هادوا:

(فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا) (سورة النساء: آية 160).

حرم الله عليهم طيبات بسبب تشددهم؛ لأنهم انحرفوا عن جادة الطريق، وهم يعتقدون أنهم مهتدون، فكان عقاب الله لهم من جنس ما عملوا. عندما شدد هؤلاء على أنفسهم، وحرفوا التوجيهات الربانية بحجة الهداية، حرم الله عليهم طيبات هي بالأساس كانت حلالاً. إنه التحذير الإلهي من التحريف والتشدد، حتى بحجة الهداية؛ لأن ذلك ظلم للنفس عاقبته وخيمة. الآية التالية تعطينا لمحة أخرى عن أفعال الذين هادوا، وكل هذه الأفعال تتعلق بكونهم يطلبون الهداية، ولكنهم متجاوزون في ذلك.

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (سورة المائدة: آية 41).

لعل هذه الآية تؤكد لنا معنى الذين هادوا، وهم الأقرب للذين آمنوا إيماناً ظاهرياً؛ أي أن إيمانهم ليس ذاتياً كما ذكرنا في بداية تحليل لفظ هادوا. لا شك أنهم سماعون للكذب، لا يستطيعون التفريق بين الحقائق والمكائد، وهذه أهم سماتهم؛ بسبب سطحية الطريقة التي اهتدوا بها وهي التقليد والنسخ. كل الآيات تشير إلى أن هؤلاء القوم نموذج أقل تطوراً في المجتمعات، ولكنه لا يصل لدرجة اليهود كما سوف نرى.

لعل الجانب المضيء لدى هؤلاء هو رغبتهم في الهداية، ولكن يبدو أن هناك بعض الحواجز المعرفية التي تمنعهم من ذلك. مع تطور البشرية وتطور طريقة التفكير لابد أن يقل أو يختفي نموذج الذين هادوا، ويحل محله الذين آمنوا. إذا أسلم الناس وفهموا مفهوم الإسلام لابد أن يتحولوا إلى الذين آمنوا، وإذا تغلب عليهم هواهم ومصالحهم انتقلوا إلى جانب الذين كفروا في البيئات التي يغلب عليها الطابع المادي. أما إذا كانوا في بيئات ضحلة معرفياً ولكنها ليست سيئة التصرفات والسلوك، فغالباً ما يكون السائد هو نموذج الذين هادوا، ويندر تبعاً لذلك نموذج الذين آمنوا المحتاج لمجهود بحثي.

من هنا نجد أن الله جمعهم مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ربما لرغبتهم في الهداية، ولكنهم انحرفوا بسبب قلة علم أو نقص معرفة، مما جعلهم في كثير من الأحيان يبدلون الكلام، و يحرفون الحقائق. هذه النماذج توجد في كل المجتمعات وكل المعتقدات، رغبة في هداية الناس، ولكن فعلهم غير قويم. إنه تحذير من الله إلى أولئك الذين يعتقدون أنهم مهتدون بأن يلتزموا بالطريق القويم، ولا يحاولوا الإفتاء أو الافتراء على الله بحجة هداية الناس. خصوصاً إذا كانت هذه الهداية التي يعتنقونها ليست نتاج بحث وتحليل وجهد جهيد، ولكن هي أقرب للتقليد.

المنطقة الآمنة لهؤلاء طالما أنهم لا يقدرون على التمييز السليم والفرز، هو عدم خوضهم فيما لا يعلمون، وأن يكتفوا بأنفسهم قدر المستطاع حتى لا يقعوا في فئة الضلال والإضلال.

سوف نكتشف مع الآية التالية الفرق بين الذين أسلموا والذين هادوا، ودرجة كل فئة.

(إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (سورة المائدة: آية 44).

الذين أسلموا في الآية الكريمة هم النبيون، وأسلموا لأنهم ليس لديهم أي نوع من التحيز. أما الذين هادوا فهم تابعون هنا للذين أسلموا. هذا الاتباع متوافق تماماً مع مفهوم الذين هادوا الذي استخلصناه من الآيات السابقة، إذ إنهم لا يهتدون إلا بوجود نموذج خارجي، أو مصدر هداية يقيسون عليه هدايتهم.

