الفصل الثالث - هاتوا برهانكم
الفصل
الثالث هاتوا برهانكم
اليوم يختلف عن الأمس، وما قَبِله الآباء والأجداد بالحدس
والفطرة فإن الأبناء لن يقبلوه كذلك. جيلاً بعد جيل تتراكم المعرفة ويسود العقل،
وتتعاظم سلاطين العلم والتجربة، ولا سبيل إلى لجم الأسئلة بالعواطف أو بالإرهاب
الفكري، فهذا عصر قد ولى.
رجل الدين الذي يردد تلك العبارات التي حفظها عن وجود الله،
دون أن يكلف نفسه معرفة كيف فندها الآخرون، عاجز تماماً عن مناقشة صبي بعمر العشر
سنوات تلقى تعليماً جيداً قائماً على التفكير. يحاول المتدينون تحصين أبنائهم ضد
مثل هذه التساؤلات عن طريق اتهام الآخر بالضلال والكفر والزندقة، ولكن للأسف سوف
تنهار هذه التحصينات مع أول نقاش، أو أول كتاب يطالعه. سوف تتزاحم الأسئلة و
تتقافز الشكوك. إن لم يتصد لمثل هذه النقاشات أهلها، بعيداً عن المقلدين، لسوف
تنهار المنظومة الفكرية لهؤلاء المنعزلين، ولن يبق أمامهم من سبيل سوى التطرف.
نعم، إذا قصرت العقول عن إدراك الأمور، وعجزت عن وجود أجوبة
منطقية؛ فلا سبيل لحماية نفسها إلا بالتطرف. التطرف هو الشيء الوحيد الذي يحمي
العقل إذا عجز عن مقارعة الفكرة بالفكرة؛ فيلجأ إلى الالتفاف على نفسه، ومن ثم نبذ
الآخر، واتهامه بالجهل، وبالتالي معاداته واحتقاره. التطرف هو انغلاق فكري كامل،
وشعور مزيف بالمعرفة، تجده عند المتدين ذي المستوى الفكري المتدني، وتجده عند
الملحد الذي تعرض للاضطهاد.
كلاهما عانى من خبرات تفوق قدراته المعرفية، فلجأ إلى
الانزواء بعيداً، ضمن مجموعة تشبه نمطه الفكري؛ ليصب جام غضبه على المجتمع وسلوكه،
وعلى الأنماط الفكرية المغايرة له. المتطرف يكره الاختلاف، ويراه تهديداً لسلامته؛
لأنه عاجز عن أن يكون مختلفاً بشكل إيجابي. الاختلاف يعني جهداً عقلياً زائداً،
والمتطرف لا يرغب في ذلك، فالتقليد لديه مريح. المتدين المتطرف يقلد الموروث دون
أي جهد في التفكير، والملحد المتطرف كذلك،
يقلد من سبقه دون أي قدرة على التمييز، أو فرز الغث من السمين.
إننا في مجتمع المتطرف فيه أعلى صوتاً؛ لأنه يتعامل مع القضايا
الفكرية المعقدة على أنها معركة بين طلاب في مدرسة، أو بين العامة في الشارع، ولا
يدري أن لكلٍّ وجهة نظر، لها وجاهتها ، فلا بد من الإنصاف في النقاش، وعدم التحيز
لرأي قد يكون خاطئ.
من القضايا التي أظنها قضايا شائكة للغاية هي قضية وجود
الله، ومع ذلك فإن الأصوات الأعلى التي تتصدى لهذه القضية جُلُّها متطرفة، تتحدث
من جانب واحد، وليس لديها حتى القدرة على تجربة النظر من الجانب الآخر.
المتدين يرى أن وجود الله أبلغ من أن يحتاج إلى دليل، وأن
عقل العاقل يدرك هذه الحقيقة كبديهة وفطرة. عندما يتعامل المتدين مع هذه القضية
فهو ينطلق من شعور إيماني، وعاطفة جياشة، تجعله يستخف بالرأي الآخر، ولا يحاول
فهمه بشكل كامل.
معالجة مثل هذه الأمور لابد لها أن تتم بعيداً عن العواطف؛
حتى لا يقع الإنسان في المغالطات المنطقية، وبدلاً من الانطلاق من العاطفة يجب
تقديم الأدلة والبراهين، التي تدعم وجهة النظر التي يتبناها أي طرف.
دائماً هناك مجموعة من الأدلة يسوقها المتدين على وجود
الله، ويقابلها المنكر لوجود الله بنقد لاذع، ومن ثم ينتهي النقاش بين الطرفين دون
أي جدوى.
جميع الأدلة التي يتم النقاش حولها هي أدلة على وجود
الخالق، أو وجود المسبب، أو سبب الخلق، وليس على وجود الله.
في البداية، لا بد أن نفرق بين مفهوم الإله ومفهوم الخالق؛
حتى يمكننا فهم أبعاد المشكلة.
الإله هو من يصدر التعليمات والتكليفات، ويأمر بالطاعة،
ويعد بالثواب، وتوعد المخالفين بالعقاب. بينما مفهوم الخالق هو الذي أوجد الأشياء،
أو المسبب الذي سبب حدوث الأشياء.
عندما يتصدى أحد المتدينين للنقاش حول مسألة وجود الله، هو
في الغالب لا يفرق بين مفهوم الإله ومفهوم الخالق، بسبب الإيمان المستقر لديه؛ بأن
الخالق هو الله. على الناحية الأخرى، نجد اللاديني مستميتاً في دفاعه عن عدم وجود
إله، برغم تسليمه بكثير من الأمور المنطقية عن وجود سبب للخلق، وهو ما يعرف
بالخالق.
المتدينون واللادينيون العقلانيون متفقون في الغالب على
وجود خالق أو مسبب، ولكن الاختلاف يكمن في أن المتدينين يسمون هذا المسبب (الله)،
بينما يرى الملحدون أن السبب هو شيء آخر، قد يكون بحسب زعمهم (الطاقة العمياء)، أو
حتى سبباً غير معروف حتى الآن.
من أشهر الأدلة التي يتم النقاش حولها، وتعتبر أسباباً
وجيهة لوجود الله، هي كالتالي:
الدليل الأول: دليل الخلق والإيجاد، أو دليل الحدوث
يقوم هذا الدليل على محورين رئيسين، هما:
1)الكون حادث من العدم،
وليس قديمًا.
2)كل حادث لابد له من
محدِث.
مسألة لكل حادث محدِث هي مسألة منطقية إلى حد كبير، ولكن
المتدين قفز من وجود خالق إلى وجود إله، وهو ما رفضه الملحد. يرفض الملحد تسمية
سبب الخلق بالإله، هذا كل ما في الأمر. قبول وجود خالق سهل نسبياً، بينما قبول
فكرة الإله ليست بهذه السهولة، وخصوصاً مع تعدد التصورات الذهنية عن الإله. مئات
المجتمعات والجماعات لديها تصورات للإله تختلف عن بعضها بعضاً، بل إن كلاً منها
يدعي امتلاك الحقيقة، ويتصور أن مخالفي فكرته كافرون بالله.
عندما يصر أحد الأطراف على أن هذا الدليل هو دليل على وجود
الله، فهو يتحدث في الغالب عن وجود خالق أو مسبب
إسمه (الله)، بينما الطرف الآخر يرفض أن يعطي للمسبب اسم (الله)، ويسميه في
الغالب (سببٌ ما).
