الفصل الثاني الرحمن علَّم القرآن
الفصل
الثاني الرحمن علَّم القرآن
دعونا نبدأ مباشرة بمحاولة تدبر الآيات الأولى من سورة
الرحمن.
الآية الأولى: (الرحمن)
الرحمن مشتق من
الرحمة، وزيادة الألف والنون كما بينا سابقاً تفيد الاستمرار، وكأنّ الاسم يصف
رحمة متصلة في غير انقطاع. لفهم مدلول هذا الاسم العظيم يلزمنا التعريج على اسم
الرحيم أولاً؛ لفهم الفرق بينه وبين الرحمن.
مدلول لفظ الرحيم
لفظ (الرحيم) ورد في كتاب الله في مائة وخمسة عشر موضوعاً،
جميعها جاءت مرتبطة بأفعال الله، مثال: إنه غفور رحيم، تواب رحيم، رؤوف رحيم، رب
رحيم، رحيم ودود، رحمن رحيم، أو رحيماً بالمؤمنين. بينما اسم الرحمن جاء واصفاً
ذاته سبحانه وتعالى.
اسم الرحمن عائد على الرحمة الذاتية، وهو متعلق بذاته
سبحانه، بينما الرحيم دالٌ على الرحمة الفعلية، ومتعلق بالمرحوم.
كذلك اسم الرحمن يشير إلى الرحمة الشاملة؛ ولذلك جاء ذكر
هذا الاسم مع الأحداث العظيمة ذات التأثير الممتد، وهذا متوافق تماماً مع زيادة
الألف والنون. بينما اسم الرحيم جاء واصفاً أحداثاً جزئية متعلقة بفعل محدد. لذا
نجد قوله سبحانه وتعالى:
(وَكَانَ بِٱلمُؤمِنِينَ رَحِيما) (سورة
الأحزاب: آية 43).
(إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوف رَّحِيم)
(سورة البقرة: آية 143).
(رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ
الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (سورة الإسراء:
آية 66).
الرحيم هنا متعلّق بالمؤمنين أو بالناس، ولا شك أنّ كلاهما
جزء من ملكوت عظيم، لا نهائي الحدود.
بينما اسم الرحمن نجده أعم وأشمل من ذلك بكثير، كما جاء في
قوله تعالى:
(الرَّحْمَٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ)(سورة
طه: آية 5).
لا شك أن كل اسم يتعلق بالذات الإلهية، فهو المعنى المطلق
لهذا الاسم. لذلك اسم الرحمن هو الرحمة المطلقة الشاملة، ولا يمكن أن يوصف المخلوق
بالرحمن؛ لأن الرحمة المطلقة تحتاج لإدراك كل العلاقات، وفهم كل الارتباطات الخاصة
بالمرحوم، وهذا لا يمكن أن يتأتى للمخلوق. بينما لفظ و صفة الرحيم قد يتصف بها
المخلوق؛ لأنها متعلقة بفعل محدد، وقد وصف ربنا رسوله بهذا الوصف، لأنه رحيم
بالناس فيما يتعلق بتبليغه وتصرفاته معهم:
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ) (سورة التوبة: آية 128).
صفة الرحيم لله هي صفة مطلقة أيضاً، ولكنها مختصة بجزء
محدد، بخلاف الرحمن.
لو حاولنا ضرب مثال لتقريب الصورة، وفهم الفرق بين صفة
الرحيم واسم الرحمن، دعونا نأخذ مثالاً لبيئة ثقافية بسيطة للغاية؛ لنبين كيف أن
مفهوم الرحيم يعتمد بالأساس على معارف الإنسان، وكيف أنه يتعلق بجزئية محددة، وليس
اسماً مطلقاً.
لو أن أُمَّاً في بيئة كهذه رأت ولدها في حالة مرض، ربما من
رحمتها به لن ترغب في إعطائه علاجاً ما، أو تعريضه للألم، حتى وإن كان هذا الألم
قد يسبب شفاءه. الأم في هذه الحالة رحيمة بابنها فيما يخص هذه الحالة تحديداً، وهي
رحمة جزئية. بينما نجد أن الطبيب سوف يفعل كل ما في وسعه لإنقاذ الوليد، حتى لو
سبب ذلك ألماً شديداً لهذا الطفل، وهذه صورة أخرى من مفهوم الرحيم، ولكن أعم وأشمل
من تصور الأم.
بمد الخط على استقامته، نفترض أن هيئة علماء اكتشفت أن
العلاج الذي وصفه الطبيب له آثار جانبية خطيرة على حالة الطفل، ومنعت هذا العلاج
واستبدلته بعلاج آخر، فهنا نتحدث عن مفهوم آخر للرحيم أكثر شمولاً. ما نود قوله أن
مفهوم الرحيم هو مفهوم يتعلق بجزئية واحدة فقط، كانت في هذا المثال حالة مرض
الطفل، وكيفية علاجه. كذلك مفهوم الرحيم في المثال السابق اختلف باختلاف المعارف
وكم المعلومات لدى كلٍّ من الأم، والطبيب الصغير، وهيئة العلماء.
لا يمكن بحال من الأحوال وصف أيٍّ من الأطراف التي رحمت
الطفل بوصف الرحمن؛ لأنه مهما فعلوا فهناك علاقات وارتباطات غاية في التعقيد، لا
يمكن الاحاطة بها بشكل كامل، ومن يحيط بهذه العلاقات هو خالقها ومقدرها الرحمن.
لا يمكن لمخلوق مهما أوتي من علم أن يسمى بالرحمن؛ لأنه
مهما أوتي هذا المخلوق من علم ومعرفة، فسوف تغيب عنه تفاصيل وعلاقات، ليس في
إمكانه إدراك تأثيرها. ومفهوم الرحمن ذاته يلزمه الأبدية أو الاستمرار.