تبرز هنا إشكالية أن الذين هادوا جاؤوا مع التوراة، فكيف نقول أن الذين هادوا هو وصف لمنهج فكري في كل المجتمعات وفي كل الأزمنة؟

لا شك أن الذين هادوا هنا هو وصف عام له صفات وخصائص، انطبق على فئة من المخاطبين بالتوراة، فسمُّوا بالذين هادوا. ومثال ذلك لفظ المسلمين الذي وجدناه في كتاب الله ينطبق على أتباع نبي الله موسى، وأتباع نبي الله عيسى صلوات ربي عليهم أجمعين. فكما أن لفظ المسلمين ليس مخصصاً لأتباع رسولنا الكريم بنص القرآن، فكذلك جميع الأوصاف الأخرى هي أوصاف عامة، قد تنطبق على حالات خاصة كما تبين الآيات.

الفرق الجوهري أن لفظ الذين هادوا -لا شك- كان ينطبق على غالبية الناس في القديم، في حين أن المجتمعات كلما تقدمت حل الذين آمنوا محل الذين هادوا.

لفظ اليهود

على الجانب الآخر نجد أن لفظ اليهود هو لفظ مذموم على طول الخط؛ بسبب البعد الجديد الذي اكتسبه اللفظ، وهو بُعد الضم الممتد، أو لفظ الاستحواذ المشتق من حرف الواو، وكذلك حرف الياء الذي جاء في بداية الكلمة، والذي يوحي بالاستمرار.

لفظ اليهود كما سوف نرى هو حالة ثقة مستمرة في الهدى، بل واحتكار الله مما دفع القوم إلى التجرؤ على الله بل وإتخاذ أنفسهم وسطاء بين الناس وبين الله، والقول على الله بشكل فظ، والاعتقاد أنهم خير الناس قاطبة، وإخراجهم لكل ما عداهم من دائرة الهدى.

إنه نموذج خشن للهداية، وصعب المراس، لا يعترف بغير هداه، ويحتقر كل ما سواه. إذا انطبقت هذه الأوصاف على أي شخص فهو -لا شك- يهودي الفكرة. إنما وصفت المجتمعات المتعنتة باليهودية بسبب هذا التعنت، واحتكار المعرفة، وعدم اعترافها بالآخر. إذا تخلى الإنسان عن هذه الأوصاف لا يصح أبداً وصفه باليهودي؛ وإنما ينتقل تلقائياً إلى الأوصاف الأخرى في كتاب الله، حتى وإن كان مكتوباً في بطاقة التعريف الخاصة به أنه يهودي.

لو أن هذا الشخص باحث عن الحقيقة بصدق وإخلاص فهو -لا شك- مسلم، ولو أنه جاحد للمعرفة متحيز فهو واقع في الكفر لا محالة. اليهودي كما جاء في القرآن هو النموذج المتطرف في كل ملة، بل هو أقصى نموذج للتطرف وعنوانه.

سوف ندخل إلى الآيات التي جاء فيها ذكر اليهود؛ لنتعرف بشكل كامل على هذا الوصف، وكيف استخدمه القرآن الكريم.

الآية الأولى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (سورة البقرة: آية 113).

 الآية الكريمة تشير إلى احتكار اليهود للحقيقة، وحكمهم بذلك. وإنما حكموا بذلك بسبب قلة علمهم كما تنص الآيات. كل من يصدر الأحكام بهذه الطريقة دون تفريق فهو واقع في وصف اليهود، وسوف نتعرف على من هم النصارى عندما نأتي على هذه الآية في وصف النصارى.

الآية الثانية: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (سورة البقرة: الآية 120).

