الفصل الثامن_ أولو الأمر
الفصل
الثامن أولو الأمر
أنزل الله الكتاب وتعهد بحفظ الذكر، حتى يكون المرجع أو
النص المؤسس لكل من يرغب في القراءة. لفظ (اقرأ) نفسه يوجه الناس إلى استعمال
العقل؛ لأنه ببساطة انتهى عصر التوجيه المباشر من الله. هل أرسل الله القرآن
وتركنا هكذا يموج بعضنا في بعض لا نهتدي، أم أنه استكمل التوجيه والإرشاد الرباني
بعامل مساعد آخر؟
العقل البشري غير متساوٍ في القوة لدى الجميع، فهل معنى ذلك
أن يتقاذف الناس الآيات يفسر كل منهم حسب ثقافته وحسب هواه، أم أن هناك حاكماً
لهذه العملية.
لا شك هناك حاكم، وحاكم قوي، قائم بالأساس على قدرة العقل
وقوته أيضاً، في التفريق بين الحق والباطل.
هذا العامل الأساسي أو الجسر بين باقي العقول والقرآن هو
ولي الأمر. (ولي الأمر) هذا المفهوم الذي تم اغتصابه من قبل السلطة، وتم تحريفه
كلياً ليتلاءم مع وصف السلطان، وهو وصف لا يمت بصلة من قريب أو بعيد لوصف الحاكم
أو السلطان. كل الذين جعلوا هذا الوصف وصفاً للسلطة الحاكمة و يروِّجون لهذا
المفهوم إنما يفترون على الله الكذب، وضيعوا مفهوماً من أعظم المفاهيم القرآنية،
الكفيلة بعودة لا أقول الأمة، ولكن بعودة الإنسان إلى ربه، وإعلاء كلمة الله،
بدلاً من حالة الضياع التي نعيشها.
رغم سيطرة مفهوم الحكام على مفهوم أولي الأمر، إلا أننا نجد
أن هناك من قال بأنهم العلماء، مثل الإمام مالك، وهناك من قال بل هم العلماء
والأمراء.
ولي الأمر
ما هو مفهوم (ولي الأمر)؟ وكيف حرَّف الناس هذا المفهوم؟
ولماذا نعتقد أن إعادة هذا المفهوم إلى وضعه الطبيعي هو بمثابة النقلة النوعية في
إعادة الإنسان إلى طريق الله؟
القرآن يرشدنا إلى أن مفهوم ولي الأمر هو متعلق بأمر الله،
وقد جمعه الله مع رسوله في السياق نفسه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
(سورة النساء: آية 59).
هذه الآية الكريمة التبست على الكثيرين، ولعمري إن رائحة
السياسية تفوح من التفسير التقليدي لها، ولا تحتاج لعظيم جهد لكي يدرك الإنسان هذا
الخلط. لكي نفهم من هم أولو الأمر لابد أولاً من فهم ما هو الأمر. ثم لابد أن
نتعرف على نوع الطاعة المذكورة في الآية الكريمة؛ حتى تتمايز الأمور، ولا تتداخل
المفاهيم.
طاعة الله وطاعة الرسول هي طاعة اختيارية، وليست إجبارية
كما ذكرنا في الفصل السابق. طاعة الله وطاعة الرسول هي طاعة معرفية، وليست طاعة إلزامية.
الإنسان مخير تماماً بطاعة الله وطاعة الرسول، والقرآن أثبت ذلك، ولا حاجة لنا في
إعادة هذا الإثبات.
حرية العقيدة والإيمان مكفولة، وإلا ما كان هناك حساب من
الأساس. ما علاقة طاعة ولي الأمر إن كان المقصود بولي الأمر هو الحاكم بالطاعة
الاختيارية؟
الحاكم طاعته ليست طاعة
معرفية أو طاعة اختيارية، ولكن هي على خلاف طاعة الله وطاعة الرسول طاعة إجبارية؛
إذ الحاكم لا يكون حاكماً إلا في وجود قوانين يلتزم بها الجميع، بغض النظر عن
اقتناع أو عدم اقتناع الإنسان بها بشكل شخصي. ليس لي علاقة باستخدام المسمى من قبل
بعضهم، أنا هنا أتحدث عن مدلول الألفاظ في كتاب الله.