الدليل الثاني: دليل الإتقان والإحكام
ويقوم على محورين: 1) الكون محكم ومتقن في خلقه. 2) الإتقان
والإحكام لابد له من فاعل.
دليل الإتقان كذلك، برغم نقضه
علمياً، هو دليل على وجود مسبب، لو افترضنا صحته.
الدليل الثالث: امتناع الصدف
الدليل قائم على عدم قدرة
الصدف على إيجاد خلق بهذا الشكل. نعم دليل الصدف دليل قوي، ولكن سيظل هذا الدليل
دليلاً على وجود مسبب وخالق، وليس بالضرورة دليلاً على وجود إله. امتناع الصدف
يعني وجود خالق، ولكن يبقى السؤال: هل طلب هذا الخالق من البشر تكليفات، وأعطاهم
تعليمات محددة، وأي تعليمات هي الصحيحة حيث كل أمة لديها تصورها الخاص عن الإله
وتعليمات الإله.
الدليل الرابع: دليل الحركة
الدليل ينص على أن
العالم بكل ما فيه متحرك، وكل متحرك يلزمه محرِّك. أيضا نحن هنا أمام دليل
على وجود مسبب، وليس على وجود إله.
الدليل الخامس: القاهرية
ملخص الدليل أن
الطبيعة تميل إلى البقاء لولا وجود إرادة مفروضة عليها تدفعها نحو الفناء؛
وبالتالي لابد من وجود خالق يدفع المخلوقات نحو الفناء. أرباب الطبيعية قالوا: إن
إرادة الفناء تتبع قوانين الديناميكا الحرارية، والتي تنص على أن هناك تحولات
مستمرة، والموت هو صفة طبيعية؛ بسبب عدم قدرة الخلايا على طرح الفضلات خارجها.
بغض النظر عن هذه التفاصيل العلمية، يبقى السجال بين الطرفين حول وجود خالق أو وجود
مسبب، وإن كان هنا سماه المتدين إلهاً وفقاً لإيمانه؛ فقد سماه الملحد (الطبيعة)
وفقاً لمنطقه.
كثير من الفلاسفة يعتقدون أن الدين تجربة شخصية لا تخضع
للعقل؛ وإنما هي عملية إيمان بالغيبيات، ولا يوجد دليل عقلي على وجود إله بمعنى
الاله الحكيم القدير، الذي يطلب من البشر تكليفات معينة، وفي يده الثواب والعقاب.
عند هذه النقطة نرى أن الفلاسفة محقون تماماً في أنه لا
يوجد دليل عقلي على وجود إله، وخصوصًا في ظل تنوع المجتمعات، وتعدد صور الآلهة
التي يؤمن بها كل مجتمع، حتى داخل المجتمع الواحد الذي يبدو أنه يؤمن بمعتقد واحد
سنجد أن الصورة الذهنية عن مفهوم الإله لدى كل فرد من أفراده -وإن كانت في بعضها
فروقاً طفيفة- فهي لا تزال فروقاً تعتمد بالأساس على عوامل عدة، منها قدرات الشخص
العقلية، وثقافته، والخبرات التي عايشها، وطريقة نشأته.
الإنسان المتشدد يؤمن بوجود إله يطلب منه أن يكون وصياً على
البشر، وأن يفتش في نواياهم. بينما هناك من يؤمن أن الإله لم يطلب ذلك منه، ولا
يهمه من لم يؤمن. هاتان صورتان ليستا متطابقتين تماماً لمفهوم الإله عند كلا
المجموعتين.
الإنسان الذي يعتقد أن الإله يجبر الإنسان على الأفعال،
ويسيره دون أي إرادة من الإنسان نفسه، تختلف صورة الإله لديه تماماً عن صورة الإله
التي يؤمن به الآخرون، الذين يظنون أن الإنسان يخلق أفعاله، أو أن الإنسان مخير
في كل أفعاله. هذه الفروق وإن ادعى بعضهم أنها فروق طفيفة في بعض الأحيان،
إلا أن تأثيراتها عظيمة على تفاعل الناس مع التوجيهات الإلهية.
الكتب المقدسة لدى الأمم المختلفة تؤمن بوجود إله واحد،
ولكن كل أمة تعتقد أن لها الإله الخاص بها.
في الكتاب المقدس في (سفر التثنية، الإصحاح 5، الأعداد 7-9
) نجد عبارة صريحة تقرر وحدانية الله: "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع
لك تمثالاً منحوتاً، صورةً ما ممّا في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما
في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن، ولا تعبدهن؛ لأني أنا الرب إلهك إله غيور".
مع ذلك يعتقد المؤمنون بالكتاب المقدس أنهم يؤمنون بإله
مختلف عما يؤمن به المسلمون.
في الكتب المقدسة لدى الهندوس سنجد عبارة:
"الإله
واحد لا ثاني له" مدونة في كتاب (أوبانيشاد- شاندوغيا) الجزء السادس القسم 2
، الآية 1. رغم ذلك هناك طائفة يصنعون أصناماً يعبدونها، بحجة أن الناس الذين هم
في مستوى المبتدئين يحتاجون إلى التركيز، وهذا التركيز لا يمكن الوصول إليه إلا عن
طريق صورة مجسدة (التمثال).
هذا التباين في مفهوم الإله لدى الشعوب يؤيد أن الإيمان
بالإله تجربة شخصية، لا تقوم بالأساس على دليل عقلي، ولكن يمكن لكل فريق أن يتخذ
من الأدلة العقلية على وجود خالق طريقاً لإثبات التصور الذهني الخاص به على وجود
إله.
لكي نستطيع القول أن لدينا
دليلاً عقلياً على وجود إله، فلابد أن يكون هذا الدليل قابلاً للقياس
وملموساً، فهل لدينا دليل عقلي على وجود إله؟
بعيداً عن العاطفة، وبعيداً عن الخطاب الإنشائي، وبشكل
علمي، أستطيع القول وبكل ثقة: نعم لدينا هذا الدليل.
إذا كان لدينا كتاب يعلن فيه الخالق عن نفسه، ويقول أنه هو
الإله، فلابد لهذا الكتاب أن يحتوي الدليل على وجود هذا الإله. لكن كيف نقنع من لا
يؤمن بوجود إله من الأساس بأن الكتاب المعين هو كتاب الخالق؟
المسألة ليست هكذا، إننا أمام معضلة علمية، ومسألة بحثية بامتياز،
بعيداً عن أي اعتبارات إيمانية. سوف نقوم بإخضاع كل كتاب يزعم أصحابه أنه كتاب
الخالق؛ لنرى هل بالفعل ألفاظه وتعبيراته تعبيرات خالق عليم وقدير وحكيم، أم مجرد
خواطر بشرية.
حتى نتقدم خطوة في عملية التمحيص هذه لابد لنا من توافر
مجموعة من الشروط، أولها:
أن يعتقد المؤمنون بالكتاب -أي كتاب- أن كل الكلمات التي
يحويها الكتاب هي كلمات الخالق نصاً ولفظاً.
