الفصل الحادي عشر_ مسلماً حنيفاً
الفصل
الحادي عشر مسلماً حنيفاً
في هذا الفصل سوف نحاول فهم مدلول (المسلم) ومفهوم
(الإسلام) من خلال كتاب الله، ودون تحيز، محاولين فك التعارض وحل الإشكاليات التي
سببها المفهوم التاريخي للإسلام وللفظ (المسلم). دعونا نبدأ من الآية الشهيرة .
(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا
فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (سورة آل عمران:
آية 85).
تأويل هذه الآية الكريمة كان سبباً مباشراً في إغلاق باب
الرحمة الذي جاء فياضاً في كثير من مواضع كتاب الله. أول تأثير لتأويل هذه الآية
هو جعل أصحاب الأعراف فئة انقضت قبل نزول الرسالة الخاتمة، وليس لها علاقة بأي
فئات حالية على وجه الكرة الأرضية. هذا التأويل سبب إشكالات لا حصر لها، من أهمها:
ما ذنب أولئك الذين لم تصلهم المعرفة بشكل سليم، وحيل بينهم وبين الحقيقة لأي سبب
كان.
كتاب الله ليس فيه اختلاف، فلا يمكن أن يوجد تعارض بين
الآيات، وإنما أحياناً ضيق الأفق والتحيز يجعل آيات الكتاب متعارضة أو فيها
اختلاف. المبدأ السليم في فهم آيات الله هو الفهم الشامل، الذي يلغي هذا التعارض،
ويصل به إلى تصور عام يلغي هذا الاختلاف.
لفظ (الإسلام) مشتق من الجذر سلم، وأصله الصحة والعافية كما
جاء في قاموس اللغة. من خلال آيات الكتاب سنجد أن لفظ سلم جاء في مواضع عديدة،
نكتفي بموضع واحد لبيان مفهوم اللفظ، ثم نعرج على بعض الآيات للتأكد من تحقيق شروط
اللفظ في الآيات.
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ
قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي
الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (سورة
الأنفال: آية 43).
لفظ (سلّم) في الآية الكريمة يشير إلى تخليص شيء من شيء.
مفهوم الصحة والعافية الذي جاء في قاموس اللغة لا يخرج عن مفهوم التخلص، والبراءة
من الأمراض أو كل ما يؤثر في الصحة. من هنا يصبح مفهوم السلام هو التجرد والتخلص
من كل التجاذبات.
لذلك يمكننا القول: إن مفهوم الإسلام هو مفهوم الخلاص أو
البراءة أو عدم التحيز لشيء ما. هذا هو المفهوم العام للفظ (إسلام)، وبالتالي
المسلم هو الشخص غير المتحيز، أو غير المشرك ، أو الذي ليس لديه حكم مسبق على
الأشياء. الإسلام إطار عام، وليس تصنيفاً؛ لذلك يمكن فهم لفظ (الإسلام والمسلم) من
خلال الصفات والخصائص التي يتميز بها هذا اللفظ، ومن خلال السياق الذي جاء فيه
اللفظ.
إذا كان الحديث عن الإسلام لرب العالمين؛ فالمقصود هو إخلاص
الوجه لرب العالمين، والبراءة من كل ما يعكر صفو هذه العلاقة، مثل الشرك وأنواعه
المختلفة. لقد جاء هذا المعنى واضحاً في الآية التالية في سورة آل عمران.
(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ
الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ
سَرِيعُ الْحِسَابِ)(سورة آل عمران: آية 19).
الآية الكريمة تشرح مفهوم الإسلام باستفاضة، وهو التخلص من
الشرك وعدم التحيز، وهو القانون العام الذي ارتضاه الله للناس.
لذلك نجد أن مفهوم الإسلام في
الآية محل دراستنا هو البراءة والتخلص من الشركاء وعدم التحيز، وهو المرحلة التي
تسبق الإيمان بالله، وفي كثير من الأحيان الإسلام بصفة عامة يسبق التعرف على رب
العالمين كما سوف نرى. الإسلام هو المظلة الرئيسة، وهو المحطة الأولى، والتي دونها
لا يمكن للإنسان الدخول في الإيمان. كل تحيز يمنع صاحبه بشكل تلقائي من قبول
الحقيقة هو في الحقيقة نقيض الإسلام. مجرد الاستعداد الصادق
لقبول الحقيقة هو في حقيقته إسلام.
(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا
فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (سورة آل عمران:
آية 85).
هذه الآية الكريمة يتأكد معناها من خلال الآية التي سبقتها.
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ
أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ) (سورة آل عمران: آية 83).
الآية تتحدث عن أن كل من في السموات والأرض أسلم لله طوعاً
وكرهاً، وخارج هذه المعادلة هو الإنسان؛ لأن الحديث موجه له بصفة عامة كما هو ظاهر
في بداية الآية. لا شك أن من في السموات والأرض أسلم لله؛ لأنه يسير تبعاً لقوانين
منتظمة ليس فيها تحيز، و المخلوق الوحيد الذي يعرف التحيز هو الإنسان؛ بسبب حرية
الإرادة التي يمتلكها. لا يمكن لأحد أن يفهم (أسلم من في السموات والأرض) بالمفهوم
التاريخي، المحدد بالأركان الخمسة.
أسلمت الشمس تعني أنها تسير وفق قوانين منتظمة وليس لها أن
تقرر يومًا ما، أنها لن تشرق على قوم كافرين، أو أنها سوف تقلل من حرارتها بسبب
رأيها في بقعة جغرافية.
كل شيء أسلم لله أي
يؤدي وظيفته باحترافية دون تحيز لشيء معين
ودون وجهة نظره الخاصة أو أفكاره المسبقة.
دين الله الذي ارتضاه لعباده، والفطرة التي فطر الناس
عليها، هي البراءة والنقاء عند فهم الأشياء ومعرفتها وعملها، أو عدم التحيز. انظر
للطفل الصغير حديث الولادة، والذي يمثل قمة الإسلام. كل ما يجنيه الطفل في سنواته
الأولى يعتمد بالأساس على عدم التحيز؛ أي أنه يستقبل ما يلقى إليه، وليس لديه فكرة
مسبقة تجعله يرفض المعلومات المكتسبة. شيئاً فشيئاً يكبر الطفل، ويبدأ مبدأ التحيز
في الظهور، فيبدأ في رفض بعض الأشياء بناء على فكرة سابقة.
عندما يتم تطعيم الطفل بأيدلوجيات معينة، مهما كانت هذه
الأيدلوجيات، فهنا يتم غرس أول بذور التحيز في نفس الصغير. التعليم الجيد والبيئة
المعرفية الجيدة هي البيئة التي تساعد هذا الإنسان على عدم التحيز، والحكم على
الأفكار بشكل حيادي، وهذا هو مبدأ الإسلام الأساسي.