إذا كان فعل الرحيم مرتبطاً بجزئية محددة، أو بمعنى أكثر
دقة، فعل الرحيم مرتبط بالحدث؛ أي أنه فعل
منتهٍ، بينما فعل الرحمن هو فعل ممتد ومستمر.
لكي نفهم ماذا يعني وصف
الرحمن، وكيف يمكن أنيكون ممتداً ومستمراً، لابد نلقي نظرة سريعة على مفهوم الخالق
مقابل مفهوم الرحمن.
بالفرض أن أهل قرية طلبوا من ثلاثة أشخاص صنع وسيلة تساعدهم
في تنقلاتهم، فقام الشخص الأول بصنع سيارة من المكونات المتاحة، ولكنه لم يكن
خبيراً بالقدر الكافي، فصَنع سيارة لا تسير ولا تتحرك، ولا تلائم الوظيفة التي
صنعت من أجلها.
هذا الإنسان تبعاً
لتعريف فعل خلق، هو خالق. وقد جاء هذا الفعل في كتاب الله على نحو يمكن أن يتصف به
آخرون غير الله سبحانه وتعالى، كما وصف نبيه عيسى بأنه يخلق من الطين، وكذلك عندما
قال تعالى: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (سورة المؤمنون: آية 14).
وإن كان هناك خالقين غير الله بنص كتاب الله إلا أن صفة الخالق لله -كما نؤكد دائماً- هي صفة مطلقة
وشاملة، ولا يمكن لأحد أن يخلق بالكفاءة والإحاطة مثل الله الخالق.
هذا الشخص رتب مجموعة من المكونات وأخرج شكلاً نهائياً
لسيارة؛ فخلق هذا الشيء، ولكنّ هذا الخلق لا يؤدي وظيفته التي خلق من أجلها، لذلك
هذا الخلق بالنهاية خلق عبثي؛ أي ليس له وظيفة. إذ لو نظرنا لما خلق هذا الشخص،
ورأينا مثلاً الإطارات، فلابد لنا أن نتساءل: لماذا يوجد إطارات ولكن السيارة لا تتحرك.
كل مكون، إن لم يؤد وظيفته بشكل تام وملائم تمامًا لما خُلق
من أجله فهو العبث بحد ذاته.
الشخص الثاني، كان أكثر خبرة ودراية؛ لذلك صنع سيارة،
واستطاعت بالفعل السير، وإنجاز الوظيفة التي أعدت من أجلها، ولكنها تفتقر إلى كثير
من الكماليات، ووسائل الراحة والأمان.
هذا الشخص هو في الحقيقة خالق
لهذه السيارة، وأدى ما عليه بكفاءة، ولكنه
يفتقر لحس الرحمة، الذي يدفعه لإضافة هذه
الكماليات، والتي تؤهل السيارة لأداء وظيفتها بمنتهي الدقة والمرونة.
الشخص الثالث، صنع
السيارة وبها جميع وسائل التكنولوجيا والراحة والأمان، وذات كفاءة منقطعة النظير،
فهنا توافرت عوامل الرحمة مع أسباب الخلق.
الأشخاص الثلاثة تبعاً لتعريف الخلق؛ وهو تكوين شيء مادي من
مكونات سابقة، والذي تناولناه في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب، هم خالقون،
ولكن الشخص الأخير ينطبق عليه وصف الرحمة، أو صفة الرحمن تجاوزاً؛ لأنه خلق الشيء
بكفاءة عالية، ليلائم وظيفته، ويصبح غاية في الدقة والإتقان.
لفظ الخالق هو لفظ متعادل، بمعنى أنه لا يعني الإتقان في حد
ذاته، ولكن بالطبع عندما يكون الخالق هو الله، فهذا معناه أن الله أحسن الخالقين،
وهذا مما لا شك فيه، بينما إذا خلق الإنسان فخلقه يكون على قدر معارفه، وفي حدود
المتاح لديه.
إما إذا كان الخالق رحمن، فهذا معناه أن كل دقيقة وكل حركة
موضوعة في مكانها بالضبط، وسوف تلائم وظائفها، وسوف تستمر في أداء عملها بمنتهى الدقة.
مرة أخرى ماذا يعني ذلك؟
الرحمن لا يخلق عبثاً؛ لأنه لو خلق عبثاً انتفت صفة الرحمن
عنه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، لذلك كل دقيقة وكل حركة وكل نسمة لها
وظيفتها المستمرة، وضَعْ تحت المستمرة مائة خط، لأن لفظ الرحمن ذاته يعني: أنه
علَّم القرآن، وخلق الإنسان لوظيفة مستمرة غير منتهية، وتلائم ما خلقت من أجله
تماماً.
مثال آخر لبيان مفهوم الرحمن والرحيم، ولله المثل الأعلي:
بفرض أن مجلس من الحكماء صمم نظاماً تعليماً ممتازاً؛ بحيث
يكون نظاماً مفيداً للطالب، وفي الوقت نفسه مليئاً بالمرح والترفيه. وكذلك تم تصميم
النظام التعليمي ليكون مريحاً للمعلمين، ومريحاً لأولياء الأمور.
هذا النظام التعليمي ينمّى قدرات الطلاب بشكل مستمر،
ويؤهلهم لدراسة التخصصات التي يرغبونها. ثم قام هذا المجلس بتصميم جامعات وكليات
تتوافق تماماً مع كل التخصصات المطلوبة، على نحو تكون متناسبة تماماً مع قدرات
الطالب، وتكون متوافقة تماماً مع سوق العمل. ثم أنشأ هذا المجلس مجالات عمل عديدة
تستوعب كل هذه التخصصات، على نحو يكون كل تخصص يخدم ناحية من نواحي المجتمع، بشكل
سليم وصحيح.