بالنسبة إلى فرض الصلاة فأنت لك كامل الحرية في أن تصلي أو
لا تصلي، وليس عليك أي غرم في حياتك، ولكن عن طريق معرفتك تعلم جيداً أن الصلاة
فرض، وأنك مسؤول عنها أمام الله. بينما احترام إشارة المرور ليس اختياراً، وإنما
التزام، ومن يخالف ذلك يعرّض نفسه للمساءلة. إذن طاعة الله هي بالأساس قائمة على
حرية الإرادة، ومرتبطة بالمعرفة، بينما الحاكم لا يصح أن نصف العلاقة بينه وبين
الناس بعلاقة الطاعة، وإنما بعلاقة الالتزام، حتى دون قناعة كاملة.
اعتبار الحاكم هو ولي الأمر في الآية الكريمة اعتبار ساقط،
ولا يصح جمعه مع الله ومع الرسول. الحاكم لا يحكم باسم الله، ولم يحكم أحد باسم
الله سوى الأنبياء، وقد أنهى الله حقبة حكم الأنبياء كما بيّنا، عندما أعلن أن
خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم. لاحظ أن وصف رسول الله بالنبي لم يتم إلا
بعد هجرته إلى المدينة، حيث أصبح الحاكم الفعلي للمجتمع، لذا صح أن يسمى نبياً
إضافة إلى كونه رسولاً.
لذا اعتبار (ولي الأمر) هو الحاكم، ووضعه في المستوى نفسه
مع الله ورسوله هو انتكاسة وسوء فهم لوظيفة الحاكم. عدم إدراك مفهوم خاتم
الأنبياء، وعدم استيعاب الإعلان الإلهي بانتهاء حقبة الحكم باسم الله، جعل الناس
غير قادرين على فهم مفهوم ولي الأمر وإدراكه كما بيّنه القرآن. لو أدرك الناس ذلك
منذ البداية لما احتكر أحد كائناً من كان الحديث باسم الله، أو احتكر أحد القول
على الله، أو ادعى أي إنسان أنه مؤيد من الله، لكي يخضع الناس لسلطانه.
لم يتضرر الواقع السياسي لهذه الأمة قدر تضرره من هذا
المفهوم المغلوط عن ولي الأمر، وجعلِ الحاكم متحدثاً باسم الله لا يمكن مراجعته.
لكن هل هناك من دليل آخر على أن ولي الأمر ليس الحاكم،
وإنما متعلق بشيء أخر؟
بالطبع توجد أدلة كثيرة على ذلك، بل إن مفهوم ولي الأمر
أعمق بكثير، وسوف يقيم الحجة على الناس، وسوف يحول جميع العصور إلى عصور شبيهة
بعصر التنزيل.
هناك آية واضحة في سورة النساء، أشارت إلى صفة شديدة
الأهمية من صفات أولي الأمر، وهي القدرة
على استخراج الأشياء والاستنباط.
(وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ
فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ
قَلِيلاً) (سورة النساء: آية 83).
أصل كلمة يستنبطون هو نبط
وأصلها النُّونُ وَالْبَاءُ وَالطَّاءُ و تَدُلُّ عَلَى اسْتِخْرَاجِ شَيْءٍ.
وَاسْتَنْبَطْتُ الْمَاءَ: اسْتَخْرَجْتُهُ. الألف والسين والتاء تفيد الطلب فمن
هنا نجد إن لفظ يستنبطون تعني طلب استخراج الشيء. إذا كان الحديث عن الأمر الإلهي
فإننا نتحدث عن قدرة على استخراج معاني ومفاهيم من الأمر الإلهي.
أولو الأمر من خلال هذا النص هم أصحاب القدرات العقلية
القادرة على الاستنباط والتحليل، واستخراج الأشياء وبيانها، وليس الحاكم.
بل أن نغادر هذه الآية الكريمة، يبدو واضحاً من سياق الآية
أن الرسول المقصود هنا ليس شخص رسول الله، وإنما القرآن نفسه الذي يحمل رسائل
متعددة، فكل آية، ولا نبالغ إذا قلنا أن كل كلمة، بل وكل حرف، يحمل رسالة للإنسان،
وسوف يظل الإنسان بصفة عامة يستخرج هذه
الرسائل إلى يوم الدين وبالطبع أولوا الأمر هم حالة خاصة من البشر ولديهم قدرات
متميزة تؤهلهم لاستخراج هذه الرسائل.
هناك بعض الآيات الكريمة التي تشير إلى أن الرسول هو شخص
رسول الله، بينما في بعضها تشير إلى أن الرسول هو القرآن، وبعضها يشير إلى أن
الرسول هو ناقل الوحي، أو أحد الملائكة. مفهوم الرسول على أنه أيضاً الرسالة بشكل
مجمل عبر عنه الراغب الأصفهاني، عندما شرح مادة (رسل)، حيث قال: (والرسول يقال
تارة للقول المتحمل، كقول الشاعر: ألا أبلغ أبا حفص رسولاً، وتارة لمتحمل القول
والرسالة).