ثانياً: أن يقر المؤمنون بهذا الكتاب بأن اللغة المكتوب بها
الكتاب الحالي هي اللغة الأصلية؛ إذ إن ترجمة النص الإلهي من قبل أي فرد تلغي
تماماً أي فرصة لوضع الكتاب تحت المجهر، فهو في هذه الحالة سيكون نصاً غير حقيقي.
هذه الشروط لا تتطلب رأياً علمياً بقدر ما تتطلب إقرار
المؤمنين بالكتاب نفسه، ومن ثم يتم وضع الكتاب تحت المجهر، واختبار ما فيه،
بافتراض أنه كتاب الخالق.
بحد علمي أن هذه الشروط لا تنطبق إلا على القرآن، إذ إن
المؤمنين به يقرون على أنه نصاً ولفظاً من عند الخالق، وكذلك مكتوب باللغة الأصلية
التي نزل بها، ولم يتم ترجمته عن لغة أخرى.
إذن لدينا كتاب يقول المؤمنون به أنه كتاب الخالق، وبالنص
الأصلي. وهنا لابد أن تتوافر في اللغة التي .كتب بها الكتاب صفة أساسية؛ وهي أن تصف المسميات بشكل حقيقي
عندها يمكننا القول أننا أمام كتاب ألفاظه حقيقية مائة
بالمائة، إذ إن الذي أنزلها هو الخالق، صاحب العلم المحيط والقدرة التامة. وهذه
الفرضية هي ما يجب الانطلاق منها لبرهنة وجود إله، من خلال كتابه.
لابد أن نلاحظ أن الإله لا يمكن أن يضع كلماته الأصلية
في قالب لغوي من صنع البشر؛ لأن وصف
المسميات عملية معقدة إلى أقصى درجة. تسمية الأشياء تتم عن طريق معرفة صفاتها
وخواصها، وكلما كانت المعرفة شاملة كانت التسمية دقيقة. هذه الخاصية جعلت تسمية
البشر للأشياء بعضها دقيق، وخصوصاً فيما يقع تحت أيديهم، بينما تسمية الأشياء التي
غابت عنهم لا يمكن أن تكون دقيقة مائة بالمائة.
قد يستطيع الإنسان تسمية شيء معين بشكل ظاهري، ولكن يبقى
وصفاً وتسمية غير مطابقة لحقيقة الشيء. من شيم الفلاسفة والمفكرين العناية الفائقة
باستخدام اللفظ؛ حتى يكون معبراً بشكل كامل عن المعنى المقصود، فما بال الناس
بكتاب يقولون عنه أنه كتاب الخالق؟
إذا كان العالِم الفذ ينتقي عباراته بهذه الدقة؛ فالخالق
أولى بذلك. من هنا لابد أن يكون لدينا مسلمة أولى؛ وهي أن كتاب الخالق كتاب خاص،
كلماته تحمل الحقيقة المطلقة.
النقطة الثانية التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وهي أن هذا
الكتاب لابد وأن يحمل داخله مفاتيح فهمه، فلا يمكن للخالق أن ينزل كتاباً دون ملحق
لفهم تعبيراته والغامض منه. إذا كان لدينا كتاب يفهمه الناس على حسب أمزجتهم، ومن
خلال مدلول الكلمات لديهم دون قاعدة سليمة، فإننا مرة أخرى أمام معضلة كفيلة
بإخراج كتاب الله من المعادلة (أقصد معادلة أن يصبح دليلاً عقلياُ على وجود الإله).
هذه النقاط الهامة أجاب عنها
القرآن، وقام عليها منهج كتاب تلك الأسباب، إذ إنّ فرضية أن الألفاظ حقيقية: (ينطق
بالحق)، وأن الكتاب يحمل مفاتيح فهمه: (بلسان عربي مبين) أهلت أن يكون القرآن هو
كتاب الله.
يتبقى لنا أن نحلل ونخضع
الكتاب لمنهج صارم، فإذا استطعنا كشف حقيقة علمية قبل أن يكتشفها العلم، أو
استطعنا حل لغز محير بشكل علمي، ومن خلال فهم اللفظ فقط؛ فنحن أمام كتاب الخالق
بشكل مؤكد، وتوجب علينا التعامل معه من هذا المنطلق.
التعامل مع القرآن منذ اللحظة الأولى تم على أساس أن اللغة
لغة العرب، بينما اللغة التي نزل بها القرآن بلسان عربي مبين. وكما بينا في أكثر
من موضع أن الفرق بين التعبيرين هو فرق بين نظريتين متباعدتين. فمعنى أن القرآن
نزل بلسان العرب؛ يجعله ذلك نصاً محكوماً بفهم العرب. بينما كونه بلسان عربي؛
يجعله ينيب ويفصح عن نفسه. وهذه هي أهم خاصية من خصائص النص الإلهي.
عندما تعامل الناس مع القرآن على أنه نزل بلسان العرب أتوا
فيه بالعجائب؛ فقد جعلوا فيه المجاز، وجعلوا فيه أسماء أعجمية، وأسماء لا تعلل، بل
وكلمات من لغات أخرى ليست عربية. بيَّنا في الجزء الثاني من كتاب تلك الأسباب، ومن
خلال الأمثلة الغزيرة في كل سلسلة تلك
الأسباب، أن ألفاظ القرآن جميعها حقيقية، وليس فيها شيء غير حقيقي، سواء أكان
لفظاً مجازياً أو أسماء لا تعلل، أو غير ذلك.
إن كان هناك بعض المسميات التي أعجزتنا، فهذا لا يعني إلا
أننا نريد مزيداً من الوقت ومزيداً من الجهد، لا أن نسلم بكونها مجازاً أو غير
معللة.
يحاول رجال الدين بكافة السبل النأي بكتاب الله عن المعترك
العلمي، وذلك ليس إلا بسبب قدراتهم المعرفية المتواضعة، واعتقادهم الساذج بأنهم
حكام على كتاب الله، وحراس هذا الكتاب. هؤلاء يرفضون استخدام منهج علمي في فهم كتاب الله وفهم
ألفاظه؛ لأنهم في الغالب لا يثقون في المناهج العلمية إما بسبب جهل بها أو صعوبة
تطبيقها، وللأسف الشديد يتبعهم على ذلك أكثرية مخيفة.
الحقيقة أن استخدام العقل والمنطق لفحص ما توارثناه من تفسيرات لكتاب الله، سوف يستبعد مجمل
التفسيرات لأنها لا تمت للمنطق بصلة، بينما استخدام المنطق والعقل في فهم كلمات
وألفاظ كتاب الله هي الخطوة الأولى التي سوف تجعل من هذا الكتاب دليلاً عقلياً
وحيداً على وجود الإله.
إذا كان الكون بما فيه من نظم ودقة وترتيب وقوانين دليلاً
على وجود خالق، فإن الكتاب الذي أعلن فيه الخالق عن نفسه بأنه هو الله لابد أن
يكون مطابقاً لهذا الكون تماماً، ويتبع قوانين صارمة كما يتبعها الكون، وموافقاً
للمفاهيم العقلية، وليس فيه ما يخالف المنطق السليم.