خلال هذه العملية، نرى أن مجلس الحكماء هذا حريص كل الحرص على توفير سبل
الإفادة لكل طرف على حدة، وكذلك حريص على التكامل بين جميع الأطراف، وحريص على
المردود النهائي، بحيث تعمل المنظومة كلها في تناغم وتناسق.
مجلس الحكماء هذا رحيم بكل مكونات المجتمع، فهو رحيم
بالطلاب والمعلمين وأولياء الأمور ورجال الصناعة، كل على حدة. أما العناية الفائقة بكل هذه المكونات، والنظرة
الشاملة على نحو يؤدي كل مكون من مكونات المجتمع دوره باقتدار، ليحصل على أكبر
فائدة، ويمنح الآخرين أقصى فائدة؛ فهو فعل الرحمن.
لذلك يمكننا القول أن خلال فعل الرحيم يكون التركيز على
تحقيق أقصى فائدة للمرحوم، بينما فعل الرحمن فهو تحقيق أقصى فائدة للمجموع، وفي
حالة الخالق فإن المجموع يعني الكون بكل مكوناته.
سوف نحاول في السطور التالية استعراض بعض آيات القرآن، التي
جاء فيها ذكر الرحمن؛ لنؤكد على الفرق بين مفهوم الرحمن ومفهوم الرحيم.
الآية الأولى
(قَالَتْ إِنِّىٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَٰنِ
مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا) (سورة مريم: آية 18).
لو جاءت الاستعاذة في هذه
الآية الكريمة بالرحيم، فهذا يعني رحيماً بطرف واحد، وفي هذه الحالة هو السيدة
مريم، ولكن الاستعاذة جاءت بالرحمن؛ لأنها في هذه الحالة لم تكن تعلم حقيقة هذا
الرسول الذي جاءها، هل هو رسول خير أم رسول شر.
لذلك جاءت الاستعاذة بالرحمن؛ بمعنى أن يحدث الخير في
المطلق، وأن يرحم الجميع، سواء السيدة مريم أو هذا الرسول، وكل ما يترتب على وجود
هذا الرسول. اختيار اسم الرحمن هنا منتهى العدل؛ لأن السيدة مريم بموجب هذا الاسم
طلبت الرحمة للجميع، وليس لشخصها فقط.
الآية الثانية
(يَٰٓأَبَتِ إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ
ٱلرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَٰنِ وَلِيًّا) (سورة مريم : آية 45 ).
في هذه الآية أيضا نجد أن اسم الرحمن موافق تماماً لما
ذهبنا إليه؛ إذ لا يمكن أن يأتي هنا اسم الرحيم مع العذاب، فهو خاص بالجزئيات.
بينما اسم الرحمن هنا موافق تماماً، ويشير
إلى أن العذاب وإن كان عدم رحمة لجانب
معين، فهو رحمة في موضع آخر من مواضع الكون.
لا شك أن تعذيب الظالم على ظلمه هو فعل الرحمن، الذي يوازن
كل الأمور، بحيث تصبح النتيجة النهائية في صالح الجميع، بينما لو كان رحيماً في
عذابه لما عذّب من الأساس.
الآية الثالثة
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا
ٱلرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) (سورة الفرقان:
آية 60).
السجود في هذه الآية الكريمة تكليف يتناسب تماماً مع اسم
الرحمن، أما الرحيم فهو لا يكلف المرحوم
بقدر ما يعفيه.
الآية الرابعة
(إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ
وَخَشِىَ ٱلرَّحْمَٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)
(سورة يس: آية 4).
الخشية في هذه الآية الكريمة تتناسب مع ذكر الرحمن،
ولا تتناسب مع وصف الرحيم، إذ الخشية هنا
سبب في ضبط أشياء، في طرف من أطراف الكون.
تعبير خشية الرحمن تعني أن الخشية تعود بالنفع على آخرين، وأنه رحمة لآخرين
في مكان آخر، وإن كانت في حد ذاتها فعلاً خشناً على الإنسان الذي يخشى.
الآية الخامسة
(ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقًا
مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ
تَرَىٰ مِن فُطُورٍ) (سورة الملك: آية 3).
عندما نرى ترافق اسم الرحمن مع خلق سبع سموات، فهذا يأخذنا
إلى القول بأنّ السموات لم يخلقها الله سبحانه وتعالى للإنسان فقط، كما هو المعتقد
لدى الكثيرين، بل هي نظام دقيق محكم داخل منظومة شاملة. هذه الآية تحديداً ترشدنا
إلى حقيقة أن الإنسان ليس مركز الكون، أو أنّ الكون ليس مخلوقاً من أجل الإنسان،
كما يعتقد الكثير من رجال الدين، بل إن الإنسان هو جزء من الكون.
الآية السادسة
(رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَٰنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) (سورة النبأ: آية 37).
هنا أيضاً جاء ذكر الرحمن موافقاً تماماً للنظرة الشمولية
في الآية الكريمة، إذ تتحدث الآية عمّا في السموات والأرض وما بينهما، وليس طرفاً
واحداً.
لذلك عندما نرى آية كاملة عبارة عن اسم الرحمن، في سورة
اسمها الرحمن؛ فلابد أن نتوقف كثيراً، لأن ما سيأتي بعدها سوف يكون له شأن عظيم
على مستوى شامل، وليس مجرد فترة مؤقتة. بدأت سورة الرحمن بالإشارة إلى هذا الاسم
العظيم في بدايتها لتدلنا على مظاهر هذه
الرحمة المباشرة، وأهمها على الإطلاق: علّم القرآن، وخلق الإنسان.
فما مدلول علّم القرآن ؟
الآية الثانية: (علَّم القرآن)(سورة الرحمن: آية 2)
بعد شرح وبيان معنى الرحمن، نأتي إلى أول حدث متعلق بصفة
الرحمن؛ هو علّم القرآن. فكأن علم القرآن جاء نتيجة اسم الله الرحمن؛ مما يدفعنا
للقول أن وجود القرآن مرتبط ارتباطاً وثيقاً بكل مكونات الكون، وليس كما يدعي
بعضهم أنه كتاب هداية فقط، بالمفهوم الطقوسي.