عندما جعل الفقهاء لفظ (الإسلام) في الآية الكريمة تصنيفاً،
بدلاً من كونه منهجاً أو طريقة سلوك وتصرف، لم يستطيعوا تفسير كثير من الآيات بشكل
منطقي وسليم، يتوافق مع مفهوم الإسلام كما جاء في القرآن. مثال هذه الآيات الآيتان
المذكورتان في سورتي البقرة والمائدة.
(إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَٱلَّذِينَ
هَادُوا وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ
ٱلْءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (سورة البقرة: آية 62).
(إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَٱلَّذِينَ هَادُوا
وَٱلصَّٰبِـُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ
وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (سورة
المائدة: آية 69).
كيف يمكن التوفيق بين الآيتين السابقتين والآية في سورة آل
عمران (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ
فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(سورة آل عمران: آية 85)..
لاحظ أن الذين أسلموا لم يدخلوا ضمن حدود هاتين الآيتين،
مما يدفعنا للقول أن الإسلام هو الإطار العام الذي تندرج تحته كل هذه الأنماط
الفكرية. سوف نأتي على بيان هذه الأنماط بالتفصيل في الفصول القادمة، ولكن هنا
دعونا نبحر قليلاً في فهم مدول الإسلام والمسلم.
بعض الباحثين عندما تعرضوا لهاتين الآيتين افترضوا أنهما
تتحدثان عن حالة ما قبل الإسلام. هذه الحجة أيضاً ضعيفة؛ لأن الآية تجمع الذين
آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين جميعاً، مما يدل على وجود كل هذه الأصناف
معاً في نفس الزمان.
قد يختطف أحدهم مفهوم الإسلام الذي قد بيناه في هذه الآيات،
حتى يقيم الحجة على أنه لا داعي لاعتناق الإسلام، ويمكن له أن يعتنق أي ملة.
هذه الطريقة المعوجَّة في التعامل مع المفاهيم، لا يقول بها
من يملك قلباً نقياً وعقلاً راجحاً، إننا نتحدث عن المظلة العامة، وهي عدم التحيز،
أو التجرد في معرفة الحقيقة، وكل عناد أو مكايدة من أي نوع أو غفلة تخرج صاحبها من
مفهوم الإسلام بالأساس.
الإسلام بمفهومه القرآني هو المحطة الرئيسة التي يجب أن
ينطلق منها الإنسان إلى المعرفة، دون تحيز أو تحامل، والتي سوف تقوده مباشرة إلى
الإيمان.
ورد في الآية الكريمة لفظ (يبتغ) (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ
الْإِسْلَامِ)، وهو اللفظ الذي له مدلول يفيد الطلب الشديد، ولم يأتِ الابتغاء في
كتاب الله محموداً، مما يدل على أنّ فيه تجاوزاً.
معنى أنّ الإنسان يبتغي غير الإسلام؛ أي يطلب بشدة، وفي شكل
من أشكال التجاوز، غير الإسلام؛ أي أنه يرفض التجرد بكل إصرار، ويصر على التحيز،
هذا الشخص هو المخاطب بأن الله لن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. عدم التحيز
هو المسالمة في أبهى صورها، والتحيز هو اعتداء على النفس أولاً، والذي يؤدي إلى
الاعتداء على الآخرين واحتقارهم.
الإسلام بمفهومه القرآني هو حالة سامية إلى أبعد حد، تهيِّئ
الإنسان للخضوع للحقيقة، ومن لا يملك هذه الميزة فقد خرج من مفهوم الإسلام القرآني.
من هنا يمكننا فهم مفهوم الأعراف، وهو الحالة الخاصة التي
بيناها سابقاً، إذ هذه الفئة لا تبتغي غير الإسلام، بل هي تقريباً لا تبتغي شيئاً
بالأساس، فهي فئة محايدة، ضعيفة التفاعل مع الأشياء.
في السطور التالية سوف نستعرض بعض آيات الكتاب، التي تشير
إلى مفهوم المسلمين بمفهومه الشامل؛ وهو عدم التحيز، والبراءة من الشرك، والإخلاص
في معرفة الحقيقة.
الآية الأولى: (رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ
كَانُواْ مُسْلِمِينَ) (سورة الحجر: آية 2).
الذين كفروا هم أهل جحود الحقيقة، والمستكبرون هم أهل
التحيز في أجلى صوره، وقد تمنوا لو كانوا مسلمين تحديداً، وهو الحد الأدنى الذي
يضمن لهم النجاة، ولم يقولوا مؤمنين أو مصلين أو متقين. تمنوا الحد الأدنى الذي
يؤهلهم لما بعده، وهو كونهم مسلمين؛ أي غير جاحدين أو مستكبرين أو متحيزين.
الآية الثانية: (وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا
آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ)(القصص: آية 53).
الآية الكريمة توضح أن القوم كانوا قبل أن تتلى عليهم آيات
الله مسلمين، وكونهم مسلمين قد أهّلهم لتلقي الآيات والإيمان بها. لا يمكن أن يكون
مفهوم الإسلام هنا هو المفهوم الذي حدده الفقهاء بالأركان والعبادات والتفصيلات؛
وإنما هو حالة استعداد لقبول الحق، ونبذ الباطل، والتجرد وعدم التحيز. فقد يكون
الإنسان مسلماً قبل التعرف على الله بشكل كامل، وهذا ما قلنا عنه هنا. الإسلام هو
أساس المعرفة السليمة، وهو أساس الوصول إلى الله.
أنبياء الله كانوا جميعاً مسلمين، وهذا ما أهلهم لتلقي
الرسالة. المتابعة الجيدة لآيات القرآن سوف تخبرنا أن نبي الله إبراهيم كان مسلماً
قبل أن يصل إلى اليقين؛ إذ كان أبعد ما يكون عن التحيز. نبينا الكريم كذلك، تخبرنا
النصوص التاريخية أنه كان مفارقاً لقومه فيما يفعلون، باحثاً عن الحقيقة، وهذا هو
الإسلام.
الآية الثالثة: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا
مُسْلِمِينَ) (سورة الزخرف: آية 69).
الآية تتوافق تماماً مع كون المسلم هو الشخص الباحث عن
المعرفة، غير المتحيز أو المشرك، فهم آمنوا بالآيات وكانوا قبل الإيمان بالآيات
مسلمين. كونهم مسلمين بمعنى غير متحيزين جعلهم مستعدين لقبول الحقيقة. لا يمكن
لكافر بمعنى جاحد أو مشرك؛ أي لديه حسابات أخرى أن يؤمن بالآيات بسهولة؛ بسبب
تحيزه الواضح، هذا الإيمان لا يتأتى إلا للمسلمين الذين يبتغون المعرفة والحق،
وغير مؤدلجين بالمعنى السلبي.
الآية الرابعة: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا
ٱدْخُلُوا فِى ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ
إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُّبِينٌ) (سورة البقرة: آية 208).
