الفصل التاسع- ليلة القدر

الفصل التاسع  ليلة القدر

لقد وضعت سورة القدر حدوداً يقف العقل أمامها حائراً في مفهوم الأمر، بل وفي تحديد المدد الزمنية التي يتوالى فيها الأمر من الله إلى أولي الأمر.

هذه السورة التي حصرها أصحاب النقل في ليلة يُقبل فيها الدعاء في شهر رمضان، غير منتبهين إلى الإشارات القرآنية العظيمة على أحداث مهمة تسجلها وتشير إليها. هناك تعبيرات تثير الإعجاب والتساؤل، ولكن يبدو أن الناس غير متحمسين للمعرفة، أو لما تخبئه الكلمات، وما تدل عليه.

لو طرحنا سؤالاً على هذه السورة العظيمة عن دلالة قول الله تعالى: (ألف شهر)، ولماذا ألف شهر؟

وما علاقة الروح والملائكة بالأمر؟

لأدركنا أموراً عظيمة يقف العقل أمامها حائراً.

إننا أمام حالة متكررة لحالة التنزيل الأول، يوم نزل القرآن على رسول الله. إننا أمام حالة فرز مستمر على دورات زمنية متكررة، تعطي للناس فرصة التعبير عن ذواتهم، فمنهم من يقبل، ومنهم من يرفض، ومنهم من يعرض.

من منا لم يجل بخاطره أمنية أن يكون على عهد رسول الله، فصدّقه ونصره بكل ما أوتي من قوة. إن خطر على قلبك هذا الخاطر، فسوف تدرك بعد قليل أن حالة التنزيل الأول، والذي تمايز فيها الناس، متكررة باستمرار، حتى يأخذ كل جيل نصيبه، ويميز الله الخبيث من الطيب.

سورة القدر جسّدت هذه الحالة، وأشارت إليها كما سوف نرى، من خلال الألفاظ القرآنية الدقيقة.

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْر(5)(سورة القدر).

مسمى السورة نفسه، وهو القدر، يأخذنا ناحية التقديرات المؤسسة لكل كبيرة وصغيرة في هذا الكون؛ إذ إنّ لفظ (القدر) نفسه بمفهومنا المعاصر هو تلك التقديرات والقوانين التي تحكم عمل الأشياء. يستطيع أرباب العلوم الطبيعية فهم معنى القدر بسهولة ويسر؛ فالأشياء المقدرة هي أساس العلم والقوانين في نظام محكم يسيّر كل شيء. نحن أمام حالة فريدة تشير إلى تنزيل متعلق بـ التقديرات، خلال مدة زمنية معينة بشكل مباشر.

لأن الله سبحانه وتعالى قدر كل شيء تقديراً؛ فلا سبيل إلى تغيير هذه التقديرات. فتغيير التقديرات نقص، تنزّه ربنا عن ذلك، إنما التنزيل المتعلق بالقدر فهو تفسير له، أو إشارة، أو مساعدة في فهم هذه التقديرات. الآية الأولى في هذه السورة العظيمة تؤكد هذه الفرضية بامتياز

الآية الأولى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)

المقصود هنا هو نزول القرآن كله في هذه الليلة، والمعروف أن القرآن نزل على فترات على قلب رسول الله. هذه اللفتة سوف نجد صداها بعد قليل، عندما نأتي على الأمر وكيف ينزل. لا شك أن القرآنَ كلماتَه وألفاظَه هي انعكاس لهذه التقديرات، وليس تغييراً لها، لذلك تنزيل القرآن كان بالأساس مساعدة لفهم هذه التقديرات. القرآن مليء بالآيات التي تشرح أموراً كثيرة، وذلك ما دعانا للقول أن التنزيل في ليلة القدر هو تنزيل خاص بفهم الأقدار، أو القوانين، وليس تغييرها كما يظن بعضهم.

فهم التقديرات هو المدخل الرئيس لتطور البشرية، وإذا تم بالطريقة الصحيحة، ومن خلال قراءة سليمة لآيات الله، فسوف يكون دليلاً عقلياً على وجود الله منزل هذا الكتاب.

هل المقصود في الآية القرآن الكريم؟

نعم المقصود بقول الله سبحانه (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ)هو كتاب الله، وقد فسر هذا الفرض آيات في سورة ص بشكل مباشر:

(حم (1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم(6) (سورة ص: الآيات 1-6).

سورة ص بدأت بالإشارة إلى الكتاب المبين، ثم أشارت في الآية الثانية إلى هذه الليلة المباركة، التي تنزل فيها الكتاب، وهي لا شك ليلة القدر المذكورة في سورة القدر؛ بسبب الآية التالية التي أشارت إلى أن هذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم. ها نحن أمام ليلة لها ذكر في موضعين في كتاب الله، وتشير إلى أن كتاب الله تنزل فيها، وفيها أيضاً يتنزل الأمر، أو يفرق كل أمر حكيم.

سورة ص استمرت بشرح الأمر وماهيّته، وأنه أمر من عند الله يرسله الله، وهو ما قلنا أنه إلهام إلهي في المواضع السابقة. أما لماذا يرسله ربنا؟ ولماذا في هذه الليلة المباركة؟ فقد وضحتها الآية التالية، بأن هذا التنزيل وهذا الأمر رحمة من الله.

لا شك أن بيان المعاني وفهم الغامض من الآيات سواء الكونية أو اللفظية، وعلم ما لم يُعلم، هو عين الرحمة من الله التي تعتبر هدية للبشرية تساعدها في تطورها وأداء مهامها.

الآية الثانية: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)

التعبير القرآني (ما أدراك) أسلوب استفهام، يأتي بعده تفصيل أو جواب عن الشيء المستَفهم عنه. وقال الراغب الأصفهاني: (كل موضع ذُكر في القرآن وما أدراك، فقد عقَّب ببيانه). هذا التعبير دائماً ما يشير للأشياء ذات الشأن الكبير، مثل: الحاقة، وسقر، ويوم الفصل، وعليّون، ويوم الدين، وليلة القدر.

ليلة القدر ليلة لها أهمية ومكانة في التنزيل الحكيم؛ لأنها ميقات تنزيل رحمات الله، سواء أكانت هذه الرحمات القرآن نفسه، أو الأمر الذي وعد الله عباده بأنه سوف يتنزل في ليلة القدر.

الآية الثالثة: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)

هذه الآية الكريمة حملت لفظ (الشهر)، والذي اعتقد بعض الباحثين أن مفهوم الشهر ليس هو الشهر القمري؛ وإنما المعني بذلك هو إشهار القرآن وإظهاره.

السورة الكريمة لا تتحدث عن القرآن حصراً، وإنما تتحدث عن القرآن نموذجاً للتنزيل في ليلة القدر، وتشير كذلك إلى تنزيل آخر خاص بالأمر. الفهم الدقيق لمدلول لفظ (الشهر) سيؤدي بنا إلى فهم الحالة المقصودة.

مدلول لفظ (شهر)

لفظ (شهر) في اللغة يعني الوضوح والظهور، ويقال شهر سيفه أي أظهر السيف. هذه الحالة العامة التي يصفها اللفظ كما دلت على ذلك المعاجم ونتفق معها.  لكن هل الشهر المذكور في السورة ينطبق على المدة الزمنية المعروفة لدينا.  هناك دلائل في كتاب الله تشير إلى أن لفظ (الشهر) يشير إلى مدد زمنية كما جاء في سورة البقرة.

(شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(سورة البقرة: آية 185).

(لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(سورة البقرة: آية 226).

من خلال الآيات السابقة نجد أن مفهوم الشهر بالمدة الزمنية هو المفهوم المناسب والمنطقي، ولا يمكن تجاوز هذا المفهوم إلا بقرينة قوية. من خلال المنهج الذي نستخدمه نعلم جيداً أن اللفظ يمثل حالة معينة لها خصائص وصفات حقيقة، قد تنطبق هذه الحالة على عدة مسميات، منها المادي ومنها غير المادي. يُصرف اللفظ إلى المعنى الأشهر منه، إن لم يكن هناك سياق يشير إلى غير ذلك.

أما في حالة وجود سياق فحالة اللفظ تفهم من خلال السياق، دون الإخلال بالحالة التي يصفها اللفظ.

حتى نزداد يقيناً دعونا نبحر نحو مفهوم (الشهر) على أنه ظاهرة، وكيف يصف المسمى.

بالنسبة إلى السنة الميلادية ليس هناك أي علامة أو دليل يشير إلى أن الشهر فيها مقسم بطريقة تعني الظهور أو الوضوح، وإنما تبدو كتقسيمات حسابية، ليست مرتبطة بظاهرة معينة. أعني هنا أن الشهر الميلادي نفسه غير مرتبط بظاهرة منفردة، ولكن هو جزء من السنة الشمسية، المرتبطة بدورها بدوران الأرض حول الشمس. من هنا نجد أن مسمى الشهر وحالته التي تصف الظهور والوضوح، غير منطبقة على ما نسميه الشهر الميلادي. ولمن يريد الاستزادة يمكنه البحث عن تاريخ تقسيم السنة الميلادية إلى اثني عشر شهراً في محركات البحث؛ ليعلم أن التسمية ليس لها علاقة بحالة ظهور أو وضوح لشئ معين.

لكن ماذا عن الشهر القمري؟

لفهم معنى ارتباط الشهر نفسه بظاهرة ما، وليس مجرد تقسيم  دون مدلول، سوف نحاول فهم دورة القمر.

دورة القمر حول الأرض تستغرق 29.5 يوماً تقريباً، ولكي نفهم كيف تنطبق كلمة شهر على دورة القمر، سوف نحاول المرور على هذه الدورة في عجالة.

يبدأ ما يسمى الشهرَ القمري بعد ما يسمى الاقتران. الاقتران هو وقوع الشمس والقمر والأرض على خط واحد، بحيث يكون موضع القمر بين الشمس والأرض. الاقتران هو لحظة كونية واحدة بالنسبة للأرض، وليس في ذلك أي اختلاف.

هنا نلاحظ أن القمر اختفى تماماً عن نظر الراصد على الأرض. يظهر القمر مرة أخرى عند انفصاله عن الشمس، وبمجرد انفصاله يصبح ظاهراً وواضحاً، وهنا يمكن تسميته (الشهر). يستمر القمر في دورته هذه لمدة 29.5 يوماً، وبعدها يحدث الاقتران التالي، ويختفي بين الشمس والأرض.

من هنا نجد أن لفظ (الشهر) مطابق تماماً للحقيقة الفلكية التي تميز دورة القمر؛ إذ إنه يظهر بعد الاقتران، ويستمر وهو ظاهر وواضح حتى دخوله الاقتران التالي، وهذه الفترة هي المسماة شهراً. هذه الدورة لا تنطبق على الشهور الميلادية؛ إذ إنها تقسيم لا يعتمد على دورات فكلية، مدتها مثلاً 30 يوماً أو 31 يوماً؛ وإنما معتمدة بشكل أساسي على مجموع الأيام التي دارتها الأرض حول الشمس. لذلك مفهوم الشهر القرآني ينطبق تماماً على دورة القمر، ولا ينطبق على المدة التي نسميها تجاوزاً شهراً في السنة الميلادية.

لابد أن نلاحظ أن القرآن حدد الشهر بدورة القمر حول الأرض، وربط هذا الشهر بعمليات معينة، مثل الصيام والأشهر الحرم، بينما حدد السنة بدورة الأرض حول الشمس، وليس ضرورياً أن تكون الشهور مطابقة تماماً لعدد أيام السنة، بل إن وضع الشهور بهذه الطريقة له سر، خصوصاً إذا علمنا أنها مرتبطة بصيام الإنسان والأشهر الحرم.