الآية الكريمة التي بين أيدينا توحي بذلك، بأن الرسول هنا
هو القرآن، وليس شخص رسول الله؛ إذ كيف نرده إلى الرسول وهو اليوم ليس بيننا. كذلك
قول الله تعالى (لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، عائد بالأساس على أولي الأمر، ولا
يوجد إشارة للرسول.
شيء آخر هام، وهو وجود الرسول شخصياً يلغي معه أي وجود آخر؛
فقول الرسول على أنه شخصٌ ناقل للرسالة يلغي تماماً أي دور لأولي الأمر. الآية
الكريمة تشير إلى رد الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر، ولا يمكن أن يكون لأولي
الأمر وجود إلا في غياب شخص الرسول البشري
وحضور الرسالة، والتي سميت هنا بالرسول، لحملها عدداً كبيراً من الرسائل الربانية،
والتي قلنا أنها لن تنتهي أبداً، وهكذا هي مستمرة.
لكن كيف نرد الأمر لله
ثم لرسوله ثم لولي الأمر؟
هذه الآية أشكلت على الكثيرين؛ إذ إن الفرق بين رد الأمر
لله ورسوله -سواء أهذا الرسول شخص أم الكتاب- غير واضح الحدود.
أولاً: رد الأمر لله هو الإخلاص لله في طلب الحقيقة، وتسليم
الأمر لله، بحيث يكون الإخلاص والحياد في معرفة الحقيقة هو العامل الأهم في الوصول
لحقائق الأشياء.
العامل الثاني: هو رد الأمر للرسول، وهنا عرض الأمر على
القرآن الذي أرسله الله لنا، على نحوٍ لا يجوز تجاوزه أو الافتراء بما ليس فيه.
العامل الثالث: هو رد الأمر إلى أولي الأمر، وهم الذين لهم
القدرة على الاستنباط.
إذن الآية الكريمة تحدد لنا ثلاث مراحل يجب أن يسلكها
الإنسان في معرفة ما غُم عليه، أولها الإخلاص لله، وطلب الحقيقة رغبة لله دون
تحيز، وثانيها عرض الأمر على كتاب الله،
فإن أعجزه الفهم لجأ إلى المرحلة الثالثة وهي ولي الأمر.
بغض النظر عن كون المقصود بالرسول هو شخص رسول الله، أو هو
القرآن، فإن مفهوم أولي الأمر لن يتأثر؛ إذ هم القوم أصحاب الاستنباط والاستنتاج،
وليسوا الحكام.
لكن لماذا توهم الناس أن الحاكم هو ولي الأمر، وصار إلى
يومنا هذا كحقيقة مسلمة؟
بعد وفاة الرسول كان الحاكم وتحديدًا الأربعة الذين تولوا
الحكم وإدارة الدولة بعد وفاة الرسول
صلوات ربي عليه هم أكثر الناس قربًا من رسو ل الله، وبحكم أهل ذاك الزمان
هو أكثر الناس دراية ومعرفة وقدرة على الاستنباط، فكان مقبولًا أن يتصف هؤلاء
بولاة الأمر رغم عدم تطابق اللفظ القرآني تمامًا مع مدلوله لدى الناس وقتها.
إن كان المفهوم ليس دقيقاً تماماً، ولكن يبقى له وجاهته في
وصف الحاكم بولي الأمر. يبدو أن هذا الوصف انتقل لكل الحكام بعد ذلك، وتم اتخاذه
ذريعة لتثبيت أركان الحكم؛ بسبب اعتقاد الناس بمشروعية الحاكم المستمدة من الله.
لا أعتقد أنّ مفهوماً كهذا تم تقديمه للحاكم على طبق من ذهب كان يمكنه أن يتخلى
عنه بسهولة؛ فهو ركن شرعي أصيل في الحكم، وإخماد أي تمرد، وفرض الطاعة على الناس
فرضاً.
بعد وفاة الرسول استلم البشر الزمام، وكان من المفتروض أن
يكون هناك حاكم، وذلك تطور طبيعي للمجتمعات يفرضُ الالتزام. وهناك أولو الأمر؛ أي
أصحاب العلم، والذي من المفترض أن تطيعهم الناس طاعة معرفية، في كشف أسرار ورسالات
هذا الكتاب العظيم، حتى تسير البشرية في طريقها الصحيح. ولي الأمر كما بيّن لنا
القرآن ليس صاحب سلطة، وإنما هو صاحب رؤية أو فكر أو تدبر معتبر.