هذا هو الفرق بين القرآن وأي شيء آخر، إذ إن الكثيرين لا
يستطيعون إدراك هذه الحقيقة، فتراهم دائماً ما يعقدون المقارنات بين معتقدات
محلية، أو نصوص تاريخية، أو حتى نصوص مترجمة ليست نصوصاً أصلية، وبين نص إلهي
حقيقي، بلغته الأصلية، ورسالته العالمية.
هذا الكتاب بكلماته وألفاظه ليس موجهاً للعرب؛ وإنما للناس
جميعاً، وإذا سطا العرب على مفاهيمه، واعتقدوا أنهم أحق الناس بفهمه، فقد أثبت
الوقت أنهم ليسوا كذلك؛ بل وإنهم فهموا جل هذا الكتاب بشكل مغاير عن مقصوده.
الأمثلة التي سقناها عديدة على هذا الفهم الخاطئ، بل والجائر في كثير من الأحيان.
البشرية التي تبحث كل شيء، وتُخضع كل شيء للتجربة، لابد أن
تُخضع هذا الكتاب للفحص الدقيق، وتأخذ في الاعتبار أن اللغة المكتوب بها النص
القرآني هي لغة غاية في الخصوصية؛ لأن الله الذي أنزل هذا الكتاب ليس رب العرب
وحدهم؛ بل هو رب العالمين، والكتاب موجه للعالمين.
هنا سوف يبرز سؤال غاية في
الأهمية، وهو: هل المسلمون الأوائل لم يكونوا على دراية بهذه اللغة التي نزل بها
القرآن؟
وإن كانوا لم يعرفوا كلماته فكيف آمنوا بما لا يعرفوا ؟
ولماذا لم يسألوا رسول الله
عن الغامض من كلمات القرآن؟
الاعتقاد بأن الأوائل كانوا علماء لا يشق لهم غبار؛ هو
اعتقاد عاطفي للغاية، لا يثبته القرآن نفسه، عندما قال:
(وَمَآ ءَاتَيْنَٰهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ)(سورة
سبأ : آية 44).
لقد كان القوم بسطاء المعرفة،
ولم يكن الأوائل على دراية كاملة بتوجيهات القرآن؛ وإنما أخذوا من القرآن بقدر ما
تسمح به معارفهم. حتى نكون محددين أكثر، كان القوم على دراية بمدلولات كثير من
الكلمات (أقصد تمامًا مدلول الكلمات وليس معانيها). ولكن التأويل بمعناه المتكامل؛
وهو ربط الكلمات بعضها ببعض، وقراءة السياق، وترتيل المشاهد القرآنية، لم يكن
متاحاً وقتها؛ بسبب طبيعة هذه المجتمعات البسيطة. لقد وضع القوم تصوراتهم عن
التعبيرات القرآنية وآمنوا بهذا التصور بسبب موافقة كثير من مفاهيم القرآن وقتها
مفاهيمهم العقلية.
القرآن ليس موجهاً
لزمن محدد؛ وإنما لكل البشر في كل الأوقات، وفي كل مكان، وكلما ازدادت معارف
البشر؛ استطاعوا التفاعل مع كتاب الله بشكل أفضل من سابقيهم. وهذه الفرضية يثبتها
التطور المعرفي للبشر، والذي جاء أيضاً واضحًا في كتاب الله. فكرة التطور هي فكرة
قرآنية بامتياز، ولكنها فكرة ضد الدين التاريخي، ولذلك لا يعترف رجال الدين التقليديون
بمسألة التطور المعرفي للبشرية، بل ويصرون على أن العصور القديمة تعرف أكثر منهم
فيما يخص القرآن.
لو تحدثنا عن عصر الرسول
صلوات ربي عليه، ومن خلال السرد التاريخي، سنكتشف أن أسئلة المعاصرين كانت بسيطة
للغاية، تتمركز حول الحلال والحرام، وهذا أمر طبيعي؛ إذ القدرة على طرح الأسئلة
تأتي من غزارة المعرفة، وهذا ما حدث تمامًا عندما دخل الدين إلى البلاد ذات الثقل
الحضاري الكبير، مثل: بلاد الشام، وبلاد فارس، التي كانت تتمتع بمستوى متقدم من
المعرفة؛ فعرفت الأسئلةُ الوجوديةُ والفلسفية طريقها إلى عقول الناس.
ليس لدينا أي دليل تاريخي على أن الرسول صلوات ربي عليه،
فسر الحروف المقطعة مثلاً، ولا يوجد لدينا دليل على أن أحداً سأله عنها. القول بأن
القوم لم يسألوه لأنهم لا شك كانوا يعرفونها، هو قول مرسل، لا يؤيده ما وصلنا من
نصوص تاريخية عن تفسير هذه الحروف، والتضارب حول مدلولاتها.
سوف ندرك لماذا لم يسأل أحد عن الأشياء التي تبدو غامضة،
عندما نتعرف في السطور القليلة القادمة على البناء المعرفي لهذه المجتمعات من خلال
بعض الأمثلة.
سوف أضرب مثالين بشكل بسيط، لنكتشف من خلالهما كيف كانت
أسئلة العصر الأول، وكيف كان التعاطي مع السؤال:
المثال الأول
جاء في تاريخ الأمم والممالك لابن جرير الطبري: "إن
معاوية ألح على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غزو البحر، فكتب عمر إلى عمرو بن
العاص: صف لي البحر وراكبه، فإن نفسي تنازعني إليه، فكتب إليه عمرو: إني رأيت
خلقًا كبيرًا يركبه خلق صغير، إنْ رَكَنَ خرق القلوب، وإنْ تحرك أزاغ العقول،
يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق،
فلما قرأه عمر كتب إلى معاوية: لا والذي بعث محمداً بالحق، لا أحمل فيه مسلمًا
أبداً "
كما نرى أن عمر بن الخطاب،
ليس لديه فكرة متكاملة عن البحر، برغم بساطة هذه المعرفة؛ وذلك بسبب انعزال هذا
المجتمع، والذي من نتيجته قلة المعارف.
(ملاحظة: انعزال المجتمع ميزة كبيرة؛ أدت إلى الحفاظ على اللغة دون تشوه كبير،
وذلك تم شرحه في الجزء الثاني، مما يفسر لماذا نزل القرآن بهذه اللغة في هذه
المنطقة). لدينا مجتمع منعزل ملائم تماماً لتلقي القرآن؛ بسبب سلامة اللغة إلى حد
كبير. ولكن في الوقت نفسه، وبسبب هذه العزلة؛ قليل المعرفة ليس لديه القدرة
الكافية التي تؤهله للتعامل مع الثورة المعرفية في القرآن.
بالعودة إلى المثال، نجد أن وصف عمرو بن العاص للبحر، هو
وصف أقرب للشعر منه للوصف الاستراتيجي. طبيعية هذه المجتمعات يغلب عليها الطبيعة
الشاعرية، وهذا ثابت بالتاريخ؛ مما يجعلها ترسم صورة ذهنية لما تجهله، دون أن تلجأ
إلى السؤال، كما في المجتمعات التي تميل إلى الناحية العقلية.
المثال الثاني
هو أيضاً خاص بالخليفة عمر بن الخطاب، وقصته مع صبيغ
التميمي القادم من الكوفة، ذات المستوى الحضاري المتقدم نوعا ماً. جاء الرجل يسأل
عن أشياء في القرآن غير مفهومة بالنسبة له، خصوصاً مفهوم (الذاريات ذروا) ، فتم
اتهامه بالتنطع، وأنه يعرض شبهات ليضل الناس، وتم جلد الرجل بسبب أنه سأل أسئلة بسيطة
للغاية. الرواية عند الدارمي في سننه، وكذلك في كنز العمال.