القرآن هو وصف دقيق للوجود، وعن طريق قراءته بشكل سليم سوف
تنحل أسرار وشفرات الكون بكل مكوناته. إنه متعلق بالوجود؛ لأن الرحمن صفة شاملة
وعامة، كما بيّنا في تحليل لفظ (الرحمن).
آية (علّم القرآن) كذلك تحل إشكالية خلق القرآن من الجذور.
لم يستخدم ربنا لفظ (خلق القرآن)، لذلك عندما تم استخدام لفظ (خلق القرآن) من قِبل
المعتزلة قوبل برفض شديد من جانب الأصوليين وقتها. مسألة خلق القرآن هي صراع دائم
بين التجديد والأصولية، ولكنّ استخدام اللفظ كان غير موفق بالمرة.
التعبير الصحيح عن
التجدد الذي يحويه القرآن، وأن قراءته فرض على كل جيل، وأنها معين لا ينضب، هو
التعبير الوارد في هذه الآية الكريمة: (علَّم القرآن).
قال بعض المفسرين: إنّ علم القرآن تعني أنّ الله علّم
الإنسان القرآن، أو علم الرسول القرآن. ولكنّ الحقيقة أن القرآن هو الذي وقع عليه
الفعل. الله سبحانه وتعالى علّم القرآن، كما قال سبحانه وتعالى: (خلق الإنسان)؛ أي
أنَّ القرآن هو المُعلَّم.
(لفظ علَّم) كما بينا من قبل في أكثر من موضع هو امتلاك
قدرات وأدوات، يستطيع من خلالها المعلَّم التعبير عن فكرة معينة بشكل صحيح.
هذا المبدأ كان شديد الوضوح عندما قمنا بتحليل التعبير
القرآني (علم آدم الأسماء كلها)، وقلنا وقتها أن علَّم آدم تعني؛ أن الله أعطى آدم
القدرة على تسمية الأشياء بشكل صحيح.
لفظ (القرآن) ذاته أصله (قرأ)، وكما بيَّنا أيضاً أن تعامل
الإنسان مع القرآن يجب أن يكون بالقراءة، والتي تعني التحليل والتدبر والفهم. هذه
الآية التي بين أيدينا وضعت النقاط على الحروف؛ إذ ترشدنا أن القرآن -إن جاز لنا
التعبير- يمتلك داخله الأدوات، التي تجعله قابلاً للقراءة، وقادراً على توصيل
الفكرة بشكل سليم وحقيقي.
سوف يظل القرآن قرآناً إلى يوم الدين، وهذا يعني أن الإنسان
مطالبٌ بقراءته إلى يوم الدين كذلك. وبناء على آية ((علم القرآن)، سوف يظل القرآن
يبوح بالأسرار والمعارف؛ لأنّ وظيفته الأساسية هي توصيل الفكرة للقارئ بشكل سليم.
الأدوات التي يمتلكها القرآن هي -لا شك- المنطوق الصوتي
للحروف، و التعبيرات القرآنية. هذه هي الأدوات التي علمها الله، أو جعلها ميزة
للقرآن، على نحو يمكن من خلالها إدراك الفكرة أو المعلومة المطلوبة.
في اللهجات الدارجة يُقال: (علَّم المنزل) مثلاً؛ تعني وضع
علامة تدل على هذا المنزل، على نحو يستطيع الإنسان من خلال هذه العلامة الاستدلال
على المنزل بشكل صحيح.
كذلك تماماً تعبير (علَّم القرآن)؛ هو وضع أدوات تجعل
القرآن ملائماً لوظيفته؛ وهي القابلية المستمرة للقراءة. لو أدرك السابقون هذه
الحقيقة لتخلوا فوراً عن اصطلاح (خلق القرآن)، واستبدلوه بمصطلح (علم القرآن)، إن
كانوا حقاً يتحدثون عن تجدد واستمرار القرآن، وقابليته للقراءة المستمرة على مر
العصور.
على الجانب الآخر، لن يستطيع الأصوليون رد التعبير القرآني،
إلا إذا لم يستطيعوا استيعابه، وكان لديهم تحيز واضح، وعدم رغبة في فهم القرآن
بشكل متجدد، واكتفوا بفهم السابقين. إذا لم يقتنع الإنسان بتجدد القرآن وقابليته
للقراءة باستمرار، فهذا يعود بالأساس غالباً لنقص معرفي، ومن الأفضل عدم الدخول في
جدال مع هؤلاء؛ لأنه من الصعب إقناعهم؛ بسبب قصور في جانب المنطق لديهم.
الآية الثالثة : ((خلق الإنسان) (سورة الرحمن: آية 3)
الآية الكريمة تعلن عن الحدث الثاني المتعلق بالكون، وهو
خلق الإنسان. معنى أن حدث خلق الإنسان متعلق بصفة الرحمن، فهذا معناه أن خلق
الإنسان داخل ضمن منظومة الرحمة الشاملة.
معنى ذلك أن الإنسان لابد أن
يكون له دور في الحياة الآخرة، متعلق بهذه الرحمة. التصور السائد عن الإنسان بأن
دوره سوف ينتهي بدخول الجنة أو دخول النار هو تصور لم يأخذ في الحسبان مفهوم
الرحمن.
مفهوم الرحمن يخبرنا أن خلق الإنسان هو حلقة من حلقات
الكون، وليس كل الكون، أو مركز الكون، بل جزءاً من منظومة متكاملة ومستمرة. قد يكون هذا المفهوم مزعجاً للكثيرين؛ إذ لا
يتصور أحد أن هناك عملاً أو تكليفاً أو مهمة في الحياة الآخرة؛ اعتماداً على
المتاعب التي تجلبها المهام في الدنيا. الخبرات السيئة مع المهام تجعل الإنسان
متوجساً من وجود مهمة أخرى في الحياة الآخرة.