حتى نضع النقاط على الحروف في مفهوم ولي الأمر، لابد لنا أن
نفهم ما هو الأمر؟ حتى ندرك من هو وليه أو صاحبه.
مدلول لفظ الأمر
بداية جاء لفظ (أولو) بمعنى صاحب تقول التفاسير، أو المتصف
بكذا، مثل أولو العزم، وأولو الألباب.
لا أجدني متفق تمامًا مع مدلول ( أولوا) هنا حيث أن مفهوم
(أولوا) عندي مشتق من الأولوية، وليس مجرد صاحب.
عندما يقول ربنا أولوا كذا فهذا لا يعني صاحب كذا ولكن يعني الأَوْلَىٰ (من
الأولية ) بكذا.
من هنا نقول بكل أريحية أن مفهوم أولوا الأمر أي الأَوْلَىٰ
بالأمر أو الأكثر جدار ة بالأمر.
لفظ (أمر) ذكر في كتاب الله في مواضع كثيرة جداً، ولكي
نحصيها بشكل عملي تحتاج لكتاب خاص بها. سوف نحاول قدر المستطاع فهم اللفظ من خلال
جذر الكلمة ثم تحليل بعض الآيات المفصلية في كتاب الله التي تناولت لفظة الأمر
ودلت عليه.
كما جاء في قاموس اللغة، فإن لفظ أمر له خمسة جذور لغوية
وهي:
الأمر خلاف النهي، وأيضاً هو
أمر من الأمور، وهو كذلك الأمر بفتح الميم النماء والبركة، والمعلم بسكون العين،
والعجب.
تبعاً للمنهج الذي نتبعه، فإن لكل كلمة حالة خاصة، وتعدد
الجذور إنما يعود لجذر واحد، ولكن يحتاج لمزيد من التدقيق والبحث. من خلال دمج
الجذور الخمسة، وفهم حالة كل جذر، سوف ندرك حقيقة معنى لفظ (أمر). دعونا نستعرض
الجذور الخمسة مع قليل من التحليل، ونحاول تحديد الحالة التي يصفها الجذر.
أولاً: الأمر ضد النهي
هذه الحالة هي إعطاء تعليمات بشكل واضح؛ لغرض تحقيق نتيجة ما،
أو دفع المأمور لفعل ما. الغرض من الأمر هنا هو إفهام المأمور مهمته، و إلمامه
بها، ولو أن الأمر غامض لما صح أن يسمى أمراً من الأساس.
ثانياً: الأمر من الأمور
هذا الأصل كقول الإنسان رضيت بهذا الأمر، وهنا أيضاً نرى أن
لفظ الأمر هو مجموعة من الترتيبات، والتي سوف يترتب عليها نتيجة، أو أدت بالفعل
إلى نتيجة ما. على سبيل المثال أمر الزواج، هو كل ما يتعلق بهذا الزواج من
مسؤوليات وترتيبات، وعندما يقدم شخص على أمر الزواج فمن المفترض أنه على دراية
بتبعات ونتائج وترتيبات هذا الأمر، ولو أنه لم يفهم ذلك جيداً لما صح أن يسمى
أمراً، بل يسمى أي شيء أخر.
لفظ (أمر) ذاته لفظ عظيم، ينطوي على كثير من التفاصيل، وليس
مجرد كلمة تقال، وسوف نقف على معنى هذا اللفظ، عندما نقارن بين لفظ (كتاب) ولفظ
(الأمر)، والذي كل منهما ينطوي على المعنى نفسه.
ثالثاً: أمر بمعنى النماء والبركة
هذا المعنى بعيد تماما عن مفهوم الأمر ربما كان النماء
والبركة أحد المعاني الفرعية للفظ الأمر، ولكنه ليس المعنى الرئيس.
رابعاً: الأمر بمعنى المَعلَم
وهذا الأصل بمعنى الأمارة أو الإشارة بلغتنا المعاصرة، وهي
كذلك بعض الدلائل التي تشير إلى شيء ما، يستطيع من خلاله الإنسان استنتاج نتيجة
معينة، وفهم هذا الأمر. يقال أيضاً للشخص الذي يقود مجموعة من الأشخاص الأمير؛
نسبة لقيامه بأمر المجموعة التي يقودها. والقيام بالأمر هو الإلمام بتفاصيل
الأشياء، والتعامل معها باقتدار وحكمة.