لن ترضى عنك اليهود هنا لأنهم محتكرون للمعرفة؛ بسبب ظنهم أنهم أكثر الناس هداية. إنها طبيعة كل متطرف لا يرضى عن الآخرين إلا من على شاكلته. لاشك أن فئة اليهود في كل عصر هي الفئة المتمسكة بما هي عليه، وتظن أنها مهتديه بشكل حصري، مما يدفعها لاحتقار الآخر ونبذه.

الآية الثالثة: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (سورة آل عمران: آية 76).

 هذه الآية الكريمة تبرئ نبي الله إبراهيم من كونه يهودياً أو نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً. كما بينا أنه كان غير متحيز، وباحثاً عن الحقيقة. فلو كان يهودياً لما وصل إلى الحقيقة، بل اكتفى بما هو عليه قومه، وتعصب لما يملكه من معرفة، وظن أنه من أهدى الناس.

الآية الرابعة: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (سورة المائدة: الآية 18).

صفة كل المتطرفين أنهم يظنون أنهم مقربون من الله؛ ولذلك يرتكبون كل الموبقات باسم الله. هذه الآية تنبه أولئك الذين يعتقدون هذا الاعتقاد بأنهم مقربون بشكل ما من الله، أو أنهم أبناء الله وأحباؤه، بأنهم ليسوا كذلك؛ إذ لو أنهم كذلك لما وقع عليهم العذاب. العذاب هنا هو عذاب في الدنيا أو نكد الحياة؛ لأن الآية تشير إلى هذا التساؤل في الدنيا، ونحن لم نصل للآخرة بعد. من يظن أنه من أحباء الله لابد أن يتساءل لماذا تصيبه المصائب بسبب تصرفاته التي يعتقد انها من الدين؟

سوف يقول لك رجال الدين أن المصائب التي تصيب هؤلاء، من الإيمان، وأنها اختبار من الله. وسوف ندخل في دائرة الشر، ومن خلق الشر، وكيف يصيب الله الناس بالمصائب. وقد أفردنا لها فصلاً كاملاً في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب، ولا سبيل لإعادته مرة أخرى.

يكفي أن نقول أنّ الله وعد المؤمنين بالحياة الطيبة في الدنيا، نعم في الدنيا؛ فعندما تحدث منغصات في حياتك الدنيا حاول أن تكتشف من أين جاءت هذه المنغصات، وحاول معالجتها، لا أن تتعاطى مسكنات توهمك أنها ابتلاء واختبار من الله. لا أقول أنّ احتكار الهداية والتعصب هي سبب كل بلاء، ولكن لها تأثير ملموس ووزن كبير في تكدير حياة الإنسان وعدم توفيقه. الآية الكريمة تشير إلى الذنوب التي يقترفها هؤلاء اليهود، وهي بالطبع مرتبطة بوصفهم باليهود؛ لأن تطرفهم الشديد هو الذنب الذي اقترفه هؤلاء.

الآية الخامسة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (سورة المائدة: الآية 51).

الآية الكريمة تنهى عن تولي هؤلاء القوم، أو بالأحرى تُرَغّب بالابتعاد عنهم. لماذا نبَّهت الآية على عدم توليهم، ورغَّبت في الابتعاد عنهم؟

لأن التقرب من هذه النماذج يشعرهم بصحة ما ذهبوا إليه، وأنهم على الحقيقة، مما يزيدُ في طغيانهم وفي إصرارهم على التطرف. الابتعاد عن النماذج المتطرفة وتجنبهم يزيد من عزلتهم، ويمنحهم فرصة لمراجعة مواقفهم إن كانوا يعقلون. أما توليهم أو مناصرتهم فهو كارثة على البشرية. هذا المبدأ يقوم به كل المعتدلين في كل المجتمعات؛ إذ نجد أن الأشخاص الأسوياء لا يقبلون ولا يناصرون المتطرفين؛ لأن مناصرتهم تدمير للمجتمع، وجرٌّ للمجتمع إلى الهاوية المعرفية.

الآية السادسة: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (سورة المائدة: آية 64).