الذين يدعون لتثبيت شهر رمضان في السنة، بحيث يأتي في وقت محدد، ولا يدور مع الفصول كما هو الآن، عن طريق زيادة عدد معين من الأيام، فيما يعرف بالنسيء، لم يقفوا على معنى الشهر ومفهومه القرآني. لو تم تثبيت الشهر القمري فسوف تختل صفة الشهر وخصائصه، ولن يصبح بعد ذلك شهراً بالمفهوم الحقيقي الذي عبر عنه القرآن.

ليس لدينا شك أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين جسم الإنسان وحركة القمر، وبين مظاهر عديدة على الأرض وحركة القمر؛ لذا نعتقد أن الوضع الأمثل للصيام هو تتبع الشهر القمري ودورانه بهذا الشكل على كافة الفصول. نقص المعلومات عن العلاقات بين الإنسان ومكونات الكون من ناحية، وعدم فهم اللغة القرآنية بشكل سليم من ناحية أخرى، جعل بعضهم يعتقد بخطأ العرب في حساب الشهور القمرية، ومن ثم اقتراح زيادة شهر نسيء؛ حتى يتم تثبيت الشهور القمرية، وتصبح هذه الشهور موافقة الفصول، المرتبطة بالأساس بحركة الشمس.

لكي يكون الشهر شهراً لابد أن ينطبق عليه الظهور والوضوح، وينتهي بالاختفاء، كما يقال لصاحب السيف شهَر سيفه، ويظل مشهوراً طالما هو خارج غمده، فإذا أغمده صاحبه وأخفاه انتفى وضعه، ولم يعد مشهوراً. السيف منذ لحظة خروجه من غمده وحتى رجوعه إلى غمده هو في الحقيقة في حالة شهر، وكذلك القمر بمجرد خروجه من حالة الاقتران وحتى دخوله في حالة الاقتران التالية هو في حالة شهر.

لماذا علينا الالتزام بوصف الشهر، وارتباطه الوثيق بدورة القمر كما هي؟

كما ذكرت أن لفظ (الشهر) جاء في كتاب الله مرتبطاً بالصيام و الأشهر الحرم، وهي عمليات صيانة للجسم من خلال الصيام، وصيانة البيئة من خلال الأشهر الحرم.

أولاً: شهر رمضان

 الصيام لا شك هو عملية خاصة بجسم الإنسان، ويتبعها تغيرات معينة، ولكي تؤتي هذه التغيرات أكلها، يبدوا انها لا بد أن تكون مرتبطة بدورة القمر، والذي يدور بهذه الكيفية، بحيث كل 33 سنة يصبح الإنسان قد مر به رمضان طوال فصول السنة. بدلاً من التنظير والادعاء بأن رمضان يجب تثبيته في وقت محدد، حتى إن بعضهم اقترح أن يكون في بداية الخريف من كل عام، بحيث يكون النهار مساوياً لليل، وهي المدة المعقولة للصيام؛ بدلاً من ذلك أرى أن البحث عن تلك العلاقة وفهمها، التي تربط بين الصيام وتحرك فترات الصيام خلال فصول السنة كاملة، هي الأجدر بنا.

نعلم جميعاً أن كل ما في الكون يتحرك، وتحريك فترات الصيام مع الفصول قد يكون أكثر انسجاماً مع الكون، وأكثر فائدة للجسم الذي هو بالأساس جزء من هذا الكون. الحقيقة ليس لدينا دليل علمي على أن تحريك فترات الصيام على مدار السنة ذو فائدة معينة؛ لأن الصيام لا يثير شهية الباحثين في الغرب المهتم بالبحث، وأيضاً لأن الصيام بهذه الطريقة يقع في نطاق باحثين يتعاملون مع القرآن كنص تاريخي، ولا يقدرون على استخراج فائدة علمية من مكنوناته.

 هذا التصميم الدقيق للفظ القرآني، وارتباط الصيام بلفظ الشهر، والذي هو حصرياً دورة القمر، يجعلنا نتشبث بالصيام؛ لأنه من ضمن المكتوبات التي كتبها الله، وبدا واضحاً أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الصيام وتحرك الشهور خلال فصول السنة. إنه علاقة من علاقات الكون الغامضة التي كشفها لنا منزل هذا الكتاب وطلب منا البحث خلفها وفهم أبعادها.

من يقول بتثبيت  الشهور القمرية لتصبح كما الشهور الميلادية لا شك أنه يحاول فهم لماذا تدور الشهور القمرية هكذا وطالما أن دورنها هكذا بلا منطق حتى يومنا هذا فهو يعتقد ان تثبيتها هو الوضع الصحيح

المنطق المنفرد والذي لا يدعمه دليل قوى قد يقود إلى الزلل ولذلك عندما نطلب من كل باحث التريث عند بحث أمر ما وإدراك  مسلمة من المسلمات البسيطة وهي  إن كانت تجلى لنا شيء فقد غاب عنا أشياء وأشياء.

 تحليل لفظ الشهر، بالإضافة إلى فهم المبدأ العام لحركة الكون  يجعلنا نؤكد أن الشهر هو شهر قمري مرتبط بظهور القمر وبإختفائه ولو لم تنطبق هذه الظاهرة على دورة القمر لما صح من الأساس أن يسمى شهر.

ثانياً: الأشهر الحرم

صيانة البيئة متمثلة أيضاً في كف الإنسان عن الاعتداء بكافة أنواعه في الأشهر الحرم، سواء على الإنسان أو على البيئة، وهذا الكف، أو فترة النقاهة إن جاز لنا التعبير، مرتبطة بحركة الشهور على طول السنة أيضاً، وستكون قد مرت الأشهر الحرم بجميع فصول السنة خلال 33 سنة. الأمر ليس اعتباطياً أو غير مقصود أو أنه خطأ  كما يعتقد بعضهم، أو الذين لا يرون إلا جانباً واحداً من الصورة، بل هو أمر ضمن الميزان الكوني، ويدخل ضمن الحسابات الدقيقة في هذا الكون.

قد نجد اعتراضاً على مسألة الأشهر الحرم وعلاقتها بالبيئة؛ إذ إن مواسم تزاوج الحيوانات يجب أن تقع خلال هذه الأشهر. الحقيقة أن تزاوج الحيوانات وتكاثرها يختلف باختلاف الحيوان نفسه؛ فمنها ما يتناسل أكثر من مرة في السنة، ومنها ما يعتمد بالأساس على توافر الغذاء. كذلك لم يقل أحد أنه يجوز للإنسان أن يصطاد في الأشهر غير الحرم الصغار أو الإناث الحوامل، فهذه العادة يجب أن يضبطها المجتمع؛ إذ إنها حالة ظاهرة للعيان في إضرارها بالبيئة، واخلالها بالتوازن.

الإرشاد القرآني يأتي شاملاً ومتكاملاً، حتى إن الكثير من العلاقات لا تبدو واضحة عند الإنسان، ولكن القرآن تعامل معها، وحدد حدود التعامل معها، وسوف يتكشف بالعلم سلامة التعبير القرآني. إنها دعوة لترك التحيز والانفعال عند فهم اللفظ القرآني وتحليله، لئلا نجعل بعض القيم والأعراف الإنسانية، والتي قد تكون غير حقيقة، تطغى على فهم اللفظ والمراد منه. إننا ننطلق من الكلمة القرآنية لفهم علاقات الكون، والمحافظة على اتزانه، وانسجام مكوناته.

يجب أن نفرق بين تعبير (الشهر) الذي ذكرَه الله في كتابه، وربَطًه بالصيام وبالشهر الحرام، وتقسيمات السنة الميلادية كما يحدث الآن. تقسيم السنة الميلادية بهذه الطريقة التي نراها؛ لتسهيل الحساب والأعمال ليس فيه شيء، وهو وضع طبيعي، ومن إنتاج الإنسان، وهو شيء محمود.

كل ما في الأمر أنه لا يجب الخلط بين التقسيمات القائمة على السنة الشمسية ومفهوم الشهر في القرآن، والمرتبط بعمليات معينة تخص جسم الإنسان، وتخص البيئة المحيطة بالإنسان. لم يقل أحد لا تستخدم الشهر الميلادي في حساب الزراعة، أو في حساب الشركات والإدارات المختلفة، لكن علينا أنْ نفهم أنّ دوَران الصيام والأشهر الحرم التي خصها الله بلفظ (الشهر)، هو دوران من ضمن المنظومة الكونية، ومتناسق معها، ولا يجب العبث بها.

من المفاهيم الغائمة والتي لا تكاد تبين، لفظ (النسيء)، والذي ألقى بظلاله على مفهوم (النساء)، من خلال تفسيرات المعاصرين. لكن مع تتبع لفظ (شهر)، ومع فهم وظيفة (النسيء)، ظهر لنا مفهوم جديد تماماً، استطعنا من خلاله فهم الفظ

مدلول مفهوم (النسيء)

في لسان العرب أصل كلمة (نسأ) تعني التأخر، ويقال نسِئت المرأة؛ يعني تأخر حيضها. في قاموس اللغة لابن فارس جاء ما نصه أن النون والسين والياء لها أصلان صحيحان، الأول هو إغفال الشيء، والثاني ترك الشيء، والأصل الأول -كما قال ابن فارس- جاء منه نسيت الشيء؛ أي لم أتذكره. يقول ابن فارس أيضاً: قد يكون النسيء من هذا الأصل.

هذا هو رأي أهل اللغة، والذي عليه في الغالب إجماع على أن المقصود بالنسيء هو التأخير، ولكن مع التدقيق في آيات القرآن سوف نكتشف بُعداً آخر لمفهوم النسيء، يظهر في الآيات التالية:

الآية الأولى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(سورة التوبة: آية 37).

الآية الكريمة تتحدث عن فعل فعله الذين كفروا، يؤثر على الشهور القمرية، بحيث يجعلها ثابتة لا تدور مع القمر، وإنما تشبه ما يسمى (الشهور) في السنة الشمسية. قال المفسرون في هذه الآية أن النسيء هو زيادة أيام على الشهر، بحيث تصبح الشهور ثابتة في النهاية، أو متوافقة مع ما يرغبون. هذا الفعل وصفته الآية الكريمة بالكفر، والكفر هنا معناه حجب الحقيقة عن عمد وقصد. الأمر الطبيعي في الشهور هو الدوران على الفصول. في اختراع الناس هذا النسيء لتثبيت الشهور، مما يخل بالهدف منها، ويؤثر على العلاقة الكونية بين الشهور والعمليات، سواء الفسيولوجية أو البيئية.

لا شك أن النسيء هنا في الآية الكريمة يتحدث عن الشهور، وما فعله الناس بهذه الشهور، بدليل الآية السابقة التي حددت الشهور اثنا عشر شهراً.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(سورة التوبة: آية 36).

من هنا يبدو جلياً أن النسيء هو عملٌ ما، يثبّت الشهور، ولا يجعلها تتحرك، وكأنه وتد يحفظ الشهور من دورانها الطبيعي، لكي تصبح متوافقة مع الفصول.

نستطيع القول مما سبق أنّ النسيء في حد ذاته هو عملية تثبيت وحفظ الشيء، وليس التأخير، كما أوردت قواميس اللغة. قد يكون التأخير مقبولاً إذا أخذنا في الاعتبار أن كل شيء متحرك، فإذا تم تثبيته بطريقة ما، فلابد لهذا الشيء أن يتأخر عن مثيله، ولكن يبقى هذا المفهوم مفهوماً فرعيًا، بينما المفهوم الكلي لكلمة (النسيء) هو حفظ وتثبيت الشيء.

تأكيد هذا المعنى سوف ندركه بمجرد فهم (المنسأة)، المذكورة في سورة سبأ، والتي سوف أفرد لها سطوراً معدودة في نهاية الفصل؛ تجنباً لتشتيت القارئ؛ وكذلك لفظ النساء.