خامساً: أمر بمعنى العجب
كقول الله تعالى (لقد جئت شيئاً إمراً). هنا نرى أن إمراً
لا تعني العجب، وإنما تعني الشيء المدبر بقصد، ومرتب عن عمد، وهو الحالة نفسها
التي تشير إليها كلمة أمر. جئت شيئاً إمراً؛ أي عمدت وقصدت ما فعلت بتدبير وتقدير،
وليس بشكل عشوائي.
المتتبع لكتاب الله، ولفظ (الأمر) الوارد في كتاب الله، لن
يستغرق وقتاً حتى يدرك أن لفظ (الأمر) يعني تعليم معين أو إرشاد محدد يحمل قدر من
المعلومات للتعامل مع حالة ما. ميكانيكية عمل الأشياء هي في حقيقتها مجموعة من
الأوامر وفهما يتطلب جهدًا مبذولًا.
عندما يقول ربنا (يدبر الأمر)؛ أي يضع التقديرات
والتعليمات، والتي يمكن من خلالها فهم عمل الأشياء، وبالتالي التعامل معها باقتدار.
يبدو من مفهوم الأمر أن هناك تداخلاً بين مفهوم الكتاب
ومفهوم الأمر، إذ إن الكتاب هو مجموعة التعليمات والتقديرات التي تختص بشيء معين،
بينما قد يظن بعضهم أن الأمر هو الشيء نفسه.
الأمر هو جزء من الكتاب إذ أن كل كتاب في حقيقته هو مجموعة
من الأوامر المعنية بوصف الأشياء التي يتضمنها الكتاب وصفًا دقيقًا ومحكمًا.
من هنا يمكننا القول أن ولي الأمر هو من له القدرة على
التعامل على الأقل مع احد هذه الامور من
فهم جوانب هذا الأمر وتحليل علاقاته والإحاطة به قدر المستطاع.
الآيات التالية سوف تزيد الرؤية وضوحًا عن مفهوم الأمر، و
مفهوم ولي الأمر.
الآية الأولى:
(رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي
الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ
التَّلَاقِ) (سورة غافر: آية 15).
ذهبت التفاسير إلى أن معنى يلقي الروح من أمره على من يشاء
من عباده، تعني الوحي على رسل وأنبياء الله.
لابد أن نفرق بين وحي الرسالة وإلقاء الروح من أمره على من يشاء من عباده.
وحي الرسالة سمّاه ربنا تنزيلاً، وهذا التنزيل إما وصفه ربنا بالكتاب، أو بالقرآن،
بينما تنزيل الأمر أو إلقاء الأمر هو الخاص بالتدبر، أو بتكشف شيء أو بعملية الفهم.
الآية التالية ترشدنا إلى هذا المعنى دون مواربة:
(وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا
مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ) (سورة الشورى: آية 52).
نستطيع أن ندرك بسهولة أن روحاً من أمرنا خاصة بمسألة
الإدراك والوعي أو المعرفة بالكتاب، وكذلك الإيمان، وليس محتوى الكتاب. الفرق بين
وحي الرسالة وروح الأمر، هو الفرق بين القرآن والتفاعل مع القرآن؛ بين التنزيل
وبين التآويل.
لذلك وحي الرسالة ملزم، ليس للرسول دخل فيه، بينما روح
الأمر هو قدرة الرسول أو الإنسان على التعامل مع المنزَّل وفهمه وإدراكه، من خلال
إطاره المعرفي.
يمكن أن يكون روح الأمر بالنسبة للرسول هو وحي النبوة،
بينما إلقاء الأمر على آخرين خلاف الرسل، أو بعد انتهاء النبوة هو روح الأمر، دون
النبوة.
إذا كانت الرسالة تأتي من خارج الإطار المعرفي للرسول، فإن
الأمر لابد أن يأتي من داخل الإطار المعرفي لولي الأمر، حتى يستطيع التفاعل
والتعامل معها.
الآية الثانية:
(يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ
عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ) (سورة
النحل: آية 2).
الآية هنا أيضاً تتحدث عن الشيء نفسه، وهو أن الأمر وحي إلهي،
ولكن ليس وحي رسالة؛ لأن الروح كما بيّنا في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب هي
العملية الخاصة بالوعي والإدراك. طالما أن الروح خاصة بالوعي والإدراك فلابد أن
يكون الأمر من داخل الإطار المعرفي لمتلقي الأمر، وهذا يتنافى مع وحي الرسالة.
التعبير القرآني (على من يشاء من عباده) يشير إلى أن الأمر
يُلقى على العباد بصفة عامة، وليس خاصاً بالرسل تحديداً. التعبيرات القرآنية شديدة
الدقة، والآيات مترابطة، ولا يمكن القفز فوق الآيات، واعتبار أن هذه الآية خاصة
بالرسل خصوصًا، في ظل وجود تعبير أولي الأمر.