هذه الآية الكريمة جاءت مخصصة لليهود دون النصارى، إذ تشير الآية إلى تقوُّل اليهود على الله، وجرأتهم على وصف الله بما لا يليق. القول بأن يد الله مغلولة هو قول كل المتطرفين الذين احتكروا الإله، و احتكروا رحمته، وجعلوها على مقاس معارفهم ومقاس تصوراتهم الذهنية. كل من حجَّم قدرة الإله وجعلها مغلولةً هو واقع تحت وصف اليهود، وهم المعنيُّون باللعن.

ليس شرطاً أن يقول اليهود التعبير القرآني نفسه، ولكن المعنى هنا تصورهم عن يد الله. الغَلّ مقابلٌ للبسط؛ فالذين يحجِّمون رحمة الله أو الذين يُقسمون للناس أن الله لن ينالهم برحمة منه، هم يقولون أن الله لا يبسط رحمته. وهو قول خطير، لا يقول به عاقل.

لو أنصف الإنسان لما انحدر إلى هذه المنطقة الخطيرة التي تجعله مصدِّراً للأحكام، ومحتكراً لرحمة الله. هناك تعبيرات يستخدمها بعضهم تعطي معنى أن الله يده مغلولة وغير مبسوطة، خصوصاً من  يكفرون الناس بالجملة ويصبون العذاب صبًا على من يخالف معتقداتهم وتصوراتهم.  يمكن أن يقول الإنسان رأيه ووجهة نظره كما يشاء في تصرفات الآخرين، ولكن عليه الحذر الشديد من أن ينسب شيئاً إلى الله أو يتقول على الله.

لا يفعل ذلك إلّا ضيُّق الأفق محدود التفكير، وهم الصنف الأعنف في احتكار الحقيقة، هم اليهود المعنيون في التوصيف القرآني حتى لو كان أحد هؤلاء يدعى عالم زمانه في طائفته.

الآية السابعة: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) (سورة المائدة: آية 82).

في هذه الآية الكريمة توصيف لموقع اليهود من الذين آمنوا. فلماذا اليهود والذين أشركوا هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا؟

ولماذا هم أشد عداوة  للذين آمنوا خاصة؟

كما ذكرنا أن الذين آمنوا لا بد أن يكونوا مسلمين بدايةً، فمن غير المظلة الرئيسة لا يمكن الوصول إلى الإيمان الحقيقي. فالإسلام هو عدم التحيز، وعندما يصل الإنسان إلى قناعة تامة يصبح مؤمناً بها. لو تشبث الإنسان بالفكرة وتحيز لها وتطرف، فسوف يتحول من صف  الذين آمنوا إلى منطقة اليهود. ولكن إن كان على استعداد لقبول فكرة أخرى تخالف ما يعتنقه، تكون أكثر ملاءمة وأكثر موافقة للمفاهيم العقلية لديه، فإنه يصبح مسلماً. عندما تستقر الفكرة في ضميره يصبح مؤمناً بها.

من هنا نستطيع القول بأن الفرق الجوهري بين المؤمن واليهودي هو أن المؤمن متحرك منسجم مع حركة الكون، بينما اليهودي ساكن مكتفٍ بما حققه ومتعصب له. المؤمن دائم البحث لتأمين مصيره، بينما اليهودي منشغل بالأخرين؛ لأنه يعتقد أنه أكثر هداية منهم.

عداء اليهود للذين آمنوا نابع من نظرة اليهود للذين آمنوا؛ إذ يرونهم متغيرين غير موثوق بهم. بينما اليهود ثابتون بل مكتفون بما ورثوه وحققوه من نسخ وتقليد نموذج الهداية عند الآخرين . أيضاً عداء اليهود هو رد فعل طبيعي على الذين آمنوا؛ فالذين آمنوا يكونون في مرحلة اطمئنان لأفكارهم، وأكثر اتساقاً معها، وأكثر وثوقاً بها، مما يثير حفيظة اليهود أصحاب المنهج الإقصائي الذي يرفض كل جديد.