جاء في كنز العمال: "أتى عمر بن الخطاب، فقيل: يا أمير
المؤمنين، إنا لقينا رجلاً يسأل عن تأويل مشكل القرآن، فقال عمر: اللهم أمكني منه،
فبينما عمر ذات يوم جالس يغدي الناس، إذ جاء وعليه ثياب وعمامة صفراء، حتى إذا فرغ
قال: يا أميرالمؤمنين، (والذاريات ذرواً فالحاملات وقرا)، فقال عمر: أنت هو، فقام
إليه وحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو
وجدتك محلوقاً لضربت رأسك، ألبسوه ثياباً، واحملوه على قتب، و أخرجوه، حتى تقدموا
به بلاده، ثم ليقم خطيب، ثم يقول: إن صبيغاً ابتغى العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعاً
في قومه حتى هلك".
رغم أن تبرير ضرب الرجل قد يعد مقبولًا في المجتمعات
القديمة بسبب طبيعتها المحافظة وقلة معرفتها إلا إن هذا السلوك غير مقبول بالمرة.
لا يمكن الحكم على شخص يسأل مجرد أسئلة أنه يشكك الناس ثم يتم الحكم عليه بهذه
الطريقة وإهانته في صورة من صور قمع السؤال وبالتالي تحجيم الفكر. ما هي الحدود
التي يمكننا من خلالها تحديد كون هذا السؤال سؤال برئ، أو أن ذاك السؤال غير برئ
وله أغراض خبيثة.
الحقيقة لا يوجد أي مقاييس سوى الرؤية الشخصية التي تعتمد على معارف الشخص
ذاته وهي طريقة لا يعتد بها كتاب الله من قريب أو من بعيد.
هذه الرواية تثبت بساطة المجتمعات عند تعاملها مع المعرفة
وليست نقدا لتصرف عمر بن الخطاب لأن لكي عصر ظروفه وملابساته. إننا لا نقيم حكمًا
على الأفراد، لأننا لم نكن هناك وقتها، ولكن نحاول قدر المستطاع فهم البناء
المعرفي لتلك المجتمعات من خلال ما كتب عنها.
ربما لو أُتيح لصبيغ السؤال والنقاش، ما كان لنا أن ننتظر
كل هذا الوقت لنكتشف أن الذاريات ذروا ليست الرياح كما قال المفسرون، بل هي سورة
عظيمة تتحدث عن نظرية معرفية تتعلق بدورة حياة الكائنات على الأرض. ربما لو كان
هناك انفتاح فكري لم يكن ليمر قرن أو قرنان حتى تتكشف هذه النظريات، بدلاً من هذا
الجمود الذي نعانيه.
لكن للإنصاف لابد أن نذكر أن الانفتاح الفكري ربما كان تسبب
في تشتيت الناس، وخصوصًا أن معارف القرآن غزيرة، بالقدر الذي يصعب استيعابه في
مجتمعات بسيطة.
لقد سار الأمر بهذا الشكل، وخصوصاً مع تغول السلطة، التي لم
تسمح إلا بما يتوافق مع مصالحها، أو ما يتوافق مع معتقداتها، وتم اضطهاد الكثيرين
وتكفيرهم وزندقتهم، بل وقتلهم، ممن كان لهم رأي مخالف، أو صاحب رأي فلسفي معين.
هذا هو الجعد بن درهم المثال
الأوضح، الذي ذبحه خالد بن عبد الله القسري في عهد هشام بن عبد الملك، يوم عيد
الأضحى؛ لأن الجعد زعم -كما قال القسري- أن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ
إبراهيم خليلًا. تلك الفكرة التي سبقت القول بخلق القرآن، أو الصراع بين الأصولية
والتجديد، والذي لم يكن ناضجاً بالقدر الكافي وقتها.
لو أتيح للجعد أن يدوّن ما قال، ويشارك فكرته، وإن كانت
ضعيفة الحجة، لربما صنعت حالة تساؤلات فكرية مستمرة، وقادت لفكرة ذات قيمة، حتى
ولو بعد عشرات أو مئات السنين.
قمع السؤال، وقمع الفكر المخالف، كان سمة أساسية؛ بسبب ضيق
المعارف، واعتقاد الناس وقتها بأن المسائل الفكرية هذه يمكن أن تشتت الناس. أنا لا
أقول أن هؤلاء القوم سيئو النية؛ بل قد تكون نيتهم سليمة تماماً، ومخلصون فيما
قاموا به، ولكنها ليست الطريقة المثلى للتعامل مع الفكر، وليست الطريقة التي أرشد إليها
القرآن. كل ما هنالك أن القوم تعاملوا وتفاعلوا مع الدين بحكم معارفهم.
التاريخ "الإسلامي" زاخر بالأمثلة على قمع الفكر
المخالف من وجهة نظر الأغلبية، ولعل فكر المعتزلة كان فكراً واعداً بشكل كبير. لو
أن الفرصة أتيحت لهذا الفكر، لكان لدينا الآن قوة عقلية لا مثيل لها، ولكن تم
اضطهاده حتى يومنا هذا؛ بحجة أنه فكر ضال.
لم تفهم السلطة "العربية"، ولا أقول الإسلامية، أن الفكر يصححه الفكر،
وأن الله لم يطلب منا حماية الدين، ولكنه طلب منا حماية العقل لكي يصل إلى الدين.
حرق مؤلفات ابن رشد واحد من الأمثلة على فكر الغوغاء الذي سيطر، وللأسف ما زال يسيطر
على كثير من عقول الناس.
هل تعلم أن أغلب العلماء الذين تفخر بهم الأمة الإسلامية قد
اتهموا من قبل مجتمعاتهم، إما بالكفر أو بالإلحاد؟ رغم أن أفكارهم متقدمة للغاية،
ولو أتيحت لها الفرصة لكانت هذه الأمة في الصدارة الآن، وتَهدي العالم جميعه إلى
كلام الله.
من هؤلاء المفكرين: ابن المقفع (724ـ759 م)، جابر بن حيان
(721-815 م)، أبو بكر الرازي (864-923م)، الفارابي (874-950 م)، ابن سينا
(980-1037 م).
للأسف العقل البشري بصفة عامة في المجتمعات البسيطة، يسير
خلف الأغلبية في المسائل العلمية، رغم تحذير القرآن الشديد من أن الأكثرية لا
تعقل، ولا تعلم. أضف إلى ذلك أنه عقل إقصائي، يضطهد المخالف، مما يحرمه من التعلم،
وسوف تظل طبيعة هذا العقل مانعة له من المعرفة، إلا إذا استطاع كسر هذا الحاجز،
والتحرر التام.
الوقت الذي سوف يستطيع فيه العقل كسر القيود التي وضعوها
عليه، سوف تنهال عليه الأسئلة، وتشتعل فيه الرغبة للمعرفة.