هذه الإشارات لا يمكن تجاوزها؛ إذ إن الأمر ليس رسالة محددة
الأطر، بل هو استنباطٌ واستخراجٌ واستنتاجٌ وإدراكٌ. لذلك وظيفة الرسول هي
التبليغ، بينما وظيفة ولي الأمر هي محاولة التأويل، و الوظيفتان متكاملتان تماماً،
إذ كل منها يقول للناس أنه لا إله إلا الله. لا إله إلا الله تعني لا اختلاف،
وتناسق وانسجام. لذلك عندما يحدث اختلاف بمعنى التعارض فلا بد من شحذ الهمم، لبيان
هذا التعارض، وتفنيده بشكل منطقي وعلمي، لا بشكل تبريري.
مهمة الرسل والأنبياء وأولي الأمر هو أن ينذروا أنه لا إله
إلا الله، من خلال فهم العلاقات وانسجامها مع بعضها بعضاً لأن مصدرها واحد فلا
اختلاف ولا شذوذ ولا عشوائية. لذلك كل من يساعد في بقاء التعارض والاختلاف من خلال
التبرير السخيف، أو ترديد الأساطير، هو في الحقيقة يعمل ضد لا إله إلا الله.
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (سورة النساء: آية 82)
الآية الثالثة:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (سورة الإسراء: آية 85).
هذه الآية يستدل بها المفسرون على غموض الروح، وعدم السؤال
عنها، رغم أن الآية صريحة، وهي إجابة عن ماهية الروح، وليس زجراً للإنسان عن
السؤال عن الروح. ببساطة شديدة تقول الآية: إن الروح من أمر ربي، أي أن الروح على
علاقة وثيقة بأمر الله، ولو استعرضنا الآيات السابقة التي ربطت بين الروح والأمر،
لأدركنا أن الروح هي حامل هذا الأمر الذي يوحيه الله لمن يشاء من عباده.
بالطبع مفهوم الروح الذي نتداوله على أنه الشيء الذي يهب
الحياة للإنسان، ومن ثم نقول تجاوزاً خرجت روحه دليلاً على موته، هو مفهوم خاطئ
بالمرة؛ فما يهب الإنسان الحياة هو النفس، وعندما تخرج يحين الموت.
الروح كيان خاص بالوعي والإدراك والمعرفة وتمييز الأشياء.
الذين يتلقون الأمر من خلال الروح هم فئة معينة كما ذكرت الآيات، على رأسهم أولو
الأمر. سوف نفصل هذه المسألة تفصيلاً دقيقاً، عندما نأتي على سورة النجم، والحديث
عن الصاحب المذكور في السورة، وعلاقتها بالوعي المعرفي في الكتاب القادم إن شاء
الله. ارتباط الروح بالأمر، ومن ثم بالعلم في الآية الكريمة، يوضح لنا أن العملية
كلها خاصة بالإدراك والوعي والفهم، والقدرة على التعامل والتفاعل، وليست خاصة
برسالة محددة ملزمة.
العلم الذي تناولناه في أكثر من موضع، هو فهم ميكانيكية
الأشياء، والتعامل معها، وليس مجرد حفظ تعريفات وتخزينها. العلم هو عملية المعالجة
التي تتم على المعلومات أو المعرفة المتراكمة سابقًا، لذلك جاء ذكر (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ
قَلِيلاً) مناسباً تماماً ومتوافقًا مع ذكر الروح والأمر، المتعلقَين بالشأن نفسه.
المهدي المنتظر
رغم عدم ورود أي ذكر صريح لما يسمى بالمهدي، أو المهدي
المنتظر الخاص بأحداث آخر الزمان، إلا أننا نستطيع من خلال إدراك مفهوم ولي الأمر
إيجاد علاقة وثيقة بين ولي الأمر وما يسمى بالمهدي المنتظر. قد يكون مفهوم المهدي
المنتظر قد وجد طريقه إلى التراث الإسلامي من خلال محاولة فهم ولي الأمر، وعلاقته
بالأمر الذي يتلقاه من خلال الوحي الإلهي، ثم كعادة البشر تم تضخيم القصة، وخروجها
عن سياقها، وأصبح لكل مذهب روايات عن هذه الظاهرة، والتي لو عدنا إلى كتاب الله
لوجدنا أن لها جذوراً، ولكن ليس كما ترويها المرويات.