بعد بيان لفظ (شهر) وأن المقصود به دورة القمر كاملة حول الأرض، وهو الشهر القمري كما نعرفه، فإن السؤال القادم هو: لماذا ذكرت الآية أن ليلة القدر هذه خير من ألف شهر؟

لماذا ألف شهر تحديداً؟

عن طريق الحساب التقريبي لهذه المدة وجدنا أنها تساوي ثلاثة وثمانين عاماً وثلث العام. إذا أخذنا في الاعتبار أن كلمات وألفاظ القرآن الكريم جميعها رسائل للإنسان، تشير إلى معلومات، وليست كما يفهمها بعضهم بشكل سطحي، وبشكل متشابه؛ أي ظاهري، سوف ندرك أن تعبير (ألف شهر) إنما يحمل دلالة معينة.

الآية التالية وخصوصاً لفظ (تنزّل) سوف يفتح لنا مجالاً لفهم تعبير (ألف شهر)

الآية الرابعة: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)

لفظ (تنزّل)جاء في صيغة المضارع الذي يفيد الاستمرار، واقتران التنزيل بالأمر، والذي قلنا أنه يختلف عن الرسالة (القرآن) يشير لذلك ويعطينا إشارة على استمرار تنزيل هذا  الأمر. مع فهم المقصود بولي الأمر في الفصل السابق يتضح لنا أن هناك تنزيلاً في هذه الليلة على بعض البشر، كوحي أو إلهام إلهي مستمر ما استمرت الحياة ووجود الإنسان.

قال المفسرون: إن ليلة القدر هذه تتكرر كل سنة في شهر رمضان، وأن تعبير (ألف شهر) يعني أن العمل فيها يوازي عمل ألف شهر.

القرآن يقول أن ليلة القدر ليلة تنزيل الأمر، وهذا الأمر تحمله الملائكة والروح. من خلال هذه المعطيات نستطيع القول أن الأمر ليس رسالة حرفية وإنما هو مسألة متعلقة بالوعي وإدراك مكنون هذه الرسالة. في آية أخرى ذكر ربنا أن الملائكة والروح تتنزل على من يشاء من عباده .

(يُنَزِّلُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦٓ أَنْ أَنذِرُوٓاْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا فَٱتَّقُونِ)(سورة النحل: آية 2).

(الأمر) هنا جاء واضحًا بأنه ليس الرسالة، وإنما إدراك ووعي خاص بالرسالة. تنزيل الأمر خاص بالتأويل أو فهم الآيات؛ إذ الرسالة اكتمل نزولها.

الآن نجد أن الآية السابقة تحدثت عن مدة زمنية قدرها ألف شهر، من ضمن هذه المدة ليلة. هذه الليلة بما فيها من تنزيل الأمر هي أفضل من ألف شهر. لم تقل الآية أن الليلة تساوي ألف شهر أو تعدل ألف شهر، وإنما التعبير الدقيق هو (خير من ألف شهر)، وهو تفضيل.

طالما أن التعبير القرآني يقصد تفضيل هذه الليلة على ألف شهر فهنا وجب علينا أن نسأل: هل المقصود ألف شهر ماضية، أم ألف شهر مستقبلية؟

المستقبل لم يأت بعد، وبما أن التطور المعرفي يزداد، وأن الأمر الذي يتنزل في هذه الليلة هو أمر خاص بالوحي الإلهي، فلابد أن المقصود هو الألف شهر الماضية. هذا يعني أن كل ليلة قدر هي في حقيقتها خير من كل ألف شهر ماضية، بمعنى تتكشف فيها أشياء لم تكن مكتشفة أو مفهومة، في أيٍّ من المدد الزمنية السابقة.

تعبير (ألف شهر) جاء غير معرّف؛ ليدل على أن الأمر الذي يتنزل في هذه الليلة فيه من الخير ما لم يكن في السابق بصفة عامة. التعبير القرآني (كل أمر) يوحي أن شأن هذه الليلة ليس شأناً عادياً، وأن التنزيل المقصود متعلق بتغيرات كبيرة للغاية،  بل نستطيع القول بأنه  تغيير جذري، يؤثر تأثيراً كبيراً فيما حوله.

هل هذه الليلة كل سنة ؟

لا يوجد في السورة ما يدل على ذلك، ولكن الأقرب، ومن خلال سياق الآيات، نميل إلى أن هذه الليلة تتكرر كل مدة زمنية، قدرها ألف شهر، أو 83.3 سنة، وهي مدة جيل كامل تقريباً.

لا يمكن أن يكون مفهوم ليلة القدر بهذا المفهوم المتداول، إلا إذا كان التعبير القرآني (ألف شهر) تعبيرًا مجازيًا.

لكن هذا الكتاب الذي ينطق بالحق لا يؤيد ذلك، ونؤمن أن تعبيرات القرآن حقيقية وليست مجازية. بمجرد وضع الفرضيات التالية سوف نتحقق من مسألة ليلة القدر، وعلاقتها بألف شهر.

الفرض الأول: كلمات القرآن حقيقية، وليست مجازية.

الفرض الثاني: الزمن مرتبط بالحدث؛ فزمن بدون حدث، هو عدم.

الفرض الثالث: لكي تكون الليلة خيراً من ألف شهر، لابد أن يكون الألف شهر خالين من هذه الليلة، وإلا سوف تصبح المعادلة غير صحيحة. مثال: يوم الجمعة خير من أسبوع، يكون المقصود أن يوم الجمعة خير من الفترة ما بين يوم السبت حتى يوم الخميس، لا يدخل فيها يوم الجمعة، وإلا وقعنا في متوالية غير منتهية. إن قلت: يوم الجمعة خير من شهر فالشهر نفسه فيه على الأقل أربع أيام جمع.  لكن لو قلت أن يوم الجمعة خير من أيام الأسبوع على مدار شهر، فيصبح وزن يوم الجمعة يساوي وزن الشهر مطروحاً منه أيام الجمع.

لماذا لا يمكن اعتبار أن لفظ (ألف شهر) لفظٌ عام؛ بحيث نقول مثلاً هذا الكتاب أفضل من ألف كتاب؟

الكتاب أو الأشياء المنفصلة يجوز فيها ذلك؛ بسبب انفصال وحداتها، وهي بحد ذاتها أحداث منفصلة، بينما الزمن متصل مرتبط بالحدث، فلا معنى للزمن بدون الحدث. كذلك الخيرية تقصد ما يقع في هذه الليلة مقارنة بما يقع في الألف شهر، فالخيرية مرتبطة بالأحداث.

ليلة القدر ليست أبداً متعلقة بمضاعفة الأجر والثواب، بل تتعلق بتغيرات جذرية تحدث في  إدراك و وعي للبشرية، و تغيرات وتحولات عظيمة عن طريق تدخلات إلهية مباشرة، في دورات متكررة على مدار التاريخ الإنساني. سوف تستمر هكذا إلى يوم الدين، هذه الدورات مدتها جيل كامل، مدة كل دورة تقريبًا 84 سنة.

أعظم هذه الهبات الإلهية على الإطلاق هو نزول القرآن في هذه الليلة، والذي في الغالب نحتفل بذكراه في شهر رمضان من كل عام. يصح لنا أن نقول أننا نحتفل بذكرى نزول القرآن، والذي كان في إحدى دورات ليلة القدر.

المرعب في الأمر أن هذه الدورات المتكررة تضع الناس بصفة دائمة تحت اختبار كاختبار التنزيل الأول، وأغلب الناس لا يدركون ذلك، رغم أن منهم من يخوض الاختبار بجدارة. معنى أن ليلة القدر متكررة، وأن حقائق جديدة تتكشف كل جيل تقريباً، فهذا يعني أن الناس في كل جيل مطالبون باتباع الحقائق، والتغلب على التحيز الذي اكتسبوه بالوراثة.

الآية الخامسة: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ)

هذه الآية تصف حالة هذه الليلة، حيث الاخلاص والصفاء الروحي الذي يميزها. قد يكون المقصود بالفجر هو الفجر التقليدي، وهوما بين الليل والصبح، أو أن الفجر هو بزوغ أمر الله الذي جاء به الروح والملائكة. في كلا الحالتين نستطيع القول أن الله متم أمره، وهذا الأمر لن يفقهه الجاهلون، وسوف ينكره الكافرون، وينصرف عنه الغافلون.

من خلال ضم الآيات السابقة، يمكننا تلخيص الحالة التي عبرت عنها السورة الكريمة في السطور التالية:

لم يتبق بعد عصر النبوة إلا عصر أولي الأمر، وهو الامتداد الطبيعي لعصر النبوة، إلا أن مفهوم أولي الأمر هو مفهوم إنساني، يتفاعل مع الأمر الإلهي، ولا يتكلم باسم الله.

الاتصال الإلهي مستمر لهداية البشرية، وتقديم الدليل تلو الدليل على وجود الإله، حتى يأخذ كل جيل نصيبه غير منقوص في الوصول للحقيقة واعتناقها، وأن يكون شاهداً عليها، والعمل بها من خلال تنزيل الأمر. تنزل الملائكة والروح بالأمر على من يشاء الله من عباده، وهم أولو الأمر على فترات زمنية، مقدارها 83.3 سنة، وهي تقريباً فترة جيل كامل.

بقدر الرجاء الذي يحمله تفسير هذه السورة العظيمة لكل باحث عن الحقيقة في أي طائفة وفي أي معتنق، بقدر الصدمة التي تحملها للذين لا يرغبون في المعرفة، ويدافعون عما لا يعلمون، حتى أولئك الذين يظنون أنفسهم أئمة وهداة.

كلمات السورة تقول بكل وضوح أن الكل سوف يخوض الاختبار، والكل مطالب بتحري الدقة والتخلص من التحيز، الكل بلا استثناء، والكل موقوف ومحاسب على قدر معارفه وإمكاناته. الإشكالية العظيمة التي تواجه الإنسان هي نظرته إلى غيره، واهتمامه بحال غيره ووضعه، افتراضات تساهم في تمييع الحقائق والاستسلام للأمر الواقع.

عندما تطرق آذان الإنسان معارف جديدة، سوف يحاول الهروب بكل السبل، بوضع افتراضات وتساؤلات تمنحه فرصة للتهرب من مسؤوليته، مثل: وما بال القرون الأولى؟ ما بال الآباء والأجداد؟ ما بال الذين لم تصلهم تلك المعارف؟ كيف يحاسب الله الناس الذي لا يتحدثون العربية بالأساس؟ هل كل السابقين على خطأ؟

لقد حل القرآن هذه الإشكاليات، عندما قال عليكم أنفسكم. أنت لست مطالب بالتفكير في الطريقة التي تم اختبار غيرك بها، سواء في الماضي أو في الحاضر أو في مكان آخر. فالاختبار مستمر، والفرز على قدم وساق، والأفضل أن ينشغل الإنسان بنفسه؛ لأن لكل أمة أعمالهم، وكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه.

يبدو أن صفة الأنسنة والتي تدفع الإنسان لتكوين مجموعات يأنس بها؛ دفعته كذلك لخلق مجموعات معرفية يحتمي داخلها، ويأنس بمعارفها السائدة؛ مما جعله يرفض نقد هذه المعارف.

إن كان الإنسان مطالباً بأن يكون إنساناً اجتماعياً، ليطمئن على وجوده ويأمن، إلا أنّ تطبيق المبدأ نفسه في المعرفة مُهلك، والتقليد كارثي، والاتكاء على الآخرين مدمر، وهو مطالب بالتفرد، وخوض اختبار المعرفة منفرداً. على قدر استعداده لخوض الاختبار، وقدر تحصيله المحايد والمخلص، سوف يكون جزاؤه.

ليس من الذكاء أن نرفض الحقيقة لأن آخرين في أزمنة أو أماكن أخرى لم تصلهم، فهؤلاء لديهم نظام ومعارف تم أو يتم اختبارهم فيها. الحمقى فقط هم من ينشغلون بالآخرين، أو يحاولون إيجاد مبررات واهية لرفض المعرفة، والبقاء في نقطة الصفر. أي ثقة هذه التي تجعل الشخص يستسلم ويلقي بمصيره بين أيدى إنسان مثله، يطالبه بالاستسلام والقبول دون تفكير. لو أخذت ما أقول بالتسليم دون عرضه على عقلك، والتفكير فيه، وبذل الجهد لاستخلاص الحقائق، التي ليس فيها تعارض أو تناقض مع كتاب الله، فأنت لم تفعل شيئاً، وسلّمت عقلك وتكاسلت.