ليس لدينا شك في أن الناس في القرن الأول كانوا بسطاء، لم
يتناولوا القرآن بالعمق الذي نتناوله حالياً، وسوف يأتي بعدنا أجيال تغوص أكثر
عمقاً، وهو ما سوف نتحقق منه عند الحديث عن السبع المثاني.
الخطأ الذي ارتكبه رجال الدين، هو الاعتقاد أن العصر الأول
أكثر العصور علماً ومعرفة. ولعمري هذا الفرض مخالف لمفهوم السبع المثاني، ومخالف
لمفهوم القرآن ذاته؛ الذي يحتاج للقراءة باستمرار، ويتعارض تماماً مع قول الله
سبحانه في سورة الرحمن:(علم القرآن)، ومخالف كذلك لسنة التطور التي تحكم الحياة
وتحكم الإنسان.
لعله الآن يتبادر سؤال إلى الذهن، وهو: هل الرسول صلوات ربي
عليه لم يكن يعلم تأويل القرآن؟
لماذا لم ينزل القرآن واضحاً لا يحتاج كل هذا الجهد في
التأويل؟
للإجابة على سؤال كهذا، دعونا نطرح سؤالين آخرين:
لماذا لم يُنزل الله كتاباً واحداً على آدم، أو إبراهيم
صلوات ربي عليهما؟ ولماذا تعددت الكتب؟
لماذا لم يتعهد الله بحفظ الكتب الأخرى (أقصد النص الأصلي)،
كما حدث مع القرآن؟
كلمة السر هي التطور، والتطور وحده من سوف يفك شفرة هذه
الأسئلة الصعبة، والذي جاء مفصلاً في كتاب (تلك الأسباب الجزء الثالث _ الطور).
الله سبحانه وتعالى لم يرد للبشرية القفز مرة واحدة إلى
النتيجة النهائية؛ لأن ذلك سوف يجعل وجود البشرية بلا معنى، ووجوداً عبثياً. ما
معنى خلق الخلق، ثم إعطائهم طريقة عمل الحياة والتصرفات؟ وجود الإنسان هو وجود
لهدف محدد، وليس مجرد لهو أو عبث، كما ذكر ذلك ربنا في كتابه. ولكي يكون وجود
الإنسان وجوداً ذا معنى، ونهايته تؤول إلى معنى؛ فلابد أن يعاني اختباراً حقيقياً
يقيس قدراته، وطريقة تعاطيه مع كل ما يحيط به، دون تدخل يُفقد هذا الاختبار
الدنيوي معناه.
الحياة الدنيا ليست مصممة من أجل نبي أو رسول، وليس هناك
نبي أو رسول حاكم على الناس، أو مصادر لأفعالهم؛ بل الرسل والأنبياء هم في الحقيقة
شهداء مراقبون ما داموا أحياء، مبلِّغون ما أَنزل إليهم ربهم دون زيادة أو نقصان.
التدرج في إرسال الرسل والأنبياء، والتطور في انتقال
المجتمعات من البسيط إلى المعقد، هي الحالة الواقعية السائدة، والتي لا يمكن
إنكارها، سواء تاريخيًا أو قرآنيًا أو
علميًا.
لذلك فرضية أن رسول الله كان لديه تأويل القرآن، واعتبار
هذا التأويل جازماً ونهائياً؛ يتعارض مع حركة الحياة، وسير البشرية منذ نشأتها،
ويتعارض مع القرآن نفسه، كما سوف نرى بعد قليل.
لفظ القرآن نفسه يثبت أنه نص يحتاج للتحليل والدراسة
المستمرة، ولا يمكن أن يكون له تأويل بشري قاطع وجازم. فهم أصل كلمة (قرآن) ذاتها
تحمل أعظم سمة من سمات هذا الكتاب العظيم؛ وهو الكتاب القابل للقراءة باستمرار.
كذلك فهم أوائل سورة الرحمن لا يرجح أبداً أن يكون للرسول تأويل قاطع وجازم، ولو
ثبت أن للرسول تأويلاً ما لآية كريمة؛ فهو تفاعل النبي الكريم مع كتاب الله، وليس
نصاً قاطعاً.
لو أن الرسول صلوات ربي عليه تأوَّل القرآن وانتهى منه،
بوحي من الله لا يمكن تجاوزه؛ لما صح أن يسمى قرآناً من الأساس؛ لأنه أصبح غير
قابل للقراءة بعد قراءة رسول الله.
الأمر الإلهي لرسول الله بخصوص الكتاب الذي أنزله الله هو
التبليغ (بلغْ). بينما الأمر الإلهي لرسول الله وللناس جميعاً بخصوص فهم القرآن
وتفسير آياته هو (اقرأ)، وهي أول آية نزلت. الأمر الإلهي (اقرأ) ينفي بشكل قاطع أن
تكون محاولة تفسير القرآن من قبل أي بشر هو وحي لا يمكن تجاوزه.
يشير فعل (اقرأ) إلى أن تفسير آيات القرآن هو عبارة عن
تفاعل الإنسان مع النص الإلهي. (هناك وحي لا يمكن تجاوزه، وهو الخاص بالرسالة،
وهناك وحي معرفي؛ أو ما نسميه نحن تجاوزاً بالإلهام، وهو وحي قد يحصل عليه كل باحث
عن المعرفة، بشرط السعي والإخلاص، وهو وحي غير ملزم.
الفرق بين الوحيين أشارت إليه سورة النجم، بشكل لا مثيل له،
وسوف نأتي عليها في الكتاب القادم إن شاء الله).
لو كان رسول الله تأول القرآن لأصبح أمر القراءة الخاص
بالقرآن للبشرية غير ذي معنى، وأمر التدبر
أمر تحصيل حاصل، ولو أن الله أراد أن يؤول رسوله القرآن، فلماذا لم ينزله مؤولاً؟
ولماذا تركه هكذا؟
لأن البشرية تتطور وتتقدم باستمرار، وعلى كل إنسان أن يفعل ما في وسعه سواء نبي
كريم او رسول مرسل أو إنسان كسائر البشر. إننا أمام اختبار معرفي حقيقي يتم من
خلاله فرز الناس والبشر، لينظر إليهم ربهم كيف يعملون، وكيف أن كل واحدا منهم أدى
ما عليه بكل إخلاص وجد ولم يتكاسل ولم يتواكل. إنها سنة الله في الكون ومراده من
عباده، أن يتحمل كلا منهم مسئوليته ويقوم بدوره.
أما الذين حكموا على أنفسهم بإنتهاء دورهم واكتفوا بما حققه غيرهم فهنيئاً
لهم ما يعتقدون ويناصرون .
تاريخيًا: السيدة عائشة أخبرت أن الرسول لم يفسر من القرآن
إلا بضع آيات، وكثير من الباحثين يرون أن عدد الآيات التي تكلم فيها النبي لا
يتعدى 200 آية، من مجموع 6000 آية، هي آيات القرآن.
الله سبحانه وتعالى يخبرنا في
القرآن بحقيقة ذات أهمية قصوى، وهي أن تأويل القرآن على حقيقته لا يعلمه إلا الله،
ولم يستثنِ منها حتى رسول الله.
(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو
الْأَلْبَابِ)(سورة آل عمران: آية 7).