الخطاب هنا للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم، فما معنى ذلك؟
من المعروف أن الإسلام يسبق الإيمان، أو الإسلام هو الذي
يؤهل الفرد لتقبل الإيمان؛ إذ يستطيع من خلال عدم تحيزه قبول الحقائق بشكل منصف،
والتعامل معها. هذه الآية تشير إلى أن عملية الإسلام عملية مستمرة؛ لأن عملية
تكشُّف الحقائق مستمرة إلى يوم الدين، فلا يغر أحدكم أنه وصل إلى الحقيقة ويركن
إلى ذلك. لا بد للإنسان أن يكون مسلماً طول الوقت في قبول الحق، والإذعان إليه،
حتى لو وصل إلى درجة الإيمان واليقين.
الآية التالية لهذه الآية تؤكد ما ذهبنا إليه (فَإِن
زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (سورة البقرة: آية 209) .
هذه الآية تشير إلى احتمالية الزلل، والزلل لا يأتي إلا إن
كان هناك تفاعل مستمر وتعرض للاختبارات بشكل متتابع التي تتطلب فرداً مسلماً باستمرار يستطيع
التعامل مع الموقف واستخلاص المعرفة والتعامل معها وليس رفضها تحت بنود وذرائع
مختلفة. كثيرة تلك الآيات التي طلب فيها الأنبياء من ربهم أن يقبضهم مسلمين، وكذلك
طلب كثير من الصالحين.
ألم يكن الأفضل أن يطلبوا من الله أن يقبضهم مؤمنين ؟
التعبير الأدق هو مسلمين أي في حركة دائمة من الحيادية التي تجعلهم متقبلين الحقائق رافضين
لكل ضلال دون تحيز بأي شكل. عملية الإسلام
عملية مستمرة حتى مع رسوخ الإيمان. الإسلام ليس لفظ يقال أو شهادة تمنح بل هو تصرف
وسلوك مستمر في التعامل مع كل المتغيرات حول الإنسان.
(وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلَّآ أَنْ
ءَامَنَّا بِـَٔايَٰتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (سورة الأعراف: آية 126).
أن يتوفى الله الإنسان مسلماً بالمفهوم القرآني؛ أي غير
متحيز لأي موقف كان، وهو حسن الخاتمة الحقيقي؛ إذ لو مات الإنسان وهو متحيز لأمر
ما فقد ظلم نفسه، فما بالك لو مات متحيزاً إلى غير الحق، و متعصباً ضده دون أن
يعلم؟
الآية الخامسة: (وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ
ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوٓا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ)(سورة يونس:
آية 84).
في هذه الآية يطلب نبي الله موسى من قومه التوكل على الله
إن كانوا مسلمين، وهذا المفهوم يؤكد أن مفهوم الإسلام والمسلم أشمل وأعم بكثير مما
نعتقد. فها هو نبي الله موسى يطلب من قومه أن يكونوا دائماً مسلمين، أو متقبلين
للحقيقة دون تحيز. آفة كل أمر هو التحيز، وفساد كل فكرة التحيز؛ لأنه يعمي أعين
أصحابها عن الحقائق، ويجعلهم يسيرون خلف أهوائهم. إن كان نبي الله موسى صلوات ربي
عليه طلب من قومه أن يكونوا مسلمين، فكذلك فعل نبي الله عيسى صلوات ربي عليه.
(فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ
ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِىٓ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ
أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(سورة آل
عمران: آية 52).
شهدوا بأنهم مسلمون، هو الاستعداد لقبول الحق دون أي أفكار
مسبقة، ودون أي اغراءات.
الآية السادسة: (وَجَٰوَزْنَا بِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ
ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُۥ
بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ
لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِىٓ ءَامَنَتْ بِهِۦ
بَنُوٓا إِسْرَٰٓءِيلَ وَأَنَا مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ) (سورة يونس: آية 90).
لم يكن يصح لفرعون أن يقول: (أنا من المؤمنين)؛ إذ الإيمان
يأتي بعد الإسلام، لذلك قال فرعون (أنا من المسلمين)؛ أي من الذين سوف يقبلون الحق
بإنصاف ودون تحيز.
من أين يأتي التحيز ضد الحق؟ التحيز يأتي من تعارض المصالح،
أو فقد السلطة، أو استكباراً كما فعل إبليس. فرعون لم يكن يقبل الحق لهذه الأسباب؛
لأن قبول الحق سوف يسلبه سلطته، ويجعله في مرتبة أقل من موسى، وهذا ما لم يقبله
فرعون أبداً. لم يكن ينقص فرعون إلا أن يكون فعلاً من المسلمين؛ فقد جاءته البينات
في أكثر من موقف، وأشهرها موقف السحرة، ولكنه تحيز ضد الحقيقة واستكبر، ولم ينتهج
نهج المسلم. لذلك عندما قال إنني من المسلمين لم يقبل الله منه ذلك؛ لأنه لم يكن
أبداً من المسلمين، بل كان أكبر المستكبرين.
الآية السابعة: (قُلْ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ تَعَالَوْا إِلَىٰ
كَلِمَةٍ سَوَآءٍۭ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ
شَيْـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن
تَوَلَّوْا فَقُولُوا ٱشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (سورة آل عمران: آية 64) .
الآية بكل بساطة تطلب أن يكون الذين هم من أهل الكتاب
مسلمين؛ لأن الإسلام مدعاة لقبول الحق. إذا تجرد القوم لطلب الحقيقة فهذا هو الإسلام،
أما إذا تحيز القوم فيحل الظلم و التكذيب والاستكبار.
طلب الله منا عند مجادلة أهل الكتاب أن نؤكد على كوننا
مسلمين، لأن الإنسان أحوج ما يكون لمنهج الإسلام عند المجادلة. قبول الحق بحيادية
تامة يتطلب أن يكون الإنسان في أعلى درجات الإسلام من التجرد وعدم التحيز.
(وَلَا تُجَٰدِلُوٓا أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ
إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوٓا ءَامَنَّا
بِٱلَّذِىٓ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ
وَٰحِدٌ وَنَحْنُ لَهُۥ
مُسْلِمُونَ) (سورة العنكبوت: آية 46).
أهل الكتاب هنا تعني أهل المعرفة وليس أهل العلم كما بينا في أكثر من موضع، وأهل المعرفة غالبًا متحيزون لما يعرفوا لذلك
هم صنف بعيد عن فكرة الإسلام بسبب هذا التحيز. تذكيرهم بأن يكونوا مسلمين في قبول
الحقيقة واجب ولكن يبدو أنهم لن يفهموا وسوف يظلوا هكذا متحيزين.
الآية الثامنة: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا
ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيّــِۦنَ
أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِٱلْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) (سورة آل
عمران: آية 80).
هذه الآية الكريمة توضح وتؤكد مفهوم المسلمين؛ إذ إن الله
سبحانه يحذر من اتخاذ الملائكة أو الأنبياء أرباباً؛ لأنه يتعارض مع كون الإنسان
مسلماً. اتخاذ الرب يعني الخضوع لسلطة حتى
وإن كانت بحجة الرعاية، والإسلام حالة من التجرد، لا ينبغي لها ولا يمكن أن تجتمع
مع السلطة تحت أي بند.