انتهاء النبوة يعني أن الناس أصبحوا جاهزين للفهم والمعرفة والتفاعل، والتميز بين الحقيقي وغير الحقيقي، وولي الأمر ما هو إلا حلقة وصل، يبيّن للناس المعرفة. الراسخون في العلم كذلك، هم حلقات وصل تساعد الناس على فهم بعض الأشياء. إنما العبء الثقيل عليك أنت نفسك، فأنت من سوف تهضم كل ما هو متاح، وتستخرج الحقائق التي سوف تخوض بها اختبارك، وتلقى بها ربك.

ما يفعله ولي الأمر أو الراسخ في العلم ما هو إلا لفت انتباه الناس، لأشياء غابت عنهم، فإما أن تنتبه، وإما أن تظل هكذا لا ينفعك التنبيه أو النذر.

لا شك أن عصر التنزيل الأول، الذي جاء مع رسول الله صلوات ربي عليه، كان القرآن أعظم ما جاء فيه نصاً ولفظاً من رب العالمين. تفاعلَ الرسول مع القرآن كما بينا في فصل النبي؛ مما أكسب الأمة قدراً من المعرفة، أهّلها في غضون سنوات قليلة للتقدم، وتصدير مفاهيم غاية في الروعة لمحيطها، مثل المفاهيم الجديدة عن المساواة، والعدالة، وعدم العنصرية.

مع مرور الوقت، وتجدد الزمان، كان لزاماً على الأمة أن تتفاعل مع النص الإلهي، لتستخرج وتستنبط مفاهيم جديدة، تكسبها مزيداً من التقدم والانطلاق. هذا التفاعل هو تفاعل ضروري، يفرضه القرآن، ويدفع إليه الإرشاد الرباني، وتشير إليه كل التعبيرات القرآنية والسنن الكونية.

تاريخياً نعلم جيداً أنه بعد وفاة الرسول بوقت قصير كان هناك حراك مستمر وتفاعل مع القرآن؛ إذ وُجدت كثير من المفاهيم التي لم تكن مطروحة، مثل فكرة القدر، والجبرية، وأفكار فلسفية تبحث أموراً غاية في العمق. هذه الأفكار معظمها لم يحالفه الحظ؛ بسبب  طبيعة المجتمعات وقتئذ، وبسبب طبيعة الأشخاص الذين احتكروا الحديث باسم الله. لم يكن سهلاً على الناس في المجتمعات البسيطة تقبل أفكار جديدة، حتى لو كانت توافق كتاب الله، طالما لم تأت عن طريق المعاصرين لرسول الله، أو التابعين الذين تلقوا المعرفة من المعاصرين لرسول الله.

الخلط بين مفهوم العلم والمعرفة، لم يدع الأفكار تنتشر، ووقف حاجزاً صلبا أمامها. كل نقل هو معرفة، والمعرفة نتيجة طبيعية للعلم. بينما العلم هو تفاعل جديد، لذا إذا اكتفى الناس بالمعرفة تعطّل العلم واضمحل، بل وانحرفت المعرفة بمرور الوقت. لكي تستقيم المعرفة لابد لها أن تتكامل مع العلم؛ فالعلم يعتمد على المعرفة، وينطلق نحو إيجاد إجابة على التساؤلات المطروحة، وطرح تساؤلات جديدة، ومن ثم إضافة معارف جديدة. من دون التجدد وطرح الأسئلة باستمرار يضمحل العلم، ولا يبقى للمجتمعات إلا معارف جامدة تم استهلاكها، وكثير منها لا يصلح للتداول.

لقد كان الصراع وما زال، وسوف يستمر بين أرباب المعرفة وأرباب العلم، وهذا الصراع بدا واضحاً في عهد رسول الله، بين ما جاء به رسول الله، وما عهده الناس و تعارفوا عليه. ما إن انتقل رسول الله إلى جوار ربه حتى ظهر هذا الصراع، مع أول بزوغ للأفكار الجديدة، أو قل مع أول تأويل منسجم مع العقل والمنطق، ولا يتعارض مع كتاب الله، مقابل روايات  بسيطة، جلها مستقاة من النصوص التاريخية لِلملل الموجودة وقتها.

لقد بدا أن هناك صراعاً شرساً بين المجددين والرافضين للتجديد، بشكل لا يمكن إنكاره، انعكس هذا الصراع على واقع الأمة. لقد كان القائلون بالتجديد أقرب لكلمات الله ومراد الله، وقد كان المستمسكون بقراءة الجيل الأول أقرب للعهد السابق لنزول القرآن، عهد الرافضين لأي فكرة غير سائدة، متعللين بالحجج نفسها التي تعلل بها القوم في بداية الدعوة، إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون.

سرعان ما تحول المبدأ العظيم الذي جاء به رسول الله من حرية التعبير وحرية الفكر وحرية السؤال إلى سراب، بحجة المحافظة على الدين. بدلاً من أن تتوسع المفاهيم الثورية التي جاءت مع القرآن الكريم، وتفاعل معها رسول الله، ضاقت المساحات بحكم طبيعة المجتمعات المحافظة، والتي لا تقبل التغيير بسهولة.

لدينا شواهد لا بأس بها على أن ثورة فكرية صاحبت القرن الأول والثاني للدعوة، ولكن للأسف لم تكن محل ترحيب، و قوبلت بعاصفة من الاستهجان والاستنكار لا مثيل لها. أضف إلى ذلك أن أسئلة العصر الأول لم تكن بالعمق الفلسفي الذي يمكن معه سبر أغوار الكلمات والتعبيرات القرآنية. لقد كانت أسئلة بسيطة عن الحلال والحرام، ولكن مع انتشار الإسلام في البلاد ذات الثقل الحضاري النوعي، بدأت الأسئلة في الانهمار، وبدأت حوائط الصد في التكون. بسبب عدم إدراك الخاصية الأساسية للقرآن الكريم، وهي قابليته للقراءة المستمرة؛ تم نهرُ السائل، ورفض أي قراءة جديدة، أو محاولة للمعرفة؛ بحجة أنها سوف تشوش على الناس.

تعامل الرعيل الأول مع السؤال ومع الفكر كان تعاملاً يعكس طبيعة هذه المجتمعات، التي لا تعرف الفلسفة، وليس لديها أي فكرة عن العلوم. التفاعل مع القرآن يحتاج أرضية معرفية ثرية، وهذه الميزة هي التي جعلت من القرآن متجدداً باستمرار، وقابلاً للقراءة على مر العصور.

من الأمثلة على الصدام المبكر بين التجديد والتقليد هو ما حدث مع فرقة القدرية. هذه الفرقة أغلبنا لا يعرف عنها سوى أنها فرقة ضالة، تكلموا في القدر بما يخالف الدين. بالطبع ما وصلنا عن هذه الفرقة هو وجهة نظر مخالفيهم، رغم أن أغلب أفكارهم نتداولها اليوم بشكل كبير جداً، ويتم النقاش حولها بشكل شبه مستمر. بشكل عام لسنا هنا للحكم على أفكار هذه الفرقة، ولكن سوف نتناول المبدأ العام الذي كان محور فكر هذه الفرقة.

هذه الفرقة كانت تقول بحرية إرادة الإنسان في الفعل أو عدم الفعل؛ أي أن الإنسان مخير في أفعاله وليس مسيراً، ولو كان مسيراً لما حاسبه الله على هذه الأفعال.

ما وصلنا من خلال كتابات التاريخ أن فرقة القدرية أنكروا القدر، وأنكروا علم الله السابق بالأمور، عبارات مبهمة كهذه يبدو جلياً أن لها غرضاً آخر غير الغرض الفكري. التخيير ومسألة أن يخلق الإنسان أفعاله سوف يصطدم بشدة بالمبدأ السياسي، الرامي لجعل الناس مستسلمين خاضعين، بحجة قدر الله عليهم ولا سبيل لرده.

حتى وإن كان لدى متبني الفكرة بعض الخلل في بناء فكرته، فهذا أمر طبيعي للغاية في تاريخ البشرية، حيث تحتاج أي فكرة وقتاً كافياً لمناقشتها، وتصحيح أوضاعها. لكن ما حدث كان شيئاً مؤسفاً، وشيء يندى له الجبين؛ إذ تم دفن هذا الفكر في مهده، وتم نبذ أصحابه من قبل الأغلبية، واضطهاد بعضهم وقتلهم، في صورة من صور الإرهاب الفكري المدمر.

تم طرح الفكرة أول ما طرحت على يد معبد الجهني وغيلان الدمشقي. يقول الإمام الذهبي عن معبد الجهني أنه تابعي صدوق، ولكنه سن سنة سيئة، فكان أول من تكلم في القدر، وقال عنه ابن معين وابن أبي حاتم من رجال الحديث أنه ثقة وصدوق، ومع ذلك تزخر كتب التاريخ بسبّ وشتم الرجلين.

معبد الجهني هذا ثار على الحجاج بن يوسف الثقفي مع ابن الأشعث؛ لأنه كان يرى أن هؤلاء الناس ظالمون، وعطلوا ما جاء به رسول الله، مما أدى في النهاية إلى مقتله، وتعليقه على باب دمشق، في عهد عبدالملك بن مروان.

أما غيلان الدمشقي، فقد أمر هشام بن عبد الملك بقطع يديه ورجليه بعد أن أخذ الفتوى من الأوزاعي، في مشهد أشبه بالمسرحية؛ لأن الرجل كانت لديه رؤية عن الحرية. وحرية الإرادة تصطدم بمنهج الدولة الأموية وقتئذ، المتبنية لمبدأ الجبرية، وأن الإنسان لا حيلة له في ما يحدث له؛ لكي يبقى الناس تحت سلطانهم، دون أي مقاومة لأي نوع من الظلم، بحجة أن هذا هو قضاء الله وقدره كما فسروه.

طبيعة المجتمعات وقتئذ حددت كيفية التعامل مع كتاب الله، وحجمت الفكر بشكل كبير؛ اعتقاداً أنها تحمي هذا الكتاب وأن كان لها مآرب أخرى. مع مرور الوقت، وتغول السلطة، أصبحت الأمور أكثر سوءاً، بل أصبحت السلطة تستمد شرعيتها من الدين، فكان لابد لها أن تساير العامة، وتقضي على أي فكرة جديدة؛ بحجة أنها تهدم الدين المتعارف عليه. فترة الازدهار التي شهدتها الدولة الإسلامية هي تلك الفترة ما بين القرن الثالث والسابع الهجري، والتي شهدت أعظم انفتاح فكري في ذلك الوقت، والذي ما لبث أن تقهقر بسبب الظروف السياسية وقتها.

سورة القدر تضع النقاط على الحروف، وتشير إلى مهمة كل جيل في التفاعل مع القرآن، وترشد الناس إلى الأمر الإلهي الذي تتنزل به الملائكة والروح على فترات، لتمنح الناس دفعة إلى الأمام

نستطيع القول أن سورة القدر تشير لتلك المرحلة ما بعد الرسل والأنبياء، وتحدد بدقة الفترات الزمنية التي سوف يحدث فيها التجديد. وكما كان بنو إسرائيل يقتلون الأنبياء بغير الحق، فكذلك هذه الأمة تضطهد مجدديها، بل وتقتلهم أحياناً بغير الحق.