حرف الواو الذي سبق لفظ (الراسخون في العلم) ليس معناه أن
الراسخين في العلم يشاركون الله تأويله؛ وإنما الواو هي للاستئناف، كما حكى بعض من
أهل التفسير ذلك،. أي أن الكلام تم عند لفظ الجلالة، وجملة (الراسخون في العلم)
ليست عطفاً على ما قبلها. رغم أن المفسرين يقولون في قول الله تعالى: (آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) تعني المحكم من الآيات والمتشابه؛ كلاهما يؤمن
به الراسخون في العلم؛ إلا أن لنا رأي في هذه الآية الكريمة. تشير الآية إلى خاصية
القرآن الأساسية؛ وهي تجدده المستمر، وقدرة العقول العلمية الراسخة على استكشاف
معانيه.
لذلك عندما يستطيع الراسخون في العلم تأويل بعضه (بحسب
قدراتهم)، يقودهم هذا التأويل إلى الإيمان بما لم يستطيعوا تأويله، وهي صفة خاصة
بالراسخين في العلم. بينما الأميون بمفهومه
السلبي ينطلقون مما لم يستطيعوا فهمه إلى تكذيب ما يمكن فهمه، وهذا وضع مقلوب يقود
إلى تكذيب النص الإلهي. (راجع مفهوم الأمي والأميين في الجزء الثالث، وكيف أن غياب
المنهج العلمي جعل كل إنسان يعتقد أن لديه القدرة على فهم كتاب الله كما يحلو له).
الآية الكريمة لم تشر من قريب أو من بعيد إلى أي وظيفة
للرسول في تأويل القرآن، وقصرت التأويل على الله وحده. أما الراسخون في العلم فهم
في محاولات مستمرة للتدبر وفهم آيات
القرآن؛ ولن تكون مستمرة إن زعم أحدهم أنه امتلك الحقيقة. قد نقترب كثيراً من
التأويل؛ ولكن يبقى التأويل الحقيقي يعلمه الله. هذه هي طبيعة القرآن؛ معرفة
تراكمية تناسقية باستمرار كل مجتهد، يضيف قدر استطاعته، بشرط وجود منهج علمي
للتأويل، وهو ما نحاول قوله في سلسلة هذا الكتاب.
عدم وجود منهج علمي سوف يعطي الفرصة لكل حالم أن يقول ما
يَعِنُّ له دون دليل أو أي برهان، سوى قدرته على التخيل.
مرة أخرى، هل كان الرسول يعلم
تأويل القرآن؟
والجواب بنص القرآن ذاته، أن الرسول لم يكن يعلم تأويل
القرآن (راجع الآية السابقة)
من يقولون أن رسول الله كان يعلم تأويل القرآن على الحقيقة،
هم يسيئون إلى رسول الله من حيث لا يشعرون، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: جعلوا رسول الله شريكاً لرب العالمين، وبنص
القرآن جاء: (لا يعلم تأويله إلا الله).
الوجه الثاني: لو أن رسول الله يعلم التأويل ولم يُبلِّغه؛
لكان كاتماً للعلم الذي نهى الله عنه، وتنزه رسول الله عن ذلك. ( الروايات تقول
أنه لم يتكلم إلا في بضع آيات).
حقيقةً إن رسول الله بلَّغ الرسالة فقط، ولم يكن يعلم تأويل
القرآن تأويلاً حقيقياً، على نحو لا يمكننا تجاوز هذا التفسير. هذه المعلومة واضحة
وضوح الشمس، من خلال آيات الذكر الحكيم، ومن خلال السرد التاريخي؛ ولكن العاطفة
التي تأبى ذلك هي المتحكمة في عقول الناس، وتحاول بشتى الطرق تنصيب الرسول شريكاً
لرب العالمين.
أعلم أن هذا الكلام في منتهي الصعوبة على بعض الناس، ولكن
الأشد هو عدم قوله، وتمييع مفاهيم القرآن وطمسها، وإضلال البشرية و إضاعتها، فقط
بسبب العواطف التي تحكمنا في التعامل مع كل ما هو ديني.
القرآن لم يدع الفرصة لأي متقول أن يقول على الله ورسوله ما
لا يعلم، وأقام الحجة على كل واحد، ولكن أكثر الناس عن آيات الله غافلون. وأخيرًا،
لابد أن نعي تمامًا أن الرسول ليس حاكماً على البشرية؛ وإنما هو من ضمن حلقات تطور
هذه البشرية وتدرجها، وواقعٌ في نطاقها، ويجري عليه ما يجري عليها، إلا في الرسالة
التي حددها الله بنصوص قطعية لا تقبل الشك، وهي القرآن الكريم.
الآن يمكننا إدراك لماذا لم يصبح القرآن الكريم دليلاً
عقلياً على وجود الله؛ وذلك بسبب المسلمات الخاطئة التي حكمت فكر هذه الأمة. إنّ
الأمة التي غفلت عن اللغة التي جاء بها كتاب الله، واعتقدت أن مجتمعاً بسيطاً
للغاية هو مجتمع حاكمٌ على البشرية، وأنه مجتمع قادر على فهم القرآن بشكل صحيح
مائة بالمائة؛ هي أمة لم تدرك قيمة الكنز الذي بين أيديها.
هذه أمة سجنت آيات الله في
حقبة زمنية معينة، بل وحاربت الله وكلماته، وجعلت كلمات الله في المرتبة الثانية،
أو الثالثة ولم تجعلها هي العليا.
لا شك أن مثل هذه الفرضيات فرضيات مزعجة للغاية، وتطرح
تساؤلات عديدة، ومن أهم هذه التساؤلات: هل يلزم أن يكون كل واحد منا باحثاً
ومفكراً؛ لكي يستطيع الحصول على دليل من خلال القرآن، يدعم وجود الإله، أو حتى
ليصبح إيمانه إيماناً صادقاً؟
ليس منطقيًا على الإطلاق أن يصير كل إنسان مفكراً وباحثاً
بشكل عميق؛ ولكن بالمقابل ليس مقبولًا أن يستسلم الإنسان للكسل المعرفي بحجة وجود
متخصصين.
حجة المتخصصين في الدين حجة كهنوتية بامتياز، أفرزت طبقة من
البشر تتحدث في أمور، وتتصدى لمسائل شديدة الخطورة بمعدل ذكاء منخفض للغاية. رغم
دعوة القرآن الصريحة للناس بصفة عامة للتدبر والتفكر؛ إلا أن مجموعة كبيرة من رجال
الكهنوت لا يعجبهم ذلك، ويرغبون بإبقاء الناس رهن معارفهم، الأقرب إلى الأساطير،
والأبعد عن العقل. هذا ليس معناه أن تحدث فوضى معرفية، وتصبح النصوص مباحة لكل
صاحب خيال خصب، دون أي معرفة بطرق البحث ومناهجه.
التعليم الديني بشكل نظامي، والذي أسسه نظام الملك عام 459
هجرية، أصبح كارثة على هذا الدين، عندما أصبح
بابًا خلفيًا للحصول على المناصب في الدولة؛ إذ أعطى الفرصة لاستخدام الدين
بشكل أناني، من قبل مجموعة من الأفاقين والانتهازيين.
ازداد الطين بلة في العصر الحديث، عندما أصبح التعليم
الديني بابًا خلفيًا لكل ضعيف الإمكانيات -إلا من رحم ربي- في الحصول على شهادة
جامعية.