عندما جاءت الرسالة في بدايتها إلى رسول الله صلوات ربي عليه كانت هذه المسميات واضحة؛ فكل الذين يبحثون عن الحق كانوا في الحقيقة مسلمين، وعندما دخل الإيمان في قلوبهم واستقر أصبحوا مؤمنين. فلما أصبحوا مؤمنين أثاروا حنق اليهود الذين ورثوا الهدى، وتعصبوا له، واعتقدوا أنهم أهدى الناس.

كان العداء واضحاً بين الذين آمنوا واليهود؛ لأن ثمة منافسة على المكانة لدى الله. لكن ما نود أن نشير إليه أنّ اليهود بطبيعتهم إقصائيون، لا يريدون أحداً سواهم مع الله، أما الذين آمنوا فليسوا كذلك. ولكي يحذر الذين آمنوا من أن يتحولوا إلى يهود لابد أن يعوا تلك الحقيقة، ويبتعدوا عن الإقصاء، و يستمروا في البحث وتحري الحقيقة، حتى تطمئن لها نفوسهم.

إنها منافسة على الهدى من جانب اليهود، والتي يجب أن يتجنبها الذين آمنوا. فالذين آمنوا دائماً قلوبهم وجلة ويخشون ربهم، ولا يأمنون مكر الله؛ ولذلك هم مشغولون بهداية أنفسهم عن منافسة الآخرين.

الآية الثامنة: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (سورة التوبة: آية 30).

هذه الآية الكريمة تضع اللبنة الأخيرة في تأكيد مفهوم اليهود، وهم كما قلنا محتكرو الحقيقة، الذين يظنون أنهم أكثر الناس هداية، وأقرب الناس إلى الله، مما أقعدهم عن طلب الحقيقة وطلب المعرفة.

قالت اليهود عزير ابن الله، فهل قال اليهود المعروفين باسم اليهود اليوم أو في الماضي، أن عزيراً ابن الله؟

 عزير

الإجابة لو تتبعت قصة عزير هذا، وهل قال اليهود عنه أنه ابن الله، سواء اليهود الأوائل أم المتأخرون، لن تجد أحداً منهم يقول أن هناك شخصاً اسمه عزير ينعته اليهود بأنه ابن الله. عندما تقرأ للمفسرين الذين حاولوا تفسير هذه الآية سوف تجد حيرتهم واضحة بشكل كبير. جميع أقوال المفسرين عن عزير هذا أقوال مرسلة ومشتتة، لا تقوم على أي حقيقة.

بعض المفسرين يعتقد أنَّ شخصاً اسمه عزرا -وهو شخص مبجل عند اليهود، ويصفونه بالكاتب، أو حتى بعزرا النبي- هو المقصود بعزير. مع ذلك يقول اليهود أنهم لم يقولوا على عزرا هذا يوماً أنه ابن الله.

كما قلنا أنّ القرآن يعطي مسميات حقيقة، وعندما يذكر عزيراً لابد أن نبحث ما المقصود بعزير هذا.

أصل كلمة (عزير) هو عزر، وأصلها التعظيم والنصر، ويظهر معنى عزر في قول الله تعالى في سورة الفتح:

(لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (سورة الفتح: آية 9).

ي لسان العرب لابن منظور نجد أن (عزر) تعني التوقيف على الشيء، حيث جاء في لسان العرب (والعَزْرُ التوقيف على باب الدِّين).

من هنا نجد لفظ (عزير) أقرب لكونه صيغة مبالغة للفعل (عزر) مما يعني أنه الشخص ذو المكانة العظيمة والجليلة في شأن ما. السؤال هنا: ما هو الشيء الذي يحتل فيه هذا العزير هذه المكانة؟

سياق الآية يتناول وصف اليهود، فلابد أن يكون عزير هذا من بين اليهود، بل وهو رأسٌ من رؤوسهم على العموم.

مما سبق يمكننا القول أن عزيراً هو وصف للشخص الأكثر تمسكاً بالمنهج، وأكثرهم إصراراً عليه؛ لذلك قال عنه اليهود أنه ابن الله، لمّا رأوا منه التمسك والمبالغة بما يعتقدون.