أولو الأمر هم الامتداد الطبيعي للرسل والأنبياء، غير أن الرسل والأنبياء كانوا يقولون هذا من عند الله، وأولو الأمر يقولون هذا ما فهمته من آيات الله. الرسل والأنبياء منذ فجر التاريخ قد أيدهم ربهم بالآيات المادية الواضحة والمجسمة، الدالة على صحة ما جاءوا به. قلَّ هذا التجسيد، حتى إن نبينا الكريم لم يأت بآية مادية، بل جاء بآيات لفظية، يستطيع كل ذي عقل أن يتبين منها الحق من الباطل، اعتماداً على قدراته العقلية. كذلك أولو الأمر كل ما يعرضونه يستطيع الإنسان مقارنته وقياسه، وقبوله أو رفضه، بناء على قدراته العقلية، إن كان حقاً مسلماً.

سوف نتعرف على مفهوم (المسلم) كما جاء في القرآن، لندرك أنه لكي تقبل المفاهيم التي جاء بها أولو الأمر لابد أن تكون مسلماً حقيقياً، وأن المسميات التي نتداولها اليوم ما هي إلا انعكاس سياسي لا أكثر على دين الله.

لا شك أن التجدد في قراءة كتاب الله، واستخراج مفاهيم جديدة، مستمر إلى يوم الدين، فيتم فرز الناس كيوم التنزيل الأول. فإذا كان الفرز في عهد الرسول صلوات ربي عليه دار حول الإيمان بالتنزيل، فإن الأجيال التالية سوف يتم الفرز فيها على أساس التأويل. من الناس من سيظل قابعاً خلف موروثه، رغم ظهور مفاهيم جديدة أكثر منطقية، وأكثر انسجاماً مع آيات الله، ومنهم من يسبق إلى المفهوم الجديد؛ راغباً إلى الله، وطمعاً في المعرفة.

سورة القدر ألغت مفهوم المؤمن الوراثي، ولم يعد يجدي نفعاً أن يلد إنسان في بقعة معينة، لأبوين مكتوب في بطاقة الهوية أنهما "مسلمان" فيظن نفسه كذلك، وهو لم يبذل جهداً في الوصول إلى الله من خلال المعرفة. الأجيال جميعها سوف تتعرض للفرز، وتُعرض عليها الأفكار، فمن قبل الفكرة المتوافقة مع المبادئ العقلية و مع كتاب الله فقد نجا، ومن رفضها فقد حجز مقعده مع أسلافه المكذبين.

كل مكذب وغافل ومقلد ومعاند، يصر على مفاهيم تعارض كتاب الله، فهو قد أخرج نفسه من المعادلة الربانية، وألحق نفسه بفصيل لا علاقة له بما أُنزل على محمد صلوات ربي عليه، واتخذ من دون الله أرباباً.

لا شك أن الرسول صلوات ربي عليه واجه عاصفة من الرفض والاستهجان والإنكار والسخرية والتكذيب، ومحاولات التمييع، وإفراغ الرسالة  من محتواها بكل السبل. لقد امتحن الناس في قبول الرسالة، فهل معنى أن الرسالة وصلتنا هكذا، ولم نُختبر كما اختبر الأولون، أننا في حل من ذلك، وأن لنا فضلاً على العالمين. سورة القدر أنهت هذا الجدال، وأشارت إلى الحالة المتجددة التي صنعها القرآن، وكيف جعلت الناس في اختبار متجدد وفرز دائم.

أصناف الناس التي واجهت الرسالة في بدايتها هم نفس الصنوف التي سوف تواجه الأمر الذي أشار إليه ربنا في كتابه، من إيمان وكفر وتكذيب وتغافل وسخرية. المبدأ واحد، وهو أمر إلهي إلى الناس، تستيقنه نفوسهم، ثم ينظر الله كيف يعملون، وكيف يتفاعلون معه، ليميز الخبيث من الطيب. ليس غريباً أن نجد مفهوماً قرآنياً جديداً لم يكن واضحاً في الماضي، ثم يفتح الله على من يشاء من خلقه، فيتم محاربة هذا المفهوم الجديد، ليس بالدليل، وإنما بالأماني والتحيز.

حرية الاعتقاد واحد من تلك الأمثلة الواضحة في كتاب الله، ومع ذلك فئات كثير تصر على أن قتل المرتد نصرة للدين. السبي للنساء والأطفال، الذي لا يوجد له أي ذكر في كتاب الله، وتم تفنيده، ومع ذلك قطاع عريض يعتقد بأن السبي جزء أصيل من الدين، ولكن الزمن لم يعد صالحاً له. الرجم الذي يصر كثير من رجال الدين عليه، رغم أن أبحاثاً قيمة أثبتت أنه لا علاقة له بكتاب الله، وقد تناولناه في أكثر من فصل.

النسخ الذي يعطل آيات الله، وليس له وجود في كتاب الله، وتم بيانه في أكثر من موقع، ومع ذلك هناك إصرار عجيب من بعضهم على أنه جزء أصيل من الرسالة التي بعثها الله.

 أمثلة كثيرة ومفاهيم متجددة دائماً، ينقسم الناس حولها، كما انقسم الناس منذ فجر التاريخ حول مفاهيم مشابهة. هكذا يتم الفرز؛ فريق يحكم العقل دون الهوى، وفريق يصر على ما قال آباؤهم وكبراؤهم. لا يمكن أن تساوي بين من يقبل المفاهيم الجديدة، ويبذل الجهد والوقت في الفهم والمعرفة، رغبة إلى الله، وكسول يكتفي بما أملاه عليه آخرون، لا يملك حياله صرفاً ولا عدلاً. لا يستوون أبداً، ويا ليت الغافلين أو المعرضين يعلمون ما يفعلون بأنفسهم وبأتباعهم

أين الحقيقة بين كل هذا الكم من الأفكار؟

لا شك ان هناك سؤال  مشروع لدى الكثيرين هو  أين الحقيقة، وكيف أميزها بين كل هذا الكم الهائل من المعلومات، وكلٌّ له أدلته؟

لا أحد يستطيع الإجابة على سؤال كهذا، إلا الشخص نفسه، فمن أخلص بصدق دون تحيز، وأراد الحقيقة وسعى لها سعيها، فهو لا شك سيصل إليها. عدم التحيز كفيل بأن يمنح الإنسان قدرة كبيرة على التفريق بين الدليل والحيل، وبين البراهين والحبائل والمكائد، ويمكنه الالتجاء والاحتماء بالإخلاص. آفة كل معرفة التحيز، ونقيض الفهم التحيز، ومورد المهالك التحيز. التخلص من التحيز يتطلب تدريباً شاقاً، وخصوصاً في المجتمعات التي تربت على التحيز للأشخاص، وعلى التلقين، وعلى ابتلاع مسلمات لا منطقية، فقط لأن فلان العلامة قالها.

يحتاج الإنسان أن ينظر إلى الآخرين بشكل متوازن، دون تقديس أو تحامل، وأنْ يعلم أنّ الله ميَّزه كذلك بقدرة العقل، وكل ما يحتاجه الشجاعة والإخلاص، والرغبة الصادقة في المعرفة.

أتعجب كثيراً من أولئك الذين يقدسون بعض رجال الدين، ويستميتون في الدفاع عن أفكار خطيرة لهؤلاء، بحجة أنهم الأكثر علمًا، ومن ثم يناصرونهم بشكل بائس. لا يدرك هؤلاء خطورة ما يفعلونه على مصائرهم، وكيف أنهم يشاركون في حمل أوزار بشكل مجاني، وهم لا يعقلون.

عندما يفتي رجل الدين بقتل المرتد عقائدياً، أو بقتل الإنسان في أمور لم ترد في كتاب الله، وأمور ليس لها قيمة حقيقية، وبَان خسرانها، عندما تجد أحدهم ملأ كتبه بفتاوى مثل هذه؛ فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن الرجل ربما غاب عنه أشياء، أو أن الظرف السياسي والاجتماعي أجبره على ذلك. لا نبحث عن أعذار لأحد ، ولكنْ نقول: هذه أمة قد خلت، لها ما كسبت، وسوف نسأل نحن عما نفعل.

عندما تجد شباباً صغيراً، ورجالاً تعوزهم المعرفة، يدافعون باستماتة عن مثل هذه النماذج تتساءل: لماذا؟ لماذا يصر هؤلاء المساكين على حمل أوزار غيرهم. ما الذي يجعل جيل ذو معارف متقدمة واطلاع اوسع  واثق لهذه الدرجة، ولا يمنح  نفسه فرصة للتروي و فرصة للتفكير؟. لماذا يتنازل هؤلاء بمحض إرادتهم عن دورهم ومسؤوليتهم، بل ويساهمون في تدعيم وبسط المفاهيم الخاطئة، رغم بيان عدم صوابها وعدم دقتها؟. لن تجد إجابة شافية غير أن هؤلاء لا يريدون أن يعرفوا، أو أنهم استثقلوا المعرفة، و استسهلوا التقليد.

بنص سورة القدر، ومفهوم ولي الأمر، فقد ولّى عهد الأشخاص، وحل بدلاً عنه العقل. فلا مكان لمن عطل عقله، ويظن أنه بالتمسك بالأشخاص قد نجا. القرآن يحذر من ذلك، فلا يعتقدِ المساكين أن التحذير للكافرين في العصور الغابرة فقط، فهو لهم ولمن أتى بعدهم، ولنا ولمن يأتي بعدنا.

 تدبر آية واحدة في كتاب الله قد تفتح لك آفاقاً جديدة، وتكفيك مجلدات كثيفة، فقط إن توافرت الرغبة الصادقة في المعرفة لله.

سوف أضرب مثالاً هنا، عن كيف جاء الأمر الإلهي، وكيف تفاعل معه الناس على قدر معارفهم، والظروف المحيطة بهم.

لم يصدر الأمر للناس بقتل أحد داخل المجتمع بشكل قطعي في كتاب الله إطلاقًا، وضعْ تحت إطلاقًا مائة خط، وإنما كان توجيهًا للمجتمع باستخدام الخيارات المتاحة قدر الإمكان، وتقليل الخسائر قدر المستطاع.

لدينا في كتاب الله آيتان فقط تتحدثان عن أمر القتل، وكيفية تعامل المجتمع مع هذا الأمر.

الآية الأولى هي آية القصاص.

(یَـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَیكُمُ ٱلقِصَاصُ فِی ٱلقَتلَى ٱلحُرُّ بِٱلحُرِّ وَٱلعَبدُ بِٱلعَبدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنثَىٰ فَمَن عُفِیَ لَهُۥ مِن أَخِیهِ شَیء فَٱتِّبَاعُ بِٱلمَعرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَیهِ بِإِحسَـٰن ذَٰلِكَ تَخفِیف مِّن رَّبِّكُم وَرَحمَة فَمَنِ ٱعتَدَىٰ بَعدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِیم)(سورة البقرة: آية 178).

قد تم شرح هذه الآية بالكامل في الجزء الثالث من سلسلة كتب تلك الأسباب، وبيّنّا فيها أن القصاص إنما هو إعطاء مساحة للمجتمع للتشريع، والتعامل مع جريمة القتل داخل حد أعلى وهو القتل، وحد أدنى هو العفو. لقد سجلت آية القصاص كما بيّنا الحالات الثلاثة الرئيسة للقتل: وهي القتل كتكليف (العبد بالعبد) ومثال ذلك رجل الشرطة، والقتل في الظروف العادية (الحر بالحر)، والقتل دفاعاً عن النفس (الأنثى بالأنثى). سوف نتناول في السطور التالية الآية الثانية، والتي نستطيع من خلالها فهم مقصد التوجيه الإلهي للبشرية، وهي الآية المذكورة في سورة المائدة.

الآية الثانية: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ  ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا  وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (سورة المائدة: آية 33).

 في هذه الآية نجد أنه لابد من توافر شرطين أساسيين لإنزال العقاب، وهما:

الشرط الأول: محاربة الله ورسوله، وهذه الجزئية تحتاج لبيان كيفية محاربة الله ورسوله من خلال كتاب الله، وليست هكذا قولاً مرسلاً يستطيع كل كسول استخدامه في إلصاق التهم بالناس. ربما باحث صادق يتولى هذا الأمر، ويستخرج من كتاب الله كل الحالات التي ينطبق عليها توصيف محاربة الله ورسوله، بعيداً عن الرؤى والفلسفات، والقياس غير الدقيق.