كون الإنسان مسلماً يتطلب مناخاً من الحرية، لكي يتمكن من
اختبار الأشياء وتقييمها، دون أي تدخل قد يفسد عملية الإسلام.
الآية التاسعة: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱتَّقُوا
ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ
وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (سورة آل عمران: آية 102).
هذه الآية الكريمة أيضاً تؤكد على مفهوم استمرارية الإسلام
بوصفه منهج حياة. منهج حياة يحمل الإنصاف التام في التعامل مع الأشياء، والتجرد
وعدم الرضوخ لهوى النفس أو الرضوخ لأي مؤثر.
الآية العاشرة: (وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِى ٱلْعُمْىِ عَن
ضَلَٰلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِـَٔايَٰتِنَا فَهُم
مُّسْلِمُونَ) (سورة النمل: آية 81).
لا شك أن المؤهَّلين لسماع آيات الله هم المسلمون؛ بمعنى
الذين ليس لديهم تحيز ضد هذه الآيات، أو ضد قبول الحق.
الآية الحادية عشر: (قُلْ نَزَّلَهُۥ
رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَهُدًى
وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ) (سورة النحل: آية 102).
تنزيل الكتاب لتثبيت الذين آمنوا، وهم الذين وصلوا واطمأنت
قلوبهم للحق بالفعل ، ثم هدى وبشرى للمسلمين الذين يتعاملون مع ما حولهم بحيادية
دون تحيز ولم يصلوا للإيمان بعد. عندما
يسمع المسلم آيات الله، وهو بالفعل غير متحيز، ومستعد لقبول الحقيقة تحت أي ظرف،
سوف تكون الآيات بالنسبة له هدى؛ لأنها سوف تمنحه ثقة أكبر، وتدفعه خطوة نحو
الإيمان. الآيات تصبح بشرى بمعنى دلائل وعلامات، يستطيع من خلالها المسلم التقدم
خطوة للأمام.
المفهوم التقليدي للإسلام والمسلمين تعارض بشكل كبير مع
كثير من الآيات في كتاب الله كما رأينا، وكيف أن الإسلام منهج يؤدي إلى الإيمان،
وأن الإنسان لا بد له كي يقبل الحقيقة أن يكون مسلمًا. كل أهل الأرض سوف تأتي عليهم لحظات يكونون فيها
مسلمين، ولكن استمرارية عملية الإسلام لا يتمتع بها الكثير من أهل الأرض. حالة
البقاء في منطقة الإنصاف وعدم التحيز، والاستعداد لقبول الحق، للأسف لا يتمتع بها
إلا القليل من الناس.
لذلك كان دعاء كل الصالحين، وأمنية الأنبياء أنفسهم؛ أن
يتوفاهم الله مسلمين. للأسف الشديد محتكري الحديث باسم الله هو أكبر عائق أمام
فكرة الإسلام لأنه بكل ثقة يدفعون الناس
دفعا نحو التحيز والإنغلاق. لو أنصف هؤلاء وقرأوا كتاب الله، لكرسوا حياتهم في دفع
الناس للتفكير، وتحفيزهم على الإنصاف في التعاطي مع كل ما هو متاح من معلومات. لا
يمكن للإنسان المحايد الحقيقي في حالة
التعامل مع المعلومات والمعرفة أن يضل ولكن المتحيز يضل ويرتكب كل الموبقات
باسم النيات الطيبة.
الآية الثانية عشر: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن
دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ)
(سورة فصلت: آية 33).
هذه الآية الكريمة تحدثت في شقها الأول عن مؤمن؛ إذ وُصف
هذا المؤمن أنه يدعو إلى الله ويعمل صالحاً، وهذا هو ذروة الإيمان، ومع ذلك تشير
الآية إلى أن الأكمل والأفضل هو كون الإنسان من المسلمين، وإعلاؤه لذلك. رغم أنه
ممن يدعون إلى الله ويعملون الصالحات، فلا بد أن يداوم على كونه من المسلمين في
تقبل الحقائق وعدم التحيز.
صفة المسلم ليست وراثية، وليست وصفاً لأتباع طريقة معينة،
وإنما وصف لحال تعامل الإنسان مع المعرفة في محيطه، أياً كان نوع هذه المعرفة. لا
بد أن يكون تعامل الإنسان مع المعرفة بنوع من الإخلاص والتجرد، والرغبة الحقيقية في
الوصول للحقيقة، حتى ينطبق عليه مسمى (مسلم).
أما الذين تناولوا المعتقدات كما هي، أو الأفكار كما هي، فهؤلاء لا ينطبق
عليهم مفهوم المسلم حتى يصلوا إلى مرحلة التجرد هذه. أنا هنا أتحدث عن معنى اللفظ،
وصفة المسمى وخصائصه كما يشير إليه كتاب الله، أما المدلول السياسي وما يترتب عليه
من فقه فهذا شأن أخر، يسأل عنه مناصريه ومؤيديه.
يمكننا أن نقول أن المسلم هو المحايد المعرفي الإيجابي، إذ
يدور مع الحقيقة ويقبلها دون أدنى تحيز. سوف يكتمل مفهوم المسلم بتحليل مفهوم
الحنيف الذي جاء ملازماً للفظ مسلم في كتاب الله في كثير من المواضع.
مدلول لفظ حنيف:
(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ
نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) (سورة آل عمران: آية 67).
لا شك أن اليهودية والنصرانية والإسلام بمعناه الفقهي جاء
بعد نبي الله إبراهيم صلوات ربي عليه، ولا يمكن أن يصف القرآن مسميات زائدة كهذه،
ولكنها وصفٌ لحالة الإنسان المعرفية. لم يكن يهودياً؛ لا تعني أنه من أتباع موسى
أو من اليهود بوصفهم المتعارف عليه، وإنما لم يكن يهودي الفكر، ولم يكن نصرانياً
بشكل منهجي (وسوف نأتي على لفظ اليهود والنصارى في الفصول القادمة). كان نبي الله
إبراهيم حنيفًا مسلمًا.
إن كان لفظ (مسلم) يعني الشخص غير المتحيز أو المنصف في
التعامل مع الفيض المعرفي؛ فإن لفظ (حنيف) سوف يكمل الصورة.
في قاموس اللغة والمعاجم اللغوية جاء لفظ (حنيف) على أنه
ميل أو اعوجاج، وقيل أن معنى حنيفاً في وصف نبي الله إبراهيم تعني مائلاً إلى
الدين المستقيم. لا بد من ملاحظ أن الدين المستقيم أو الطريق المستقيم لا يحتاج
إلى الميل إليه، وإنما يحتاج إلى التوجه إليه بكل الجوارح، وهذا بالفعل ما حدث مع
نبي الله إبراهيم، الذي تخلص من الشرك، وتوجه بكل جوارحه لاستكشاف الحقيقة، وليس
مجرد ميل إلى الحقيقة أو الطريق المستقيم. لفظ (حنيف) وتفسيره على أنه ميل -لا شك-
يكتنفه كثير من الغموض؛ لأن الميل كما نفهم هو حالة تُناقض الاستقامة.