الفئة التي ينطبق عليها توصيف اليهود تجدها بالفعل تجلّ الشخص الأكثر تمسكاً بمنهجها، بل وتتقرب إلى الله بحبه كما تقول هذه الفئات، وتدل كل أفعالهم على اعتقادهم أن هذا الشخص أكثرهم قرباً لله. إنه نوع مركب من الجهل؛ فاحتكارهم للهداية جعلهم يبجلون أكثرهم جهلاً، ويضعونه بمثابة الأقرب إلى الله.

إنها دائرة ملعونة من الضلال، يَمنح فيها العزير ثقة لأتباعه، ويَمنح الأتباع ثقة وزهواً وانتصاراً زائفاً لهذا العزير، إنها صورة لتكامل الجهل لا مثيل لها.

لفظ (عزير) متوافق تماماً مع وصف اليهود الذي توصلنا إليه من خلال الآيات الكريمة، وليس اسم شخص محدد تعتبره طائفة اليهود المشهورة كابن لله.

هذه الفئة فئة مذمومة في كتاب الله؛ لأنها فئة تنفِّر الناس من فكرة الإله، وتجعل الإله متحيزاً وعنصرياً، مما يقنّط الناس من رحمة الله.

لا شك أن الفئة التي عارضت رسول الله صلوات ربي عليه في المدينة ينطبق على أغلبهم لفظ اليهود بجدارة، وخصوصاً تلك الفئة الواثقة من الهداية التي ورثتها. ولكن في الوقت نفسه لا يمكن أن يكون كلهم بلا استثناء يهوداً بالمعنى القرآني.

 سوف نعطي مثالين لتوضيح الفرق بين المسميات داخل هذه الفئة نفسها:

المثال الأول: هو عبد الله بن سلام، وهو حسب الوصف التقليدي كان يهودياً وأسلم. لنمر سريعاً على قصة عبد الله بن سلام وكيف أسلم، كما جاء في البخاري.

عن أنس بن مالك قال: (أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي ـ صلى الله عليه وسلمـ المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟، وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟، قال: أخبرني به جبريل آنفا، قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت، وأما الولد: فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال: يا رسولَ اللهِ، إن اليهود قوم بُهْت، فاسألهم عنِّي قبل أن يعلموا بإسلامي، فجاءت اليهود، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟، قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، قالوا: شرُّنا وابن شرِّنا، وتنقصوه، قال: هذا كنتُ أخاف يا رسولَ الله).

الذي يمكن أنْ نستَشفَّه من القصة أن عبد الله بن سلام لم يكن يهودياً أبداً، وإنما كان مسلماً؛ لأنه بدا واضحًا أنه غير متحيز للحقيقة التي لديه، فلما طرقت مسامعه حقائق أو قل معلومات جديدة  لم ينكص بل تطلع وحاول فهم المقصود والمعنى. فلما أعطى لنفسه فرصة التفكير دون تحيز لما يعرفه ويعرفه قومه عرف واستيقن أنه الحق. ما لبث أن أعمل الرجل عقله وفتح قلبه فاستقر الإيمان فيه؛ لذلك وصف  بن سلام  باليهودي حتى قبل لقائه برسول الله لا يصح؛ تبعاً لمفهوم اليهود في كتاب الله.

الرجل لم يكن يهوديا أبدا بل كان مسلمًا ولما وافقت لديه الحقائق الجديدة المفاهيم العقلية قبللها على الفور فأصبح مؤمنًا .

هكذا كل إنسان باحث عن الحقيقة بإخلاص في غير تحيز هو مسلم رغم أنف كل السجلات المدون فيها غير ذلك، في أي مجتمع ،وفي أي طائفة، وفي أي بقعة جغرافية.

على الجانب الآخر قصة حيي بن أخطب، كما جاءت في سيرة ابن هشام.