الأمر يبدو غير ما نعتقد، فالحياة الدنيا مرحلة أولى، لفرز
المؤهلين فعلاً لحمل المسؤولية التي أوكلها رب العالمين لهم، ومن ينجح في الاختبار
سوف يتولى مهاماً مختلفة، وقد وصفها ربنا في كتابه بقوله تعالى:
(إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي
شُغُلٍ فَاكِهُونَ) (سورة يس: آية 55).
رغم أن التفسير التقليدي فسر الشغل بأنه المتاع بأنواعه،
حتى أن منهم من قال: هو فض الأبكار؛ نجد أن لفظ شغل يرشدنا إلى شئ آخر. الشغل
لابد أن يكون للشغل مردود؛ً فالشغل ليس لهواً أو لعباً؛ وإنما عمل بهدف،
وهذا قول الله سبحانه وتعالى:
(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ
الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا
إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا) سورة الفتح: آية 11).
معنى ذلك أنّ أموالهم وأهليهم شغلتهم؛ أي بأعمال لها مردود،
وليس مجرد لهو أو لعب. لو كان مرادف الشغل هو اللهو أو اللعب أو مجرد المتاع، ما كان
عذراً يقال، ولكن لأن الانشغال استغراق في عمل شيء له مردود لجأ إليه الأعراب كعذر
مقبول. لن أتوسع في مفهوم المهمة في الحياة الآخرة في هذا الكتاب، على أن يكون لنا
بعون الله فيها كتاب منفصل.
الآن لدينا حالتان رئيستان متعلقتان بالرحمن؛ وهما علم
القرآن، وخلق الإنسان. الآية الرابعة تصف التفاعل ما بين الإنسان والقرآن، والذي
عبر عنه ربنا بقوله:
الآية الرابعة: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (سورة الرحمن: آية 4)
البيان هو استيضاح الشئ ، فإذا كنا نتحدث عن علم القرآن وخلق الإنسان فالبيان هو فهم
الإنسان واستيضاح آيات القرآن.
بعد الآية الرابعة بدأت السورة الكريمة في ذكر علاقات
كونية، وهي لا شك لها علاقة باسم الرحمن، إذ إن
ذكر هذه الآيات لابد وأن يشير إلى أن وجودها أوسع وأشمل مما نعتقد، وأن
وظيفتها تتعدى حدود معارفنا. قبل أن نطرق باب هذه الآيات، نحتاج لفهم الآية التي
تكررت في السورة واحداً وثلاثين مرة، بدءاً من الآية 13 وحتى الآية 77، آية
((فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (سورة الرحمن: آية 13).
مَن المثنى المقصود بالخطاب في قوله: (فبأي آلاء ربكما
تكذبان)؟
قال المفسرون: إن المقصود بالخطاب هنا هو الإنس والجن. وبعض
أقوال المعاصرين ذكرت: أنه ربما يكون المقصود الذكر والأنثى.
المتبع بتأنٍ للسورة الكريمة يلاحظ أن خطاب المثنى ليس
مقصوداً به الإنس والجن؛ لأن الآيات خاطبت المكلفين بصيغة الجمع في الآية الثامنة
والتاسعة:
(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ((9))(سورة الرحمن :آيات 8-9).
لماذا كان الخطاب هنا بصيغة الجمع، ثم انتقل فجأة إلى صيغة
المثنى في آية ((فبأي آلاء ربكما تكذبان)؟
الثنائي المقصود هنا هو المحوران الرئيسيان اللذان بدأت
بهما السورة، وهما القرآن والإنسان.
الذي يدعونا لقول ذلك:
أولاً: صيغة الجمع -كما ذكرنا- التي جاءت في أول السورة، في
قوله لا تطغوا) و(وأقيموا). ويتضح تماماً أن المخاطب هنا مكلف، إذ إن الطغيان
والقدرة على الإقامة أو عدمها لا يقوم بها إلا حر الإرادة والحركة، وهو المتوافر
للإنسان والجان، كما سوف نرى في آيات تالية.
ثانياً: لفظ (الإنس والجان) لم يأتِ إلا في الآية الرابعة
عشر؛ أي بعد ذكر أول آية جاء فيها
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، وهي الآية رقم (13).
ثالثاً: خاطب ربنا الجن والإنس صراحة في الآية رقم (33)
بصيغة الجمع، وليس بصيغة المثنى
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)(سورة
الرحمن: آية 33). يقول أهل اللغة: إن لفظ معشر يعامل معاملة الجمع، لذلك جاءت هذه
الآية تحديداً بصيغة الجمع، أما باقي الآيات بصيغة المثنى؛ لأن المخاطب هو الإنس
والجان بدون معشر.
ملاحظة لفظ (معشر) لم يصف الإنس أبداً في كتاب الله؛ وإنما
جاءت وصفاً للجن في ثلاث آيات في كتاب الله، منها الآية التي نحن بصددها في سورة
الرحمن وفي آيتين أخريين في كتاب الله.
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَٰمَعْشَرَ
ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مِّنَ ٱلْإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ
ٱلْإِنسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا
ٱلَّذِىٓ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَىٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلَّا
مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (سورة الأنعام: آية 123).
(يَٰمَعْشَرَ
ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ
ءَايَٰتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰٓ
أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ
كَانُوا كَٰفِرِينَ) (سورة الأنعام: آية 130
السؤال هنا: لماذا استخدم لفظ المثنى، وقد عبر عن الجن
بالمعشر هنا، واستخدم معه صيغة الجمع؟ الأجابة المباشرة لأن الثنائي المقصود ليس
الإنس والجان بل تحديدا القرآن والإنسان.