يبدو لي أن ولي الأمر هو الوضع الطبيعي، وامتداد عادل
لمفهوم النبي. فكما قلنا أن الأمم السابقة كانت تساس بالأنبياء، فإن الأمم اللاحقة
سوف يكون فيها أولوا الأمر أي الأجدر والأكثر قدرة على التعامل مع التعليمات أو
الإشارات التي تضمنتها آيات الله سواء اللفظية او الكونية. إنه نوع من العدالة
الإلهية، حتى تنال كل أمة نصيبها، ويتعرض أفرادها لاختبار قبول الحقيقة، أو رفضها،
أو الإعراض عنها كما تعرضت لها كل الأمم والمجتمعات ولكن الأكثرية دائما لا يدركون
الأفكار الجديدة في وقتها.
هذا ليس أمر مستغرب فلكي يتعامل العقل مع أفكار جديدة، يحتاج إلى وقت لمعالجة الأمور ومن ثم قبولها أو
رفضها وكل عقل بشري يختلف في طريقة تعاطيه مع الأفكار الجديدة والوقت اللازم لكي
يعالج هذه الأفكار. لا عجب أن كل أمر جديد
لا يلقى ترحيب في البداية ولكن بعد مرور وقت طويل يصبح من المسلمات لدى الناس وذلك
بسبب تفاوت القدرات العقلية للناس.
نسبة قليلة جدا من الناس من يدركون ويقبلون الأمر الجديد في
بدايته، ثم يتبعهم الأقل فالأقل؛ وهناك من
ينقضى عمره ولا يدرك شئ على الإطلاق. بصفة
عامة، تطور البشرية وتعاقب الأجيال يساعد على هضم الأمور الجديدة ومن ثم اعتناقها.
الأسف والحسرة تقع على فئة من أكثر الفئات جهلًا وهذه الفئة لديه ثقة عجيبة في نقد
ما لا تعرف ومعارضة ما لم تحط به علمًا، فتعطل مسيرة الإدراك والوعي البشري بسبب
ثقتهم الزائدة وتصريحهم بهذه الثقة الناجمة عن موروثات لا عن علم ودراسة وتدقيق وفحص.
أشفق كثيرًا على هؤلاء المساكين، فهم يحملون أوزارًا مع
أوزارهم ليس لهم فيها ناقة ولا جمل سوى عاطفة تدفعهم دفعا لتبني مفاهيم ورثوها دون
اختبار.
لو إن لي حق النصيحة لقلت لكل
شخص يتسرع في معارضة أو مجابهة أمر
ما؛ توخى الحذر فالأمر أخطر مما تعتقد ولا
تحمل نفسك ما لا طاقة له به.
ماذا لو أن الأمر الذي عارضته ورفعت راية التكذيب في وجه
كان سليمًا وكان رأيك الذي استقيته من آخرين خطأ؟
انت بذلك أيدت الضلال وحاربت الحق وساهمت في طمس الحقيقة
وكبلت نفسك بقيود أنت في غنى عنها وخضت معركة لا تدري عنها أي شيء. بنفس المنطق
أقول لكل من يتبنى فكرة جديدة لم يختبرها جيدًا ولم يدرسها ماذا لو أن هذه الفكرة
كانت باطلة أن انها كانت محض خيالات لا تقوم على أسس.
كلا النمطين وقع في الفخ وحمل نفسه أوزارا وناصر ما لم
يختبر. لا تدافع أو تهاجم إلا بعد قناعة
حصلت عليها من البحث والاجتهاد قدر استطاعتك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ثق في عقلك ولكن قبله اجعل الإخلاص مركبا لأن
الإخلاص هو العذر الوحيد الذي يمكن أن تقدمه لله حين يسألك لماذا ناصر أو أيدت أو
عارضت. الإخلاص مسالة لا يمكن لاحد أنة
يقيسها سوى الشخص نفسه ولايمكن لأحد إن يعلم حقيقتها إلا الله لذلك توخي الحذر
وبذل قصار جهدك ولا تلقي كلمة لا تدرك عاقبتها.
يظن بعض الناس أنهم بحاجة النبي ولو جاء النبي بكل بآية، ما
وسعهم إلا تكذيبه ومعارضته، طالما أن
نمطهم الفكري نمط متسرع في الحكم على الأشياء دون استبانه. لقد تطورت العقول وحضر
مفهوم أولي الأمر متناسبًا مع هذا التطور لكنها طبيعة متأصلة في البشر، الشك والريبة في كل ما لم
يألفوه ولم يجدوا عليه أبائهم. أبائهم
السابقين في عصورهم كانوا قلة والاكثرية كانوا مكذبين، إنها سنة من السنن الكونية
فمن يدرك هذه السنن ويصبح من السابقين.