كلمة (حنيف) من الأمثلة التي نرى فيها فشل المعجم الذريع في
تحديد هويتها، بينما القرآن أشار إليها وحدد خواصها، ولكنها تحتاج لشيء من الدارسة
والتريث في فهم معناها. بالطبع لا يجرؤ أحد على نقد المعجم، وخصوصاً القديم منه،
ولكن يتجرأ الكثيرون على توصيف التعبيرات القرآنية تبعاً للمعجم، رغم وضوح حالة
الكلمة في القرآن.
لحسن الحظ أن الكلمات التي فشل المعجم في تحديد هويتها ليست
كثيرة ولله الحمد، وفي الوقت نفسه نجد القرآن قد أحاط بها، وأعطى وصفاً لها، يمكن
أن يهدي الدارسين لإعادة صياغتها، وتنقيتها من الشوائب التي لحقت بها.
لو استعنا بالجذر الثنائي لكلمة (حنيف) وهو (حن) وتعني
الإشفاق والرقة، ثم أضفنا صوت الفاء وما فيه من اندفاع. يتبين لنا أن الكلمة تعني
ميلاً، ولكن ليس اعوجاجاً؛ وإنما ميلٌ للتطلع. لو حاولنا فهم الكلمة من خلال
الأبعاد والاتجاهات، فإننا لا نجد كلمة (حنيف) تعني مائلاً لليمين أو لليسار؛ بل
مائلاً للأمام، وهي هنا تصف حالة لا مادية يمكن أن نصفها بالتطلع.
فيمكننا القول أن لفظ (حنيف)
تعنى متطلعاً لشيء ما، وليس مائلاً أو معوجاً، وهو اللفظ المتوافق مع حالة نبي
الله إبراهيم وشخصيته الفريدة. جاء لفظ (حنيف) في القرآن في عشرة مواضع، ثمانية
منها متعلقة بنبي الله إبراهيم صلوات ربي عليه.
الوصف يكاد ينطق ويقول إنني من ضمن صفات نبي الله إبراهيم،
الزاخر بها القرآن، ولكن لأن العرب سموا الأحنف هو من فيه اعوجاج في رجليه، أو
الذي يمشي مائلاً، لم يستطيعوا فهم الكلمة، وقالوا عنها مائلاً أو معوجاً، وهذا
خطأ يمكن تفهمه؛ بسبب اعتمادهم أن العرب هم أصل اللغة، بينما عندما وضعنا القرآن
في المقدمة وجعلناه معياراً للغة استطعنا إدراك أبعاد الكلمة. الصفة الرئيسة لنبي
الله إبراهيم هي عدم التحيز لشيء ما، والبحث الدائم عن الحقيقة، والتطلع بشغف إلى
معرفة الخالق، وكنا قد بينا هذه المشاهد بشكل مفصل في الجزء الثالث من كتاب تلك
الأسباب. الآيات التالية تشير إلى هذا المعنى، ويزيده وضوحاً سياق الآيات.
الآية الأولى: (قَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى
تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) (سورة البقرة: آية 135).
لفظ (ملة) أصله الميم واللام والحرف المعتل كما جاء في
قاموس اللغة، وتعني الزَّمن الطّويل. وأقامَ ملِيَّاً؛ أي دهراً طويلاً.
وتَملَّيْتُ الشّيءَ؛ إذا أقامَ معك زماناً طويلاً. من هنا يصبح ملة إبراهيم الشيء
الملازم إبراهيم، أو الشيء المميز لإبراهيم، وتعني كذلك الطريقة المتبعة من قبل إبراهيم،
أو منهج إبراهيم. فماذا كان إبراهيم؟ كان حنيفاً، وما كان من المشركين.
الإشراك هو الوقوع في التجاذبات والميل. فيصبح لفظ (حنيفاً)
هو خلاف الشرك هنا، وهو التخلص من كل هذه التجاذبات، والتطلع إلى النور القادم.
لفظ (حنيف) هنا يتوافق مع ما توصلنا إليه، من أن اللفظ يعني التطلع إلى شيء ما،
وليس الميل بمعناه السلبي.
الآية الثانية: (قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (سورة آل عمران: آية 95).
الملاحظ في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى لم يقل اتبعوا
إبراهيم أو كلام الله، ولكن طلب من الناس اتباع ملة إبراهيم؛ أي منهج إبراهيم، والتي فصلناها، وهي تطلعه الدائم
لمعرفة الحقيقة، وتبرؤه من كل مظاهر التحيز،. لم يكن إبراهيم لديه فكرة مسبقة يريد
أن يثبتها، ولكنه كان سائراً خلف الحقيقة، ولما أعياه البحث هداه الله، كما قص
علينا القرآن قصته. إن منهج إبراهيم صلوات ربي عليه هو منهج جميع الأنبياء، وهو
منهج المسلم الحنيف. لو أنصف الناس لكان قولهم اتبعوا ملة نبينا الكريم؛ أي منهجه
الذي تميز به جميع الأنبياء. من هنا نستطيع وبكل ثقة أن نقول أن الإنسان مطالب
بشيئين أساسيين، هما: الرسالة نصاً ولفظاً من الله، وملة الأنبياء أو سنة الأنبياء
أو منهج الأنبياء وهو الإسلام الحنيف، وليس تصرفات الأنبياء وتفاعلهم مع الرسالة.
لو طبقنا معنى (حنيفاً) في
باقي الآيات، وهو التطلع للمعرفة والسعي خلفها، سنجد أن سياق الآيات انتظم بشكل
رائع.
الآية الثالثة: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ
اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) (سورة النساء: آية 125).
جاء لفظ (حنيفاً) في هذه الآية بعد أن وجه الإنسان وجهه إلى
الله وهو مسلم؛ بمعنى غير متحيز، وليس لديه أفكار يريد أن يثبت صحتها ويدافع عنها،
بل هو في إنصاف تام في تقبل المعرفة وفرزها. لفظ (حنيف) أضاف الخطوة التالية وهي
التطلع الدائم للمعرفة وللحقيقة. كامل المنهج الذي ارتضاه الله لعباده هو عدم
التحيز، مع التطلع للمعرفة، وهذا هو معنى (مسلماً حنيفاً).
الآية الرابعة: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (سورة
الأنعام: آية 79).