(تحكي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب - رضي الله عنها - عن ذلك فتقول: "كنتُ أَحَبَّ ولد أبي إليه وإلى عَمِّي أبي ياسر، لم ألقَهُما قطُّ مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه.

فلمَّا قَدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ونزَل قباءَ في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حُييُّ بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مُغلِّسين؛ أي: ساروا بغَلسٍ، وهو ظُلْمة آخر الليل.

قالت: فلم يَرجِعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالَّيْن كسلانين ساقطَينِ يَمشيان الهُوينى، فهشَشْتُ إليهما، كما كنتُ أصنَعُ، فواللهِ ما التفَت إليَّ واحد منهما، مع ما بهما من الغمِّ.

قالت صفية - رضي الله عنها -: وسمعتُ عمي أبا ياسرٍ وهو يقول لأبي حُيي بن أخطب: أهو هو؟ (أي: هل محمد - صلى الله عليه وسلم - هو النبي الذي نَنتظرُهُ، الموجودة بشارته في كتبنا؟)، قال حيي بن أخطب: نعم والله.

قال أبو ياسر: أتعرفه وتُثبِتُه؟ قال حيي بن أخطب: نعم. قال أبو ياسر: فما في نفسك منه؟ قال حيي بن أخطب: عداوتُه واللهِ ما بقيت).

من خلال هذه القصة سوف ندرك أن حيي بن أخطب كان ينطبق عليه التركيب القرآني (الذين هادوا)؛ لأنه ذهب بالفعل إلى رسول الله ليراه، ولكن بمجرد رؤيته تحول إلى الكفر؛ لأنه جحد واستكبر رغم أنه استيقن الحقيقة.

حتى لو كان ينطبق على حيي بن أخطب صفة اليهودي  قبل لقائه رسول الله لأنه كان متعصب لما يملك من المعلومات أو ما يظن انه حقائق، إلا أن هذا الوصف لم يعد ينطبق عليه بعد هذا اللقاء، وتحول للكفر.

إننا نضرب هذه الأمثال لتوضيح النماذج الفكرية المختلفة، وأنها ليست وظائف ثابتة، وإنما منهج فكري. قًصر هذه التوصيفات على فئات معينة دون النظر إلى المناهج الفكرية التي يمثلونها هو رؤية بشرية خالصة، لا تتوافق مع اللفظ وصفاته في كتاب الله. مهمتنا أن نبين للناس المنهج القرآني، وليس علينا هدى أحد، والله يحكم بين العباد.

الذين يصرون على تقسيماتهم السياسية على أنها تقسيمات كتاب الله هو ينقلون كتاب الله من كونه كتاب هداية للناس إلى كونه كتابًا عنصريًا متحيزًا ضد فريق بالجملة. الناس متفاوتون بشكل يصعب تصديقه وعملية تصنيف الإنسان من أصعب ما يكون لأنه يفكر. إذا كانت التصنيفات السياسية والفقهية مهمة لتسير المجتمعات فلا ضير في ذلك ولكن على الأقل لا تقحموا كتاب الله في هذه التصنيفات وبلغوا الناس كيف تناول كتاب الله هذه الفئات من خلال تقسيمها معرفيًا وليس طائفيًا كما يحدث الآن.

لعل فهم هذه التوصيفات في كتاب الله يجعل الإنسان حذرَا أن يقع في فخ الكفر أو اليهودية وهو يظن نفسه أكثر الناس إسلامًا. قد تكون هذه التوصيفات بشرى للذين يبحثون عن الحقيقة بإخلاص بأنهم مسلمون وهم مصنفون  طائفيًا من فئات أخرى،  فيعلموا رحمة الله  بهم التي حوتها كلماته ولكن لأسباب عديدة طُمست هذه الحقائق وضل الناس عنها. ليس علينا هدى أحد ولكن نقول ما اجتهدنا في بيانه  ونعتقد في صوابه خلال مدارسة كلمات وتعبيرات كتاب الله. 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع- عشر العصر

الفصل السادس- النبي

الفصل الأول - القرآن العظيم