الشرط الثاني: هو السعي في الأرض فساداً، وهذا الشرط أيضاً يحتاج لما يحتاج إليه الشرط الأول، من بيان نواحي الإفساد في الأرض، وتوضيحها؛ لتجنب استغلال هذا الشرط من الأدعياء، واستحلال دماء الناس. ونحتاج فهم معنى السعي، وكيف للإنسان أن يسعى في الأرض فساداً.

لن نتطرق هنا في هذا الفصل أو الكتاب إلى تفسير هذه الآية وتحليلها؛ تجنباً الإطالة وتشتيت الانتباه.

سوف أقوم بالتركيز هنا على الحالة العامة التي تشرحها و تشير إليها الآية الكريمة، وهي وجود شروط معينة لإنزال العقاب، وكيف أن هذه الشروط مركبة، وليست بشكل مباشر، بالإضافة لوجود اختيارات واحتمالات للعقاب، وليس عقاباً قاطعاً جازماً.

لابد من توافر شرط محاربة الله ورسوله، ثم يتبع هذا الشرط السعي في الأرض فساداً، إذا تحقق هذان الشرطان وجب على المجتمع تغليظ العقوبة؛ لأن هذا الفعل إنما هو فعل متطرف لأقصى درجة. الذي يحقق الشرطين يكون قد اجتمعت فيه شرور الدنيا، فمن لا يعترف بخالق، ولا بقيم أخلاقية، ولا بقوانين مجتمع، هو أشبه بالكلب العقور، وجميع المجتمعات تتعامل مع هذا الصنف بأقصى درجات العقاب؛ لأن وجوده خطر داهم على أمن وسلامة المجتمع.

لقد ضرب لنا ربنا هذا المثال الذي يمثل الحالة العليا من الإجرام، لنتدبر كيف تعامل معها ربنا، ونهتدي بهدي القرآن في التعامل مع حالات شبيهة لهذه الحالة.

بعدما حدد كتاب الله شرطين لإنزال العقوبة، أعطانا أربعة احتمالات لهذه العقوبة. يجب أن نتوقف كثيراً أمام هذه الاحتمالات، ونسأل أنفسنا: لماذا أربعة احتمالات؟

ولماذا لم يأمر ربنا مباشرة بعقاب معين بشكل محدد وجازم؟

لماذا لم تأت الآية الكريمة تخبرنا أنه من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً يُقتل بأمر نهائي قاطع؟

الاحتمالات التي ساقتها الآية الكريمة تدرجت من القتل؛ إذ هو أعلى درجة، وليس هناك أعلى من قتل هذا المجرم، القتل هنا هو الحد الأعلى.

الاختيار الثاني أو الاحتمال الثاني للعقاب وهو الصلب، لاحظ أن الصلب وقع تالياً بعد القتل، فلا يمكن أن يكون مساوياً للقتل، وسياق الآية نفسه يؤكد ذلك؛ حيث التدرج الواضح في العقاب. إذن الصلب لابد أن يدرس جيداً؛ لبيان المقصود منه، ولا يجب التساهل وتوصيفه بشكل متسرع؛ حتى لا نقع في التقول على الله بدون علم.

الاختيار الثالث هو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، وهذا الحد أيضاً يبدو أنه أقل من الصلب، ولابد أن يدرس بشكل متأنٍ؛ لبيان معنى القطع، والمقصود بالتعبير القرآني من خلاف.

الاختيار الرابع أو الاحتمال الرابع للعقاب، وهو النفي من الأرض.

لا أحد يستطيع القول أن النفي يساوي العقوبات السابقة، ولكن لا شك أنه أخف هذه العقوبات. تدبر الآية على مهل وفهم تدرج العقوبات مع تعدد الجرائم،  هي التي دفعتنا للقول بأن الآية تضمنت رحمة وإشارة للمجتمع لتولى المسئولية بحسب ما يستحق الفعل وعدم المبالغة غير المبررة ، رغم بشاعة الجرم المرتكب.

وجود الاحتمالات بهذا الشكل يعطي المجتمع مساحة كبيرة للتعامل وتقرير العقاب المستحق، بناء على الخطوط العامة التي وضعتها الآية، وبناء على حاجته، وبالطبع هذا بفرض أن المجتمع سليم وغير فاسد. في حالة المجتمعات الفاسدة فإن كل شيء يتبدل، ولا يصبح لكتاب الله أي مردود، وبالتالي يتحكم الهوى والظروف فيما يقرره الناس، أو ما يقرره أصحاب القوة والسلطة.

عند قراءة الآية التالية للآية الكريمة محل دراستنا، سنكتشف أن القرآن الكريم والتوجيه الرباني ذهب أبعد مما نتخيل، بل لم تسجل أكثر القوانين رحمة وتسامحاً وتساهلاً مثل هذه الحالة، وهي استثناء الذين تابوا، من احتمالات هذا العقاب قبل القبض عليهم، عندما قال في الآية التالية:

(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ  فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ( سورة المائدة: آية 34).

لماذا لم يتدارس الفقهاء هذه الآية، ويستنبطوا هذه المعرفة التي تشير إلى سلطة المجتمع في التقرير، وتلك المساحة الشاسعة في التعامل مع المواقف المختلفة. هذا التوجيه الرباني هو تمام الرقي، والدليل القاطع على أن البشرية في تطور مستمر، وأن الله أراد للإنسان أن يتحمل المسؤولية، ويتلقى التكليف بكل أمانة.

بالنظر إلى المسائل الفقهية المختلفة التي عالجت مسائل أبسط بكثير مما جاء في هذه الآية، سندرك حجم الفجوة بين الإرشاد الرباني والتفاعل الإنساني. بل سندرك حجم التقصير الذي وقع على عاتق الإنسان الذي لم يبذل جهده في بيان وتصحيح المسار قدر المستطاع.

لك أن تتخيل في ظل وجود هذه الآية، والإرشاد الرباني الواضح، خرج أحدهم وقال بكل ثقة: من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا فإنه يستتاب، أو يقتل، كأنه أمر قاطع وجازم.

أرجو أن تسأل نفسك سؤالاً، و كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا، هل القائل بذلك امتثل أمر الله، أم أنه احتكر الأمر الإلهي، وقطع وجزم وافترى على الله كذبًا، وضيّق أمر الله؟.

رغم أن الآية الكريمة أعطت مثالاً لجرم عظيم، بل يكاد أن يكون الدرجة القصوى من الإجرام، ومع كل هذا كان التوجيه القرآني هو إعطاء المجتمع خيارات للتعامل مع هذه الحالات، وفق تقديرات عادلة، وليست قرارات متشنجة.

لقد أفتى بعضهم بقتل الناس في أمور هينة، لا تصل إلى ما وصلت إليه الآية الكريمة، محتكرين الرحمة الإلهية، ومصادرين التشريع الإلهي لصالحهم.

أين هذا التوجيه الرباني من فتوى القائل "من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل" مسألة كهذه مسألة فلسفية، ليس فيها محاربة لله ولا لرسوله، ولا سعي في الأرض فساداً، ومع ذلك تم إصدار حكم القتل كمن يشرب الماء.

فتوى أخرى "من قال إن الله لم يكلم موسى تكليماً يستتاب، فإن تاب، وإلا يقتل"  مرة أخرى مسألة تأويلية اجتهادية، ليس فيها محاربة لله ولرسوله، بل هي مسألة فكرية بحتة، والتحريض على من يتناولها بهذا الشكل هو عين الإرهاب الفكري، والافتراء على الله.

ضربت هذا المثال لأبين كيف سيتعامل الناس مع الحقائق الجديدة، القائمة بالأساس على تدبر كتاب الله، مقابل مسلمات يتداولونها وينسبونها لكتاب الله ودين الله.

 ضع أمام عينيك هل هذا التدبر موافق لكتاب الله والمفاهيم العقلية لديك، أم أنك تجد فيه انعدام المنطقية وقفزاً على الحقائق؟

لن يتولى أحد الإجابة عن هذا السؤال سواك، ولن يحاسب أحد بدلاً منك. الناس مختلفون، وسوف يتعاملون بأنماط  فكرية مختلفة، فمنهم من لا يرغب أن يشغل باله بمسائل كهذه، ويعتقد أنه يكفيه ما ورثه من أبويه، وما تعارف عليه مجتمعه، فلهذا ما تولى.

مع كل معلومة جديدة، ومع كل تدبر جديد، أنت أمام اختبار جديد، إما أن تسلم ثم تؤمن، أو تكفر وتكذّب، أو تصبح هوداً أو يهودياً أو نصرانياً أو من أصحاب الأعراف. سوف نفرد الفصول القادمة للتعرف على هذه النماذج، وكيف تتعامل مع الحقائق، أو الذكر والنذر التي تأتيهم صباحاً ومساءً.

(وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ  وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا) (سورة الإسراء: آية 13).

يحتاج الإنسان لمزيد من الثقة بعقله، والتي أشار إليها القرآن الكريم عندما حث على التدبر والتعلم والتعقل.

مشاهد قرآنية عديدة تشعل جهاز الإنذار، ولكن الإنسان الظلوم الجهول لا يعيرها أي اهتمام، معتقداً أن المخاطب أحد غيره. المشاهد التي تصف إعراض الناس عن القرآن تسقطها الأغلبية على العصر الأول، ولا تدرك أن هذه النماذج تتكرر على مر التاريخ، وأن هذه الأنماط من البشر تعج بها المجتمعات.

الأنماط التي ترفض الحقيقة رغم جلائها هي نفسها في كل عصر، تبرر لنفسها الإصرار على الموروث، والتمسك بالسائد، ورفض أي جديد، بسبب الضحالة المعرفية الغارقة فيها. سوف نحاول في السطور القادمة استعراض بعض المشاهد القرآنية، ومن ثم فهمها، من خلال مفهوم ولي الأمر ومفهوم ليلة القدر.   

المشهد الأول

 (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ  لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ  جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)) (سورة فصلت: الآيات 26-29).

في الآية الكريمة إشارة إلى فصيل لا يريد أن يمنح نفسه فرصة لكي يسمع، ويوصي أتباعه بذلك، يريد أن يعطل أهم حاسة لدى الإنسان وهي السمع. الوظيفة الرئيسة للحواس مثل السمع والبصر هي القدرة على التقاط أكبر قدر من المعارف، ومن ثم معالجتها عن طريق العقل للوصول لنتيجة.

حجب السمع والبصر هو حجب لأهم أدوات المعرفة، وبالتالي يقع الإنسان في الضلال دون أن يدرك. هذه الحالة التي يطالب فيها الكافرون أتباعهم بتجنب سماع القرآن تتكرر كل زمن، عندما تحدث قراءة جديدة لآية من آيات الذكر الحكيم. لا تقرؤوا هذه الكتب، لا تسمعوا لهؤلاء، اجعلوا بينكم وبينهم حجاباً حتى لا تنفذ أفكارهم إليكم.

هذه أبرز الحجج التي يسوقها الكهان ليبقى الناس تحت سلطتهم، فلا يعرفون إلا من خلالهم، ولا يرون إلا ما يرى كُهانهم. إن كان هؤلاء الكهان مجرمين في دعوتهم لحجب المعرفة، فإن أتباعهم لهم نصيب غير منقوص من الضلال والإثم؛ لأنهم لم يحاولوا الإفلات من سيطرة البشر على عقولهم، واستسلموا بمحض إرادتهم لهم.