هذه الآية أيضا تشبه الآية السابقة، ولكن لم يأتِ فيها لفظ
الله، هذه الآية الكريمة إلى الناس وكل الذين لديهم آلهة بأسماء مختلفة، لكنهم
تخلصوا من كل هذا، وتوجهوا إلى الذي فطر السموات والأرض بشكل حنيف؛ أي متطلعين إلى
الحقيقة دون أي فكرة مسبقة. كل آية في كتاب الله تصف لنا جانباً من الصورة، تنقلنا
إلى الرحابة والرحمة الربانية التي تسع كل الناس، بشرط الإخلاص في السعي،
والاجتهاد والتطلع إلى معرفة الحقيقة.
كأنَّ هذه الآية تقيم الحجة على الذين أعطوا أسماء مختلفة
للخالق، وتخبرهم إن كنتم ورثتم تصوراتكم الذهنية عن الإله، و أسميتموه بأي اسم كان
؛ فمن تمام عدم التحيز هو التوجه لفاطر
السموات والأرض بغض النظر عن الإسم الذي ورثتموه. إن كان الناس مختلفين في اسم
الإله فغالبيتهم العظمى وحتى الملحدين منهم يقولون بأن هناك سبباً لخلق السموات
والأرض؛ لذا طلبت هذه الآية من كل هؤلاء عدم التحيز، والتطلع إلى المعرفة، لكي
يصلوا إلى الحقيقة.
لم تطلب الآية غير ذلك، وهذا المنهج كفيل أن يأخذ بيد
الإنسان إلى الحقيقة إن أخلص ولم يتحيز. أما الذين لديهم درجة من التحيز وغير
قادرين على الإفلات منها، فلا نملك لهم من الله شيئاً. أتمنى أن يصل مفهوم المسلم
الحنيف إلى كل إنسان على هذه الأرض؛ لنكون من الذين يبلغون آيات الله للناس، حتى
إذا قامت عليهم الحجة لم يبق لهم إلا الاجتهاد في الوصول إلى الحقيقة ومن يبتغ غير
هذا المنهج الذي أرشد إليه ربنا، والذي أيدته كل المراكز البحثية والمؤسسات
العلمية وجعلته ذروة سنام البحث السليم؛ فقد اختار بكامل إرادته النكوص عن الحق.
ليس مطلوبًا من الإنسان إلا أن يكون محايدًا إذا طرقت بابه
معرفة ما وهذا هو الحد الأدنى الذي أشار إليه ربنا. أما من أراد الاستزادة فعليه
أن يكون حنيفًا أي متطلعاً ومتشوقًا للمعرفة.
كل اخيار الأرض وأهل العلم الحقيقيين متفقين على ذلك تمامًا ولا يشذ عن ذلك
إلا الجاهلين.
أجلُّ تبليغ وأعظمه هو تبليغ هذا المنهج؛ ليعلم الناس أنهم
مطالبون بالمعرفة والوصول إلى الحقيقة. دعوا الناس وكتاب الله والمنهج الرباني،
واجعلوا فرقاً بين كلام رب العالمين و تفاعل البشر مع هذا الكلام، سواء كانوا
أنبياء أم غيرهم؛ رغبة إلى الله. إن الذين خلطوا كلام الله بالتاريخ، وجعلوا
المنهج الرباني العظيم تصنيفاً طائفياً سيجزون ما يفعلون.
فكرة الإسلام والحنفية كما جاءت في القرآن هي فكرة من أعظم
الأفكار، وهي شرف لكل متعلم أن يوصف بالحيادية والتطلع للمعرفة. هي فكرة يطلبها كل
الناس ولا يستنكف عنها إلى الجاهلون. إنه فكرة تتكامل تمامًا مع مفهوم الحرية
وتتقاطع مع العنصرية والقبيلة والطائفة وكل أنواع التمييز. فكرة الإسلام لا يمكن
أن تنبت في بيئة قاهرة أو مستبدة. لكي يكون الإنسان محايد بشكل كامل لابد أن يكون
آمن على نفسه لا يهدده أي مؤثر يجعله يحيد ويتحيز حفاظًا على حياته أو حفاظًا على
مكتسباته أو طلبًا للحياة الكريمة.
اختلاط المفاهيم أساء لدين الله، ومنع الناس من الوصول إلى
رسالة رب العالمين، حتى إن مفاهيم مثل الجهاد فهمت على غير مرادها المقصود في كتاب
الله.
حقيقة الجهاد، هو ليس إجبار الناس على اعتناق فكرة، حتى لو
كانت الوحدانية، وقول لا إله إلا الله. الجهاد هو إعطاء الناس الحرية الكاملة في
أن يكونوا مسلمين بالمعنى القرآني، وهو غير المتحيز، عن طريق منحه حرية التفكير،
وتوفير المناخ الآمن الذي يجعله لا يخشى شيئاً، وبالطبع توفير بيئة معرفية قائمة
على التفكير والنقد، وليس التلقين.
كذلك توفير مصادر المعرفة، وتشجيعه على التطلع والبحث.
الجهاد هو رفض كل أمر من شأنه أن يعيق الإنسان عن كونه مسلماً حنيفاً. الأمم التي
تجبر الناس على معرفة معينة هي أمم ظالمة، والمجتمعات التي توجه الناس يجب
مجاهدتها، وبيان ظلمها.
الأمة المسلمة هي الأمة التي تتيح للإنسان أن يكون فيها
مسلماً حنيفاً، بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، وهذه الحرية هي الكفيلة وحدها بجعل
الناس مؤمنين، وليس إجبارهم. يجب أن نفرق بين المنهج القرآني وإدارة الدولة، ولا
يجب الخلط بينهما. الفقه هو نوع من القوانين التي تسيّر الدولة في وقت معين، فلا
يجب أن يتم اعتبار الفقه هو الدين؛ إذ يتم التعاطي مع القرآن وكلمات الله بناء على
الرؤية الفقهية لبعض المذاهب. إنه وضع مقلوب، والصحيح أن تتم صياغة رؤية للمجتمع
في كل فترة، بناء على قراءة كتاب الله، وليس العكس كما يحدث الآن.
هذا الكسل والاستسهال عواقبه وخيمة، والله سبحانه وتعالى
أرشد إلى ذلك، وقال إن الله ينصر من ينصره.
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن
تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (سورة محمد: آية 7).
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا
إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ) (سورة الروم: آية 47).
تصدير فكر أن الله أمر المسلمين بنشر دينه بالطريقة التي
تربينا عليها، و قرأناها في كتب القدماء، هي فكرة في غاية الخطورة، ولا تمت للمنهج
القرآني بصلة، وإنما كانت اجتهادات بعض المفسرين في ظل أوضاع مجتمعية مختلفة،
وظروف سياسية غاية في التعقيد. نحن مطالبون بنشر وتبليغ المنهج الذي جاء في كتاب
الله، وأن نصف للناس معنى المسلم الحنيف، وكل من يقصر في ذلك فقد احتمل إثماً
مبيناً، وكلٌّ حسب قدراته. لدينا عمل شاق وطويل، والغفلة عنه أو الإعراض أو إيجاد
المبررات قد ولى وقتها.