رابعاً: صيغة الجن والإنس جاءت في أكثر من موضع من كتاب
الله بصيغة الجمع، وليس بالمثنى، كالآتي:
(وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُوا
لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ
فِىٓ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ إِنَّهُمْ
كَانُوا خَٰسِرِينَ) (سورة فصلت: آية 25).
(أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
ٱلْقَوْلُ فِىٓ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ
إِنَّهُمْ كَانُوا خَٰسِرِينَ) (سورة الأحقاف: آية 18).
(قَالَ ٱدْخُلُوا فِىٓ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِكُم مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ فِى ٱلنَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ
لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰٓ إِذَا ٱدَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ
أُخْرَىٰهُمْ لِأُولَىٰهُمْ رَبَّنَا هَٰٓؤُلَآءِ أَضَلُّونَا فَـَٔاتِهِمْ
عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ ٱلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ)
(سورة الأعراف: آية 38).
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا
مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَآ أُولَٰٓئِكَ
كَٱلْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ) (سورة الأعراف:
آية 179).
من هنا يمكننا القول أن المخاطب ليس الإنس والجن؛ وإنما
قطبا السورة، والتي يدور حولها موضوع السورة، وهما القرآن والإنسان.
السؤال هنا: كيف يخاطب الله سبحانه وتعالى القرآن، بقوله:
(فبأي آلاء ربكما تكذبان)؟
الآية الكريمة ليست سؤالاً، وإنما تقريراً لحقيقة أن القرآن
والإنسان كلٌّ منهما يصدق الآخر، أو بمعنى آخر هو استنكار أن يكذب أحدهما الآخر.
نعم الإجابة عن هذه الآية المكررة يكمن في الأربع آيات الأولى، وهي أن الرحمن علم
القرآن، ثم خلق الإنسان، ثم علم الإنسان البيان؛ وهو استيضاح ما هو غامض، أو
التفاعل مع القرآن؛ لكي يتبين الحقائق التي يحويها القرآن.
القرآن يحوي حقائق وقوانين الوجود، وقابل للقراءة، والإنسان
خلقه ربه و علمه البيان، وهو على ذلك يملك القدرة على القراءة، ويستخرج هذه
الحقائق. هذا التعبير القرآني العجيب يشبه تعبيراً مصرياً باللغة المصرية الدارجة،
وهو: "الماء يكذب الغطاس"؛ فلو أن رجلاً زعم كذباً أنه يجيد الغطس ، وهو
لا يعرف السباحة؛ فعند التجربة لن يطاوعه الماء وسيكذبه، وسوف يغرق. كذلك القرآن،
يصدق الإنسان الذي علمه الله البيان؛ بمعنى أنه يبوح له بأسراره ومكنونه، والإنسان
من جانبه يصدق القرآن عندما يكتشف علومه، فيكون دليله على الرحمن.
سوف نزداد يقيناً عندما نتعرف على لفظ (آلاء)، وماذا يعني؟
جاء في التفسير أن لفظ (آلاء) يعني النعم. ولكن كما نعلم
جيداً أنه لابد من وجود فرق بين ألفاظ القرآن، إذ إن لفظ (النعم) ذكر في القرآن،
فلماذا جاء هنا لفظ (آلاء)؟
أصل كلمة آلاء (ألو)، وتعني الاجتهاد والمبالغة. ومن ذلك
نجد أن لفظ (آلاء) لا يعني النعم بمفهومها المتداول، وإنما المبالغة في النعم، أو
ما يمكن وصفه بالاستثناءات، أو الزيادة الكبيرة في النعم.
إن أول آلاء ربنا هي القرآن، وخلق الإنسان ذاته، ولو دققنا
النظر سنجد أن علم القرآن وخلق الإنسان هما -إن جاز لنا التعبير- استثناءان
كبيران، وهما أعظم الآلاء، وليس مجرد نعم عادية.
تكرار الآية واحداً وثلاثين مرة هو أيضاً استثناء، لم يحدث
من قبل في كتاب الله أن تكررت آية في سورة واحدة بهذا القدر. الأمر الآخر والذي
يجب أن ننتبه إليه أن كل ما سبق هذه الآية له وضع استثنائي، ويمكن للإنسان استنباط
معلومات غاية في الدقة، من خلال قراءة الآيات بشكل دقيق، وتدبر عميق. لا شك أن
بعضهم استغرب ورود الآية بهذه الكثرة في السورة، ولكن إذا علمنا أنّ الوضع استثنائي،
بل إنَّ كل ما جاء في السورة هو استثنائي، لزال العجب. استثنائيٌّ في النعم
والفضل، إذ لفظ (آلاء) ذاته يحتوي هذه الخصائص والصفات.
سوف أحاول قدر المستطاع المرور السريع على الآيات التي سبقت
قول الله تعالى ( فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) لنقف على بعض المعاني
العظيمة التي تضمنتها السورة الكريمة. حسبنا أن نضع بعض الأفكار بشكل عام حول هذه الآيات، لعل باحثين لديهم عمق
معرفي، ورؤية مختلفة عما لدينا، ينتبهون إليها.
الآية الخامسة: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان)(سورة
الرحمن: آية 5)
لفظ (حسبان) من الألفاظ التي يجب أن نفحصها بدقة؛ لأنه لفظ
غير اعتيادي، فهل المقصود أن الشمس والقمر هما مصدرا الحسابات على الأرض، إذ إن
دوران القمر حول الأرض، ودوران الأرض حول الشمس يتسبب عنهما الأيام والشهور
والسنوات. قد يكون هذا المعنى من ضمن المعاني المقصودة في الآية الكريمة، ولكن
يبدو أن اللفظ يحمل الكثير، عن القمر والشمس وعلاقتها بالحسابات. هذه العلاقة لابد
أن تكون مرتبطة بباقي الكون، ولابد أن فيها شيئاً استثنائياً.