الآيات الكريمة تخبرنا أنه لن ينفع الإنسان اعتماده على غيره، أو ثقته في إنسان آخر مهما كان هذا الإنسان. الفيصل هو عقلك، فإن سلّمته لآخر أضلّك، فعليك مثل وزره، وإن سعيت سعيك فلك الأجر حتى وإن لم تصل. لفظ القرآن يدفعنا للقول أن المقصود هو حالة القراءة المستمرة والفهم والتدبر وليس مجرد سماع منطوق الآيات.

المشهد الثاني

(وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا  إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ  وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون(33)) (سورة الأنفال: آيات 31-33)

خطوة بخطوة  وحرف بحرف، فكما قال الأولون يقول المتأخرون وينقلون حججهم، إن كان الذين ظلموا قالوا: إن هذا إلا أساطير الأولين، فقد قال مثل ذلك المتأخرون: إن هذا إلا تفنيد المستشرقين. حجج تعيسة، هدفها بالأساس بخس الفكرة، وهي دائماً حاضرة على لسان الذين لا يملكون قدرة على تفنيد الأفكار بشكل علمي ومنهجي، فما لهم سوى التقليل من شأنها بطريقة صبيانية.

هذه الآية الكريمة تشير إلى هذا النمط الممتلئ غروراً وكبراً، لا يريد أن يسمع، ويدعي المعرفة، ولديه تبرير في رفض كل فكرة. هلا تركت من قال، ونظرت فيما قيل؛ حتى وإن قال ما قال أكبر المجرمين.

انظر فيما قال وفيما ادعى وفند ما قاله، وكن منصفاً، ففي الإنصاف وحده النجاة. لن تجد مثل هذه الأقوال حاضرة في المجتمعات العلمية السليمة، ولكن تجدها حاضرة وبقوة في المجتمعات القائمة على التلقين، والفقيرة معرفياً.

ماذا لو أن أساطير الأولين هذه فيها شيء من الصحة؟ لماذا لم تختبرها؟ لماذا لا تختبر ما جاءك من المعرفة، حتى لو بدا لك أنه يشبه أساطير الأولين؟ إن المعرض عن الحقيقة لأسباب واهية غير الدليل والبرهان، هو مثال حي لمن يستعجل عذاب الله، وكمن يقول اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأتنا بعذاب أليم. لماذا لم يقل المسكين اللهم اهدنا للصواب؟ لأنه متحيز بالأساس، ولن يقبل الحقيقة مهما جاء معها من سلطان مبين من البراهين. سوف يبحث عن كل الحجج، سوف يتعامي عن الأدلة الساطعة، سوف يجد ألف مخرج، فهكذا كل الظالمين.

المشهد الثالث

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ  فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (سورة الأنعام: آية 33).

هذا نمط الجاحد المعاند، الذي يرى الحق ظاهراً، ولكن لحاجة في نفسه لا يعترف بهذا الحق، وإنما يختار الانضمام إلى صفوف الظالمين، والركون إلى المكذبين. للجحود أسباب عديدة، منها تصورات ذهنية أو مصالح معينة.

لا أجد مثالاً لهذا الجحود أكثر وضوحاً من مثال مَن إذا داهمته الفكرة، لم يجد لها سبيلاً إلا إنكارها اعتمادًا على قائلها.

لقد قال بذلك أسلافه عندما حصحص الحق، فحاولوا شخصنة الفكرة والرسالة ورفضوها لأن الشخص الذي صدرت عنه ليس من أصحاب الحظوة والوجاهة التي يقيسون بها الرجال.  كانوا يتمنون أن ينزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم لأنهم غير قادرين على فرز الفكرة  بشكل مجرد دون ارتباطها بالصورة النمطية للأشخاص أصحاب الكلمة المسموعة.

(وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (سورة الزخرف: آية 31).

ما دخل الفكرة بحاملها، إلا البحث عن مبرر لرفضها وجحودها.

المشهد الرابع

هذا المشهد يحتوي على عديد من الآيات الكريمة التي تعبر عن الحالة التي يصفها، وهي لا شك الحالة الأشهر؛ بسبب انتشار هذا الصنف بين الناس. الصنف الأشهر بين الناس هو صنف الواثق في الماضي، التابع لما وجد عليه أبويه وعشيرته، يسير كما يسيرون، ويؤمن بما هم مؤمنون، ويكفر بما كفر به أسلافه دون تفكير.

إنها طريقة سهلة ومريحة ينتهجها الأغلبية؛ توفيراً للطاقة والجهد. البحث عن الحقيقة مكلف ومجهد، ولكن التقليد مريح وسهل، ويمنح الإنسان فرصة لفعل أشياء أخرى. الإنسان بطبيعته يفضل أن يلهو ويفقد الوقت بدلاً من البحث عن المعرفة؛ لأن البحث عن المعرفة سلسلة لن تنتهي، و يترتب عليها مسؤوليات جديدة.

إنه الهروب من العبادة، والتي أشرنا إليها في الجزء الثالث من سلسلة كتاب تلك الأسباب، والخلود إلى الجمود، أو التأسي بأصحاب الحجر الذين كذبوا المرسلين

 لقد ذم كتاب الله هذا النمط في أكثر من موضع، وأشار إلى ضلاله وبعده عن المنهج الرباني، القائم على العقل والتدبر.

(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22)  وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ  قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ(24))(سورة الزخرف: آيات 22-24).

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا  أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً  صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ(171))(سورة البقرة: الآيات 170-171).

(إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا  أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ  لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ  إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون(105))(سورة المائدة: الآيات 104-105).

(فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ  مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ  وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ  وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ  وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (110))(سورة هود: الآيات 109-110).

الآيات في كتاب الله التي تصف الأنماط المكذبة والغافلة، والتي لا تستجيب لما يحييها، وتصر على ما بين أيديها، هي علامة مميزة لجميع الأمم، ولو أن الأمم انتبهت لهذه الكارثة المعرفية لتغير وجه الكرة الأرضية.

 لا أحد يرغب في المراجعة، والكل يكتفي بما لديه؛ ولذلك هذا الصنف مهدد بأنه قد يكون خارجاً بالأساس من تحت مظلة الإسلام.

المشهد الخامس

الصنف الذي يصفه هذا المشهد القرآني هو صنف الغافلين، والغفلة هي أخطر سلوك على الإطلاق، تودي بصاحبها إلى أسفل سافلين، سواء على مستوى النشاط اليومي أو على مستوى المصير الأخروي. للأسف هذا الصنف صنف منتشر وسائد بين الأعمار الصغيرة؛ بسبب مصادر تشتيت الانتباه المتعددة التي تحيط بهم من كل مكان. هذا النموذج لا يقلد الآباء بل يقلد أقرانه، لا يعنيه مفهوم المعرفة، ولا يكترث لها، وغالباً لا يقرأ، ويعتقد أن القراءة نوع من أنواع الفذلكة، ويرى أن البحث خلف الأشياء تعقيد، والحياة أبسط من ذلك.

هذا الصنف صعب الهداية؛ بسبب انصرافه إلى كل ما يجلب المتعة ويلفت الانتباه، وبُعده عن كل ما يجهد العقل بالتفكير. يتفرع من هذا الصنف صنف المستهزئ، وصنف المعرض. وخطورة هذا الصنف أنه يعدي بشكل كبير، لما يبدو عليه من سعادة حصل عليها بالأساس من عدم الاكتراث.

هؤلاء الغافلون الذين تراهم ينظرون ولا يبصرون ولا يفقهون هم وقود جهنم؛ لأنهم تخلَّوا عن وظيفتهم بمحض إرادتهم.

(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَآ أُولَٰٓئِكَ كَٱلْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ) (سورة الأعراف: آية 179).

المهمة القادمة للإنسان لا تحتمل هؤلاء الغافلين، وإن بدا عليهم أنهم أناس جيدون؛ إلا أن عدم اكتراثهم بالمعرفة يجعلهم في عداد الشوائب التي ليس لها نفع. الحياة الدنيا لا شك أنها اختبار وذات فائدة ومهمة معينة، يتم إعداد الإنسان كما يُعد الطالب في الجامعة لسوق العمل. الطالب الغافل هو نموذج خطير قد يسبب كوارث، رغم أنه قد يكون محايداً وليس بسيِّئ الخلق.

من أهم صفات هؤلاء الغافلين هو الركون للحياة الدنيا، حتى إذا مرت أمامه معرفة أو حقيقة لا ينتبه إليها، ويعتبرها مضيعة للوقت.

(إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُوا بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱطْمَأَنُّوا بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ) (سورة يونس: آية 7).

هؤلاء في الحقيقة لا يرجون لقاء الله، وإن قالوا غير ذلك. لو رجا هؤلاء لقاء الله لبحثوا عن مراد الله وتكليفاته، أما القول المجرد من الفعل أننا نرجو لقاء الله فهو قول لا يدعمه أي دليل، وترديد كهذا دليل أكبر على الغفلة التي يعيشها هؤلاء

الآية التالية تشير إلى صفة خطيرة من صفات هؤلاء الغافلين، وهي يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا.

(يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلْءَاخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ) (سورة الروم: آية 7).

كثير من هؤلاء الغافلين تجدهم بارعين ومتفوقين في أشياء معينة، أو في مظهر من مظاهر الحياة، لكنهم غافلون تماماً عن سبب وجودهم والغاية منه. بالتأكيد أنا لا أتحدث هنا عن إقامة الشعائر، بل أتحدث عن أصل المشكلة، وهو الاكتفاء المعرفي، وعدم الرغبة في البحث عن الحقيقة، أو حتى الاستماع إلى الحقائق وفرز صوابها من خطئها.

قد يظن بعضهم أن هذا الأمر يحتاج لوقت كبير، لكن الحقيقة غير ذلك بالمرة. مجرد فرز الحقائق ومقارنة الأشياء للوصول لقناعة سليمة ليست بهذه الصعوبة. ليس مطلوباً من هؤلاء أن يكونوا باحثين من الدرجة الأولى؛ ولكن على الأقل عليهم أن ينتبهوا لما يمر أمامهم، ولا يزهدوا بالمعرفة.

الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون هم عوامل جذب لكثير من العامة؛ إذ يتخذهم العامة نماذج جيدة للنجاح في الحياة، ويقتدون بهم في الاكتفاء المعرفي.

أكتفي بهذه الأمثلة، ولو أراد القارئ الاستزادة فما عليه إلا أن يتلوا آيات الله، ويقرأ سياقها، ويعلم أنها آيات عاملة إلى يوم الدين.

كل من أدرك المفاهيم الجديدة المتوافقة مع كتاب الله، والمتوافقة مع المفاهيم العقلية، قد خاض الاختبار بالفعل، و لينظر في أي فريق هو. لن يستطيع أحد تصنيفه؛ لأن المسألة بالكامل تعتمد على تفاعلاته الداخلية، وكيفية تلقيه المعرفة، والحيادية التي يتعامل بها مع الأفكار.

بالنهاية قد يتبادر سؤال إلى أذهان بعضهم: وما الذي يجعلني أثق في مثل هذا الكلام؟

هذا التعامل مع الأفكار هو تعامل طفولي للغاية؛ فليس مطلوباً من الإنسان إن يثق أو لا يثق، بل المطلوب أن يتفاعل بالتفكير، وأن يخوض تجربته. ما تقرأه أو تعايشه من خبرات، وكذلك الأحداث حولك، ما هي إلا نذر، أو بالمعنى المعاصر جهاز إنذار.

تعاملْ مع هذا الإنذار بحيادية، وحاول إيجاد طريقك وقناعتك التي سوف تقف بها أمام الله فرداً. ليس مطلوباً أن أنقل لك كل ما يدور في عقلي، ولا حتى أن تفهم فهمي؛ فلكي تفهم ما أعنيه بالضبط يجب أن تكون أنا. تعيش خبراتي وتملك أدواتي وتحيا الظروف نفسها التي عايشتها. تعاملْ مع ما كل ما يطرق بابك على أنه نذر، وتذكر كيف يتصرف من داهمته النذر. سوف يقودك عقلك وإنصافك وإخلاصك إلى الحقيقة، فهذا وعد الله للمخلصين.