ها هي الحجة، وها هي الأدلة، قدمنا الدليل تلو الدليل، ولم
يبق إلا اختبار هذه المعرفة، وأن يسلك الإنسان سلوك المسلم الحنيف معها، حتى يتبين
له الحق، فإذا تبين الحق دعا إلى الله، وعمل صالحاً، وقال إنني من المسلمين.
الآية الخامسة: (ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ
مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ) (سورة النحل: آية
123).
في هذه الآية سنجد أن الله يخبرنا أنه أوحى إلى نبيه أن
يتبع ملة إبراهيم حنيفاً، ومن المعروف أنه لم تكن هناك تعليمات أو كتب تعود لعصر
نبي الله إبراهيم. الآية توضح تماماً ما هي ملة إبراهيم؛ وهي الحنفية، ومعناها
التطلع للمعرفة، أضف إليها كونه من المسلمين. هذه هي سنة نبينا، ومنهجه الذي يجب
أن نتبعه، ومن رغب عن هذا المنهج فقد سفه نفسه. لقد جاءت في كتاب الله صراحة دون
مواربة، أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه.
(وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ
إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ
فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِين) (سورة البقرة: آية 130).
كل هذا الكم من الإشارات الربانية، والآيات البينات، التي
تدعو الناس للتمسك بملة إبراهيم، ثم فَسرتْ ماهي ملة إبراهيم، بل وأشارت أن نبينا
الكريم نفسه اتبع هذه الملة؛ إذ إنها المنهج السليم في التعامل مع المعرفة،
والوصول للحقائق. ومع كل ذلك تم تحريف كل هذه المعاني العظيمة، وصرنا إلى الحالة
التي لا تخفى على أحد. ما الذي يمنع الناس من إعادة النظر ومحاولة الفهم، مستخدمين
هذا المنهج العظيم نفسه؟
هذا المنهج لن يستوعبه ويدرك عظمته وفاعليته إلا عقول أنعم
الله عليها بالإنصاف.
الآية السادسة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا
فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
(سورة الروم: الآية 30).
أقم وجهك للدين؛ تعني استقم للقوانين التي وضعها الله. حنيفاً؛
أي متطلعاً للمعرفة بشغف مستمر. فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ تعود على حنيفاً؛
أي أنّ كون الإنسان حنيفاًّ من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهذه الحقيقة
تؤكدها جميع المشاهدات اليومية.
كون الإنسان غير متحيز فهذه طبيعته الأولية، ولكن تتغير هذه
الطبيعة بمرور الوقت، وكون الإنسان حنيفاً؛ أي متطلعاً لأن يعرف هي فطرة وغريزة
داخلية، وقد تنحرف هذه الفطرة قليلاً أو يصيبها الصدأ بسبب بعض الظروف المجتمعية،
ولكنها تظل سمة أساسية من سمات الإنسان. ما علينا إلا أن نوفر له حرية تداول
المعلومات، ونعلّمه قدر المستطاع طريق التفكير لا التلقين، ونشرح له المنهج الإلهي
العظيم، ثم ننتظر النتائج.
تنزيه كلام الله عن كل مصدر يتداخل معه، والتأكيد على
أصالته وتأسيسه، سوف يحل جميع الإشكاليات التي يثيرها المشككون في كتاب الله.
الإصرار على عدم سماع صوت آيات الله، والتحيز لما نعرف يضر القائلين بذلك، وينشر
الضلال ويُشَرْعِنُه . العالم المتقدم كله أدرك اليوم مفهوم المسلم الحنيف، غير
أنه يستخدم ألفاظاً أخرى لتوصيف هذه المفاهيم، وأصبح مفهوم المسلم لدى الكثيرين هو
الشخص المتحفظ، وهو مفهوم على النقيض من مفهوم المسلم كما جاء في القرآن.
بالنهاية دعونا نعرج على عبارة بلاد الإسلام وبلاد الكفر
الذي يسيطر على عقول الكثيرين، و تم استقاؤها من تصورات الناس في عصور سابقة.
بلاد الكفر وبلاد المسلمين
لا يلزمني هنا شرح المفهوم التقليدي لبلاد الكفر وبلاد
الإسلام؛ لأن هذا المفهوم معروف للجميع تقريباً، وهو تصنيف للبلاد التي يدين
أصحابها بدين الله، حسب فهمهم النابع من القرآن وروايات وتفسيرات الفقهاء. أستطيع
أن أتفهم هذا المفهوم للحاجة السياسية، والشؤون الإدارية، ولكنه لم يتلفت أبداً
لمفهوم الإسلام كما جاء في القرآن.
رغم أن مصطلح بلاد الكفر وبلاد الإسلام ليس له وجود في كتاب
الله، وإنما هو اصطلاح لتسهيل حركة الناس في أزمنة محددة، إلا أننا نستطيع أن نقول
وبكل ثقة أن البلاد التي ينص دستورها على حماية حرية الفرد في اعتناق ما يرغب،
وإتاحة وصوله للمعلومات، وعدم إجبار أحد على فعل ما لا يرغب في فعله، فهو دستور أقرب
لمفهوم الإسلام.
بينما أي دستور يجبر الإنسان على اعتناق اعتقاد معين مهما
كان، أو يجبر الناس على فكرة بعينها، ويعاقب مخالفيها، فهو دستور ظالم، لا
يمت لفكرة الإسلام ومخالف له.
الذين أنعم الله عليهم بنعمة العقل ونعمة الإسلام الحنيف
يجب ألا يصمتوا أمام جموع العامة التي استقت اعتقاداتها بالوراثة، ولم تبذل جهداً
في اختبار ما ورثته، ولا تعرف بالأساس معنى الإسلام والحنفية. تداول المفاهيم
السليمة سيغلق الباب أمام أصحاب الهوى والمشككين، الذين يقولون في كتاب الله ما لا
يعلمون. الفضاء المعلوماتي مليء بالخرافات والتجديف على حد سواء، والكل يحاول
إيجاد حلول حسب رؤيته، فلا منهج متبع، ولا تجرد في فهم الحقيقة؛ وإنما خيالات
وأماني. لذلك كونوا مسلمين حنفاء لله وقولوا للناس حسناً.
نختم هذا الفصل بتوضيح الفرق بين العامي والمثقف، لأن الكل
يدعي التثقف، والجميع يهرب من وصف العامي. بالعامية.
العامي والمثقف
عندما يتم عرض مسألة ما أمام الجموع، فإن المثقف هو من يبحث
عن الدليل، ويطلب البراهين الموافقة للمفاهيم العقلية، بغض النظر عن القائل وما هي
مكانته التاريخية.
المثقف يستطيع بسهولة التفريق بين الدليل والرأي، ولذلك
الميزان لديه معتدل.
بينما العامي لا يستطيع فعل ذلك؛ فمهما واجهته بالأدلة تجده
يهرب ويحتمي بأقوال الآخرين، ويعتقد أن مجرد قول فلان هو في حد ذاته دليل.