هذا النظام أفرز كمّاً هائلاً من الغثاء المعرفي، ومنح حق
الحديث بشكل حصري في الدين إلى شخصيات لا
تصلح للحديث حتى عن طبق اليوم.
لكي يمارس الإنسان الطب أو الهندسة لابد أن يكون متخصصاً،
فما بالكم بالدين؟
إنها مغالطة منطقية فجة، فنحن نمارس الدين بالفعل، وبالرغم
من ذلك، فالدين ليس كعلم الهندسة أو الطب، أو أي علم تجريبي.
العلوم الطبيعية جميعها تقوم على تجارب وأدلة يمكن قياسها،
واستنتاجات منطقية، ولا يوجد فيها اختلافات سوى في تفاصيل لا يمكن ملاحظتها. هل
ذهب أحد إلى مهندس يومًا ليصمم له منزلاً، فأعطاه رسمًا هندسيًا لمزرعة حيوانات،
أو ذهب أحدهم إلى طبيب يشتكي ألماً في المعدة، فأخبره أن من يحتاج العلاج هو جاره
أو زميله في العمل. لن تجد محاسباً في شركة يحاول إقناعك أن حاصل ضرب 5 في 10
يساوي 20، إلا إذا كان يريد سرقتك.
على ذلك فإن خطأ المهندس أو الطبيب يمكن اكتشافه، بل و يمكن
تفاديه بقليل من المعرفة والمراجعة، ولو حدثت خسارة فلا شك أنها سوف تكون محددة.
النقطة الأهم كذلك هي أن العلوم الطبيعية علوم ليس لها علاقة بالسلطة الحاكمة، ولا
تسيطر على عقول الناس من خلال أمور غيبية.
على العكس من ذلك تمامًا، فالدين حتى يومنا هذا لا يقوم على
نتائج يمكن قياسها، وأغلبه خاضع لظروف السلطة، وكلما تغيرت الظروف غيّر رجال الدين
أرديتهم. فوق كل ذلك، فإن خطأ رجل الدين يمكن أن يكلف الإنسان مصيره، خصوصًا إذا
استسلم الإنسان، ولم يرغب في المعرفة.
ما الذي يجعلني أمنح ثقتي لشخص لا يملك الحد الأدنى من
المنطق والعقل، بحجة أنه متخصص. ما هذه القوة الخفية التي تجعلني أعلق مصيري بشخص
كل مواهبه نسخ ما في الكتب ونقله، ولا يستطيع نقد كلمة.
راجع كتاب (الكامل لابن الأثير) ، و(تاريخ الأمم والممالك
للطبري)، لتعرف أننا نعيش في وهم لا مثيل له، وأننا رسمنا صوراً مثالية لعصور هي
ليست كذلك بالمرة، بل وسلّمنا مصيرنا للمجهول، ونساهم بشكل لا مثيل له في نشر
الجهل والخرافة والقداسة على أشياء ليس لها أي قيمة.
من نعمة الله على الإنسان، أن الله يحاسب على السعي الصادق
للوصول للحقيقة، بغض النظر عن النتائج، وأن كتاب الله وكلماته دائماً ما توافق
المفاهيم العقلية، ومنطق الإنسان الصادق.
ليس منطقياً أن يترك الإنسان عمله الأساسي وشأنه، لكي يبحث
كل صغيرة وكبيرة؛ لكن بالمقابل، الإنسان ملزم بالحد الأدنى من المعرفة، والتي
تؤهله لكي يفرق بين الصواب والخطأ، وبين الدليل والحيل.
الإقبال على المعرفة بصدق، هي الحد الأدنى الذي يجب توافره
لدى الإنسان؛ لكي يكون بالفعل مستحقاً لدوره في الدنيا، القائم بالأساس على
المعرفة. أما الإعراض عن المعرفة فهي أهم حيل الشيطان؛ لكي يحول بين المرء
وربه. كل إنسان لديه جرس إنذار، ونظام
معرفي قادر على أن يقوده إلى الحق، ولكنّ بعض المساكين يعطلون هذا النظام، ويسلمون
عقولهم للآخرين؛ إما تكاسلًا، أو بسبب
انعدام ثقتهم في قدراتهم.
إننا نرى الأمثلة كل يوم تكاد تعلن عن نفسها. حرص الإنسان
على السؤال وعلى المعرفة، بل والإلحاح في الفهم؛ ما هو إلا ترجمة لتلك الرغبة في
النفوس الذكية للوصول إلى الحقيقة. على العكس من ذلك تجد كثيراً من الناس تطرق
المعرفة بابه، وتصير في متناول يديه؛ فيشتكي من الإزعاج .
السعي المخلص للمعرفة هو ما دفع سلمان الفارسي، وصهيباً
الرومي، وعبدالله بن سلام، لكي يقبلوا الرسالة؛ بينما الاستخفاف والكبر والغرور،
هو ما دفع عبد العزى عم رسول الله إلى
الكفر والصد والإعراض.
سلامة القصد هو ما دفع ياسر بن عامر والد عمار بن ياسر لبذل
نفسه في سبيل الله، وهو الضعيف، أما الحسابات الأخرى هي من دفعت العباس إلى خوض
معركة بدر ضد المسلمين، والانتظار حتى يوم الفتح لكي يدخل الإسلام، وهو عم النبي.
صدق اللهجة هو ما دفع أبا ذر الغفاري لكي يمشي وحده إلى
رسول الله، يسعى خلف الحقيقة، حتى أنه كان رابع أو خامس من دخل في الإسلام، ولم
يكن من ساكني مكة بالأساس، بينما المكر هو ما دفع أبا سفيان حتى بعد أن أعلن
"إسلامه" أن يصيح بأعلى صوته، عندما انكشف المسلمون في غزوة حنين: "لا
تنتهي هزيمتهم دون البحر"؛ شامتا في ما حدث للمسلمين.
بالطبع ليس مطلوباً أن نفكر جميعاً بنفس الكيفية؛ ولكن
يلزمنا لقبول الحق صدق الطلب، وسلامة القصد. كل الذين نكبوا عن الصراط، وتفرقت بهم
السبل، وتنازعتهم الأهواء، ظنوا أنهم الأهدى، أو كان لهم حساباتهم الخاصة.
إذا كان الحصول على فكرة جديدة يحتاج إلى ذكاء ومنطق سليم،
فإن مجرد قبول هذه الفكرة من قبل أي إنسان يحتاج لنفس القدر من الذكاء والمنطق
السليم.
لقد بدأ عصر القرآن، عصر كلمات الله، وهي الدليل الوحيد على
وجود الله، فهل من باحث عن الحقيقة، ملقٍ خلف ظهره عنترياتٍ وأشعاراً وخطباً رنانة
لا محل لها من الإعراب؟
بعد أن تحدثنا عن القرآن، وقمنا بتحليل كثير من التعبيرات القرآنية التي تدعم تجدد هذا القرآن واستمراريته، ومن ثم تدعم كونه دليلاً وحيداً على وجود الله؛ سوف ننتقل لمفهوم آخر صال وجال وفيه الكثيرون؛ وهو مفهوم الذكر؛ لنتبين ما هو الذكر من خلال كتاب الله.
Comments
Post a Comment