من الواضح أن هذه الثنائيات في سورة الرحمن بينها علاقة وثيقة، ومن خلال فهم علاقة القمر
بالحساب، وعلاقة الشمس بالحساب أيضاً، يمكننا أن نقول أنّ القمر والشمس متطابقان
في الوظيفة، أو حتى يعملان بشكل متكامل، لإنتاج الحسابات المعروفة. هذه العملية
مرتبطة باسم الرحمن؛ لذلك إن كانت رحمة للناس معرفة التقويم والحساب، فهي لا شك
لها وظيفة أخرى في الكون، ولكن بسبب نقص المعارف الحالية؛ نحن غير قادرين على فهم
هذه الوظيفة. أقصى ما يمكننا قوله عند هذه النقطة أن القمر والشمس وعلاقتهما
بالحسابات ليست مقتصرة النفع على أهل الأرض، ولكن يبدو لنا أن لها امتدادات أخرى
لم نكتشفها بعد.
الآية السادسة: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ)
(سورة الرحمن: آية 6)
رغم أن المفسر التقليدي ذهب إلى أن المقصود بالنجم هنا هو
نبات الأرض الذي ليس له ساق، وبعض المفسرين قال أن النجم هو نجم السماء، فيمكننا
القول: إن المقصود هنا هو نجم السماء؛ لأنه وحسب المنهج الذي نستخدمه، أن الاسم
يصف حالة عامة، ويفهم من خلال السياق، وفي حالة غياب السياق فإنه يُصرف إلى الوصف
الأشهر له.
في حالة هذه الآية الكريمة يمكننا القول بكل أريحية: إن
المقصود هو نجم السماء. ثم عن طريق فهم علاقة الشجر بفعل السجود سوف ندرك علاقة
السجود بالنجم.
السجود كما بيناه في كثير من مواضع الكتب السابقة هو عملية
الاستقرار والاطمئنان، فإذا سجد الشجر فهذا يقودنا إلى فهم وظيفة الشجر، وعلاقتها
بالاستقرار والاطمئنان، أو ما يمكن أن نسميه بالثبات والتوازن. من خلال معارفنا
نستطيع القول أن الشجر له وظيفتان أساسيتان، يمكن اعتبارهما سجوداً، وهما تثبيت
التربة، والمساهمة في توازن واستقرار غازات الغلاف الجوي، من خلال استهلاكه لثاني
أكسيد الكربون، وإنتاجه للأكسجين، في عملية تسمى: عملية البناء الضوئي. كما ذكرنا
في الجزء الثالث من الكتاب أن الكون عبارة عن دوائر متطابقة، ومن خلال فهم إحدى
هذه الدوائر يمكننا فهم الدائرة الأخرى البعيدة عنا .
يبدو أن الشجر والنجم دائرتان متطابقتان، وأن النجم والشجر
كلاهما متطابقان في الوظيفة، وتحديداً عملية السجود. من هنا يمكننا استنتاج أن
النجم له وظيفته التي تشبه وظيفة الشجر على الأرض، أو في النظام الخاص به. من
المعروف أن الشجر يوجد داخل نظام محدد، وهو النظام البيئي الأرضي، بينما النجم
يوجد في نظام مختلف، وهو نظام المجرة. لذا
يمكننا القول أن النجم له وظيفة تثبيت النظام المحيط به وجعله مستقراً. كما أن
زوال الأشجار ينذر بكوارث، مثل: التصحر، ونقص الأكسجين، كذلك فإن غياب النجوم ينذر
بكوارث، وهي خلل في النظام الكوني الحاوي لها.
كثير من المتعجلين الذين لا يدركون كنه الأشياء، تراهم
يسخرون من ذكر أِشياء في كتاب الله تبدو غريبة، ولو كانوا محايدين وحاولوا فهم
العلاقة بشيء من التوازن النفسي، لما بدو بكل هذه العدائية والأمراض النفسية التي
يحملونها ويعيشون بها. من الطبيعي عندما يعتقد رجل الدين التقليدي أن الإنسان مركز
الكون فسوف يقابله السؤال التقليدي: هل هذا الكون اللانهائي بنجومه ومجراته وكل
مكوناته جاء من أجل الإنسان؟
القرآن الكريم لم يقل أن الإنسان مركز الكون، أو أن الله
خلق كل هذا من أجل الإنسان، وإنما الغرور المعرفي هو الذي أوحى للإنسان البدائي
أنه مركز الكون ومحوره، ومن ثم تابع الإنسانَ البدائي ذريتُه الذين لا يرغبون في
المعرفة.
هذه الإشارة القرآنية لا شك أنها إشارة استثنائية، حيث
العلاقة بين النجم والشجر وعلاقتهما بالسجود. القول بأن النجم والشجر هما أحد
مكونات التوازن والاستقرار في الأنظمة التي تحويهم له دلائل أخرى من الآيات
التالية، والتي تتحدث عن الاتزان الكوني، والميزان الذي تحدثت عنه الآيات
القرآنية، وكنا قد تناولنا هذه الآيات في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب، وقلنا
أنها تعني الاتزان الكوني بكل ما فيه من توازن بيئي، وتوازن بين مكونات هذا النظام.
من الآية السابعة وحتى التاسعة:
(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ 7) أَلَّا
تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ8) ) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا
تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)(سورة الرحمن: آيات 7-9
).
هذه الآيات الكريمة تتحدث عن اتزان كوني، وعلاقات مترابطة
بين رفع السماء واتزان كل مكونات الكون. بالعودة إلى الآية السابقة لهذه الآيات،
وهي الآية التي تتحدث عن النجم والشجر يسجدان، يتبين لنا أن ثمة اتزان واستقرار
تسبب فيه وجود النجم في النظام الكوني، والشجر في النظام الأرضي، وأن الإنسان بما
يملكه من حرية الحركة والتصرف مطالب بعدم تجاوز حدود هذا الاتزان، وكف العبث
بالأنظمة البيئية، والتي قد تسبب خسارة لا مثيل لها في الاتزان الكوني.