الآن لدينا سؤال هام، هو: ما مصير من مات ولم يدرك هذه المفاهيم؟ وهل أشار كتاب الله إلى هذه النماذج؟ 

هذا السؤال سوف يقودنا مباشرة لمفهوم أصحاب الأعراف، والذي سوف نتناوله في الفصل القادم، ثم ننتقل بعده لأعظم مفهوم شهد تشويهاً؛ هو مفهوم المسلم.

(مدلول لفظ منسأة ولفظ نساء)

عند تحليل كلمة (الشهر) في بداية هذا الفصل، وجدت نفسي أمام كلمتين متعلقتين بلفظ (النسيء) وهما كلمة (مِنسأته) وكلمة (النساء). سوف أضع في السطور التالية نتائج هذا التحليل بشكل مبسط وموجز، معتمداً على تحليل لفظ (نسيء) الذي وجدنا أنه يعني حفظ شيء وتثبيته وليس تأخيره. دعونا نفهم كيف عبر لفظ (مِنساته) ولفظ (النساء) عن هذه الحالة.

أولًا: لفظ منسأته

جاء هذا اللفظ في سورة سبأ متعلقاً بنبي الله سليمان.

(فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) (سورة سبأ: آية 14).

الآية تخبرنا أن الجن لم يعلموا بموت نبي الله سليمان، إلا عندما أكلت دابة الأرض منسأته، فما هي المنسأة؟

يقول المفسرون أن (المنسأة) هي العصا الغليظة، والتي كان يستند عليها نبي الله سليمان، وأنه كان يشرف على عمل الجن متكئاً على عصاه، ثم مات وظل الجن يعملون، وهم يظنون أنه يراقبهم، ولم يدركوا موته إلا بعد أن أكلت دابة الأرض منسأته، فخرَّ على الأرض، ومن هنا تبيّنت الجن موته، وهذا دليل على أن الجن لا يعلمون الغيب.

هذه الرواية فيها كثير من المغالطات، وتشبه الأسطورة، ولو تتبعنا الآيات القرآنية التي تتحدث عن نبي الله سليمان، لأدركنا على الفور أن هناك خطأً ما في تفسير هذه الآية.

أولًا: نبي الله سليمان ملك، وذو ملك عظيم، فما الذي يجعله يشرف بنفسه على العمل كل هذا الوقت؟ ولكن من المنطق أنه يتفقد العمل، ولا يستمر في الإشراف عليه كما تدعي الرواية.

ثانيًا:  لهذا الملك العظيم جنود وحاشية عظيمة، وهي بالطبع حوله، ولو مات بهذا الوضع لأدركت الحاشية ذلك بسرعة، ولم يكن ليقضي كل هذا الوقت حتى يتبين الجن موته من وقوعه.

ثالثًا: تبين الآية من خلال لفظ (لبثوا) الذي يشير إلى طول الفترة، أن الجن استمروا فترة طويلة في العمل والعذاب المهين، وهذا ما لا يتوافق مع الرواية، ففي الغالب لن ينقضي وقت طويل حتى يكتشف المحيطون بنبي الله سليمان موته.

رابعًا: دابة الأرض تحتاج لوقت طويل حتى تأكل عصاه التي يتوكأ عليها، قد تصل إلى شهور أو سنين حتى تدمرها، فلا يعقل أنه استمر كل هذا الوقت دون أن يعلم به أحد.

خامسًا: الموت وحده كفيل بأن يسقطه بسبب فقدان التوازن، لو كان بالفعل متكئاً على عصاه كما تدعي الرواية، ولكن لو قالوا أن المنسأة كرسي أو عرش لربما كان الأمر مستساغاً.

سادسًا: لفظ (عصا) ذكر في القرآن، ولكن في هذه الآية لفظ (منسأة) هو المستخدم؛ لذا لابد أن يكون معنى اللفظ مختلفاً، ويخفي داخله خصائص وصفات أصل الكلمة وهو (نسأ).

من خلال تفنيد الأدلة وتتبع الآية وفهم أصل كلمة (نسأ)، وهي حفظ وتثبيت الشيء؛ فإننا نرجح أن المنسأة التي أكلتها دابة الأرض هو صندوق دُفن فيه نبي الله سليمان أو جسده الذي تم حفظه لوقت طويل في شيء معد لذلك، وهو المنسأة.

كون نبي الله سليمان ملكاً عظيماً، وكون الجن مسخرين للعمل بأمره، فهذا لا يعني أنهم قريبون منه، ولكن يعملون في مملكته، ولما مات نبي الله سليمان لم يصلهم الخبر، وظل هؤلاء الجن يعملون وهم يعتقدون بوجود نبي الله سليمان. فلما أكلت دابة الأرض  الصندوق الذي يحفظ الجسد ، وخر الجسد وصل الخبر إلى الجن فعلموا بموته. الفترة بين موت نبي الله سليمان واكتشاف الجن موته تبدو منطقية؛ لأنهم بالفعل لبثوا في العذاب المهين دون أن يدركوا موته، وهذا يدل على أنها كانت فترة طويلة نسبيًا.

دابة الأرض تشير إلى أن المنسأة كانت في الأرض أو تلامس الأرض؛ لذلك أكلت دابة الأرض منسأته. الفترة التي تستغرقها دابة الأرض لكي تدمر أي شيء تحتاج لوقت طويل نسبياً، وهذا يتوافق مع كون المنسأة تابوتاً أو صندوقاً تم حفظ الجسد فيه، وليست عصا.

لذلك نقول وبكل ثقة أن منسأة نبي الله سليمان هو الصندوق الذي حفظ فيه الجسد وغالبا من الخشب، وتم تثبيت الجسد فيه، وهذا المعنى يتوافق تماماً مع لفظ (نسأ) الذي تم استنتاجه أنه حفظ وتثبيت الشيء

ثانياً: لفظ نساء

من خلال فهم لفظ (نسيء) يمكننا الآن القول أن النساء إنما سميت نساء بسبب صفة ملازمة لها، وهي حفظ وتثبيت شيء ما، وهذا الشيء لا شك هو الجنين. لفظ (النساء) متعلق بوجود رحم قادر على حفظ وتثبيت الجنين، وليس كما يعتقد بعضهم أن التسمية بسبب حب النساء للأشياء المتأخرة، مثل: كل ما هو جديد، أو عملية التسوق، واقتناء كل ما هو متأخر.

نلاحظ في آيات القرآن الكريم أن لفظ النساء جاء في الغالب في وصف حالات الزواج والطلاق والحمل، وكل ما يخص العملية البيولوجية المتعلقة بالرحم والقدرة على الحمل.

لفظ (نساء) لابد أن يتوافق مع القدرة على الحمل، ولذلك لا يجوز إطلاق لفظ النساء على الصغيرات اللاتي لم يكتمل نموها، ومن هنا من يفتي بجواز زواج الصغيرة هو في الحقيقة لا يمت لكلمات الله بصلة، وإنما عادات اجتماعية جاء القرآن يهذبها، ويضعها في إطارها الصحيح.

موضوع النساء موضوع معقد وطويل، وليس هنا محله، ولكن سوف نمر سريعاً على ثلاث آيات مثيرة للجدل؛ لنفهم ما المقصود بالنساء، بعدما تبينا لفظ (النسيء) وعلاقته بالنساء.

الآية الأولى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) (سورة النساء: آية 27).

استدل بعضهم بهذه الآية على زواج الصغيرات، لكن المتتبع للفظ (النساء) سيجد أنه لا يصح وصف النساء بالنساء إلا إذا توافرت القدرة على الحمل بشكل صحيح، وهذا ينفي تماماً القول بزواج الصغيرة. عدم فهم كلمات القرآن والاعتماد على تصورات السابقين، هو السبب المباشر في تلك الفتاوى والآراء الغريبة والشاذة والتي لا تمت لكتاب الله بصلة.

الآية الثانية: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (سورة النور: آية 60).

فسر المفسرون هذه الآية بأن القواعد من النساء هن كبيرات السن، ولكن من خلال لفظ (نساء) نجد أن لفظ النساء لابد أن يستقيم مع القدرة على الحمل، ثم لا بد من فهم (القواعد) حتى تكتمل الصورة.

جاء لفظ (القواعد) في كتاب الله في موضعين، إضافة للموضع الذي نحن بصدده. وهو يعني الشيء القوي الثابت الذي يرتكز عليه شيء آخر.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (سورة البقرة: آية 27).

قواعد البيت هي الأعمدة التي يرتكز عليها البيت.

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) (سورة النحل: آية 26).

هنا أيضاً القواعد تعني الشيء الثابت الذي يحمل البنيان.

من هنا يصح القول أن مفهوم (القواعد من النساء) تعني القويات أو صاحبات المسؤولية، وغير الراغبات في الزواج، وأن الزواج ليس في حساباتهن. لا يستقيم القول بأن المقصود بالقواعد من النساء هن الكبيرات أو في أرذل العمر؛ فهؤلاء لا ينطبق عليهن وصف النساء المتعلق بالقدرة على الحمل، ولا ينطبق عليهن لفظ (القواعد)؛ فهنّ بطبيعتهن هذه ضعاف يحتجن إلى من يرعاهن، ولسن قواعد يستطعن حمل شيء ما.

لفظ (قعد) كما جاء في قاموس اللغة له أصل واحد، وهو يساوي الجلوس. بالنظر إلى كتاب الله وكيف ورد جذر (قعد) من خلال الآيات التي تحدثت عن رفع القواعد سوف نلاحظ أن اللفظ يشمل صفة هامة؛ وهي القدر والقوة. لذلك القاعد لابد أن يكون قوياً وقادراً، وهذا يتنافى مع التصور السائد أن النساء القواعد هن المتقدمات في العمر؛ إذ صفة القوة والقدرة غير متوفرة، بل هن ضعيفات.

بالنظر إلى الآية الكريمة في سورة النساء التي وصفت القاعدين من الرجال، سوف ندرك صفة القوة والقدرة في هذا اللفظ.

(لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ  فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً  وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ  وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (سورة النساء: آية 95).

لقد عاب القرآن على القاعدين بسبب قدرتهم، ولأن لفظ القاعد بحد ذاته يحمل صفات القوة والقدرة؛ لذلك القاعدون هنا تحمل الجلوس أو التخلف مع القدرة. قد يظن البعض أن إضافة أولى الضرر يشير إلى أن القاعدين ليسوا أصحاب قوة وقدرة وإلا ما فائدة إضافة  اولى الضرر؟

الضرر هنا هو عامل طارئ تسبب في إعاقة القدرة والقوة وليس وضع دائم . لكي يرفع ربنا الحرج عن القاعد بسبب طارئ ما أصابه مع قدرته جاءت الإضافة هنا كنوع من رفع الحرج.  قد يكون الضرر خوف من فقدان شئ معين أو ظرف ما لا ينفي عنه القدرة والقوة في الخروج  ظاهريًا. مثال ذلك الإبن الوحيد لابوين قد يكون قادر ولديه القوة على الخروج ولكن لو خرج لسبب ضرر لابوية .

الضرر هنا ليس معناه إعاقة بدينة فهؤلاء لا حرج عليهم وليسوا ضمن هذه الآية.  الآية تتحدث عن أصحاب الضرر الذين لديهم قوة وقدرة  ولكن هناك مانع آخر خلاف القوة والقدرة وذلك بسبب حساسية لفظ قاعد كما ذكرنا ومدلوله.

هذا مثال من الأمثلة التي نقدمها على أن كلمات القرآن تُفهم من خلال قياس بعضها على بعض ، ولا تفهم من خلال تصورات الناس عنها، والتي غالباً هي تصورات مرتبطة بالمجتمعات، متأثرة بثقافة كل مجتمع. 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع- عشر العصر

الفصل السادس- النبي

الفصل الأول - القرآن العظيم