العامي يختلط الأمر لديه بين الرأي والدليل، ولا يستطيع وزن
أمر إلا من خلال النظر إلى قائله.
المثقف يطبق مفهوم الإسلام بحذافيره، فلا تحيزَ لديه،
والخضوع للدليل والبرهان هو الفيصل.
العامي لا يمت لمفهوم الإسلام بصلة؛ بسبب تحيزه المعرفي،
والذي –للأسف- لا يستطيع المسكين اكتشافه، إلا من خلال بذل مجهود كبير للخروج من
القوالب التي لا يستطيع التفكير إلا من خلالها.
منهاج التعليم القائم على التفكير يساهم في صنع المثقف،
والتعليم القائم على التلقين يصنع العامة، ويعزز ثقتهم المزيفة.
لم يتبق لنا في هذا الفصل إلا مفهوم الإيمان، والذي سوف
نعرج عليه من خلال سطور قليلة.
مفهوم الإيمان
من خلال جذر الكلمة (أمن)، ومن خلال تتبع هذا الجذر في كتاب
الله، سنجد أن مفهوم الإيمان هو الاستقرار والاطمئنان لشيء ما.
لكي يستقر الإنسان لمعرفة ما أو فكرة لا بد أن يسبق هذا
الإيمان إسلام؛ وهو عدم التحيز، ثم الحنفية؛ وهي تطلع للمعرفة وما يتبعها من بحث.
دون الإسلام ثم الحنفية لا يمكن للإنسان أن يصل للإيمان. الإنسان الذي وجد معرفة
معينة أو فكرة معينة تربى عليها ثم اعتنقها له مسمى آخر سوف نكتشفه في الفصول
القادمة. الإيمان ليس نهاية المطاف، بل لا بد أن يكون مشمولاً بالإسلام والحنفية
في كل وقت. الإنسان المخلص في البحث، ومتبع ملة إبراهيم كما بيناها، لا بد له أن
يصل إلى حالة الإيمان.
المتبع لكتاب الله، والباحث عن الحق متبعاً ملة إبراهيم،
ومن ثم أدى ما عليه من تكليفات بحث، واستقرت الأفكار في قلبه، هو لا شك مؤمن،
ويدخل ضمن الذين آمنوا. بالمقابل سنجد أن شخصاً آخر غير متحيز، واتبع المنهج
الرباني، بالتالي سوف يطمئن لبعض الأفكار والمعتقدات، وهنا يدخل في زمرة الذين
آمنوا.
السؤال هنا: هل الإنسان الذي يرى تناقضات فيما يعتقد
ويبتلعها يسمى مؤمن؟
الحقيقة أن الإيمان نسبي، والكفر نسبي، والتحيز نسبي،
والإسلام نسبي؛ فقد تجد إنساناً مطمئناً لفكرة ولا يطمئن لأخرى، أو كافر بفكرة
معينة و مؤمن بفكرة أخرى وهكذا. الضامن الوحيد للوصول للحالة المثالية للإيمان هي
استمرار اتباع منهج المسلم الحنيف . اتباع منهج المسلم الحنيف هو الضامن الوحيد
لزيادة جرعة الإيمان لدى الإنسان؛ لأن الإنسان في رحلة مستمرة من البحث والتنقيب
عن الحقائق. في اللحظة التي يتوقف فيها الإنسان عن اتباع منهج المسلم الحنيف سوف
تبدأ جرعة الإيمان في النقص، ولو استمر هكذا معتمداً على رصيده الوراثي سوف يفاجأ
بعد فترة أنه ليس من الذين آمنوا، إنما يحمل شكوكاً واحتمالات لم يبذل جهداً
لاستفهامها، للوصول لمرحلة الإيمان والاطمئنان بها.
لو اعتبرنا أن أفكار الإنسان عبارة عن مجموع مائة بالمائة؛
منها 30 بالمائة مسلم ( غير متحيز وحيادي في تقبل الأفكار) 20 بالمائة كافر ببعض
الأفكار و15 بالمائة مكذب و 10 بالمائة معرض؛ بالنهاية ينجو من غلب إسلامه على كل
هذا. لسنا ملائكة فنحن رغما عنا متحيزون لبعض الأفكار، كافرون كافرون ببعضها،
مكذبون بأشياء غافلون عن كثير معرضون عن بعضها؛ عزائنا أننا نحاول قدر المستطاع أن
يتغلب إسلامنا على ما سواه حتى نكون من المسلمين والذين يقولون ربنا توفنا مسلمين.
الصورة النمطية التي يرددها رجال الدين عن مفهوم (المسلم
والمؤمن) هي حالة خاصة جداً، لم تصل للعمق المعرفي لهذه المفاهيم كما جاءت في كتاب
الله. ربما مفهوم (المسلم والمؤمن) انطبق بشكل لا مثيل له على الرعيل الأول الذي
عاصر رسول الله، وبالتحديد الفترة التي قضاها في مكة والسنوات الأولى من عمر
الدعوة في المدينة المنورة. لا شك أن مفهوم المسلم كان شديد الوضوح في هذه الفترة؛
إذ نجد رجالاً أمثال السابقين للإسلام من أهل مكة، وأشخاصاً أمثال سلمان الفارسي،
وصهيب الرومي، وأبو ذر الغفاري، وبلال، وعمار، ورجال من المدينة، جمعهم عدم التحيز
لما يعبد آباؤهم، والتطلع للمعرفة والحقيقة.
لذلك لما رأوا النور الذي
أنزل مع رسول الله لم يترددوا، وقبلوا ما فيه، فتحولوا من مفهوم المسلمين إلى
مفهوم المؤمنين. هذه الصورة العظيمة انتقلت بعد ذلك بالتبعية لكل من ولدوا في هذا
المجتمع، أو حتى لبعض المنتفعين الساعين إلى مصالحهم. هذا الخلط بين المفهوم
القرآني للمسلم والمؤمن والمفهوم الاجتماعي خلط الأمور، ومازال يخلط الأمور،
وعاقبته وخيمة.
بعد وفاة الرسول بدأ التفاعل مع القرآن، وبدأت مفاهيم جديدة
تُستنبط من كتاب الله، واستمر الوضع هكذا، وسوف يستمر إلى يوم الدين؛ ليتم فرز
المسلمين من المؤمنين من جهة، واليهود والذين هادوا والنصارى من جهة أخرى. من
ابتغى الحيادية في تعامله مع المعرفة ورفض التحيز فقد وقع تحت مظلة الإسلام ومن
تحيز لما يعتقد أنه حقيقة واغلاق عقله على ذلك فهو لا يمت بصلة لمفهوم الإسلام.
يمكنك بكل بساطة اليوم تمييز لماذا هناك أمم وأقوام لا ينصرهم الله ؛ لأن هؤلاء ابتغوا غير الإسلام دينا واعتنقوا
منهجًا سياسيًا اسموه اسلامًا على غير ما جاء في كتاب الله.
Comments
Post a Comment