كذلك علاقة هذا الاتزان باسم الرحمن يدفعنا للقول؛ بأن الاتزان
الذي يتحكم فيه الإنسان على الأرض له علاقة وثيقة بالاتزان الكوني، والذي يبدو
خارجاً عن سيطرة الإنسان ظاهرياً. إننا أمام نظرية رفرفة جناح الفراشة مرة أخرى. الصياغة الحالية لهذه
النظرية، والتي تنص على أن رفرفة جناح فراشة على سواحل الصين قد تسبب إعصاراً مدمراً
على سواحل أمريكا، هذه الصياغة تعني بشكل بسيط أن تأثيرات متناهية الصغر قد تتسبب
في أحداث عظيمة.
من خلال سورة الرحمن وعلاقة النجم والشجر بالسجود يمكننا
القول أن أي خلل في الاتزان البيئي الأرضي قد تجد صداه بين النجوم والمجرات. لذلك
جاء التنبيه الإلهي والإرشاد الرباني للإنسان باستخدام المصادر المتاحة، وفهم هذه
العلاقات للحفاظ على هذا التوازن.
أهم هذه المصادر المعرفية التي يمكن للإنسان من خلالها فهم
الكون وسبر أغواره هو القرآن، وتحديداً القرآن الذي علّمه الله وميزه، ووضع فيه
أسرار الكون، وطالب الإنسان بالاستيضاح والتحليل والاستنتاج، وهو على ذلك مؤهل
لبيان ما في القرآن بما حباه الله من عقل وقدرات معرفية هائلة.
سوف ندرك شناعة الجريمة التي اقترفها الداعون لبقاء القرآن
أسيراً لفهم السابقين، عندما ندرك كم الآيات التي تفك ألغاز وأسرار هذا الكون،
وكيف أن الإنسان في رحلته هذه مطالب بالكشف عنها. سوف ندرك أن مجرد التخلي عن هذا
الدور والرضوخ للواقع المجتمعي الكئيب هو تخلٍ عن عبادة الله، وأن الداعين لذلك
أبعد ما يكون عن مراد الله.
الآية العاشرة: ( والأرض وضعها للأنام) (سورة الرحمن: آية
10)
هذه الآية كذلك تصف حالة استثنائية؛ وهي أن الأرض نقطة
الانطلاق، فكيف ذلك ؟
الآية تشير إلى أن الأرض وضعت للأنام، وأصل كلمة (أنام)
تعني الجمود وسكون الحركة. السكون هنا ليس مطلقاً أبداً، وإنما سكون نسبي. وكما أن
النوم هو مرحلة سكون يسبق الاستيقاظ في الأرض، كذلك وضعت الأرض -كما يبدو من الآية
الكريمة- محطةً أو استراحةً تسبق الانطلاق. هذه الحالة الاستثنائية نجدها مكررة
دوماً في استقرار وسكون النائم، كأنها تجهيز لحالة الحركة التي سوف تدب في النهار،
و سكون البذرة في الأرض ما هو إلا تجهيز لنموها وانطلاقها في رحلة تزهيرها.
من هنا نستطيع القول، وبناء على مسمى سورة الرحمن: إن الأرض
هي نقطة الانطلاق نحو الكون، أو أنها مصنع تجهيز الإنسان ليأخذ مكانه في هذا
الكون. اسم الرحمن ومعاني الكلمات تأخذنا رغماً عنا لهذا المعنى وهذا المفهوم،
وتأبى أن تتركنا في أحلامنا، التي تزعم أن الإنسان هو مركز الكون، وأنه بموته سوف
يتنعم، ويدخل عالماً لانهائياً من اللهو واللعب. يتم إعداد الإنسان على قدم وساق للانطلاق، هذا ما يمكننا فهمه من
خلال سورة الرحمن، ومن خلال هذه الآية الكريمة (الأرض وضعها للأنام).
الآيتان الحادية عشر والثانية عشر: (فِيهَا فَاكِهَةٌ
وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ
((12)(سورة الرحمن: آيات 11- 12).
مخطئ من يظن أن هذه الآيات بهذه البساطة التي فسرها بها
المفسرون القدماء؛ هذه الآيات تتحدث عن المملكة النباتية بشيء من التفصيل. لفظ
(ذات الاكمام) يشير إلى تفاصيل وتراكيب نباتية، لسنا أهلاً للخوض فيها. ربما قرأ
هذا الكتاب أحد المطلعين وأهل الاختصاص بالمملكة النباتية؛ فاستطاع من خلال المنهج
اللفظي الذي نستخدمه فهم هذه المسميات، وإلى ما تشير، وربما استطاع استنتاج
معلومات وعلاقات لم تكتشف بعد.
كل ما يمكننا قوله هنا: إنّ الحب و العصف والريحان تشير إلى
البذور ذات التركيزات العالية، سواء أهذه التركيزات غذاء أم طاقة، وكذلك إلى
الزيوت الطيارة؛ وهي المقصودة بالريحان. اكتفي بهذا القدر من هذه السورة فهي سورة
تحتاج ان نفرد لها كتاب خاص بها. ما كنا نود بيانه هنا هو العلاقة العجيبة بين
القرآن والإنسان وأن قول الله تعالى (فبأي
آلاء ربكما تكذبان) تشير إلى هذا الثنائي الرائع.
بعد استعراضنا لبعض الآيات من بداية سورة الرحمن، وبيان كيف
أن خلق الإنسان وآيات القرآن يجب أن يعملا سوياً تحت مظلة الرحمن، سوف نتعرف في
الفصل القادم على الدليل العقلي الوحيد على وجود الله، وكيف أن سورة الرحمن دفعتنا
لفهم هذا الدليل
Comments
Post a Comment