يختلف النبي عن ولي الأمر في كون النبي مكلفاً تكليفاً
صريحاً من الله، بينما ولي الأمر ليس كذلك. ومن يظن أن مفهوم ولي الأمر مفهوم يوجب
التقديس والتسليم بما يقول فهو لا يدرك السنن الكونية والإشارات الإلهية التي تدفع
الناس دفعًا للرقي والتطور والتحرر
المعرفي وعدم اتخاذ الأرباب.
البشرية تسير في اتجاه النضوج، وإدارة شؤونها، وتحمل
مسؤوليتها كاملة، وهذه هي عين العبادة لله. كل وصاية بشرية تحت أي مسمى هي مفهوم بدائي، وأي ادعاء بامتلاك
الحقيقة المطلقة هو إدعاء طفولي للغاية. الحكم بين الناس وبين ولى الأمر أو العالم
أي عالم هو موافقة المفاهيم المطروحة للمفاهيم العقلية، وارتباطها وتماسكها بشكل
منصف دون تحيز.
لا يجب أن يكون مفهوم ولي الأمر باباً يدخل منه كل متنطع،
بحيث يزعم أنه ولي من أولياء الأمر، ويطلب من الناس السير خلفه. هذا النموذج
نموذجٌ مشعوذ، ليس له قيمة؛ إذ تشير الآيات إلى أن ولي الأمر من العلماء، وما
يقوله يتوافق مع العلم ولا يتعارض. فوق ذلك أرشد القرآن إلى أنه في حالة حدوث خلاف
نرد هذا الخلاف إلى الله؛ أي عدم التحيز، والإخلاص لله في فهم الحقيقة، ثم عرض
الأمر على الرسول.
الرسول هنا هو القرآن الباقي بيننا، وليس الرسول شخصياً؛
لأنه غير موجود بيننا. هذا يعني مطابقة ما يقوله ويستنتجه ولي الأمر مع ما جاء في القرآن، والقرآن حصرياً، بشكل علمي دون تحيز وبتجرد شديد لمعرفة
الحقيقة، فإذا وُجد تعارضٌ، هنا يُرد أمره
ولا يعول عليه.
ولي الأمر أو العالم
بصفة عامة الذي تتعارض أفكاره ورؤيته للأمور مع الأدلة والبراهين شديدة
الوضوح ( لاحظ الفرق بين الدليل وبين
الحيلة) لا يعول عليه لا يؤخذ منه شيء. من يصر على قول ليس عليه دليل مقابل الدليل
فقد افترى إثمًا عظيمًا وحمل بهتانًا كبيرًا.
أما إن تطابق الأمر ولم يتعارض مع كلام الله فوجب هنا
الطاعة، وهي الطاعة المعرفية، وليست طاعة إجبارية. الطاعة المعرفية تتمثل في
استبدال الصواب بالخطأ، وإماتة الباطل والخرافات، ونشر العلم، وتشجيع الفكر
والتدبر.
التحول الذي أشار إليه القرآن الكريم من مرحلة النبي إلى
مرحلة ولي الأمر، قائم بالأساس على تطور القدرات العقلية للإنسان بصفة عامة، فمن
جانب يستطيع من خلالها ولي الأمر الاستنتاج والاستنباط، وعلى الجانب الآخر يستطيع
المتلقي القياس والفرز، وبيان الصحيح من المزيف.
هذا الانتقال الرائع أسس لمرحلة جديدة تماماً، وهي مرحلة
تقديم العقل، والذي تم تحريفه بامتياز، ووُضع بدلٌ عنه تقديم النقل.
هل يمكن أن نفتح الباب بتفسير كهذا لكل قائل أن يقول في
كتاب الله، ثم يدعي أنه ولي من أولياء الأمر؟
هل سوف ندخل في سلسلة لا تنتهي من الفذلكات والتأويلات كل
حسب هواه؟
عرض مثل هذا التساؤل ساذج لأقصى درجة؛ لأن قبول المفاهيم ليست
هكذا سهلة مباحة، إلا عند الذين لا يعقلون، أو الذين يتبعون هواهم. وضعَ القرآن
الحدود، وزيادة في التأكيد مدح الله تعالى في كثير من المواضع الذين يعقلون،
والذين يتدبرون. المسألة لم تعد وصاية من أحد، ولا ادعاء بامتلاك الحقيقة، وإنما
ولي الأمر يبذل قصارى جهده، وهو غير معصوم، ومعرض للخطأ، ومتلقٍ مطالب بتحكيم عقله
وبصيرته دون أي أهواء.
هذه الطريقة وحدها هي الطريقة
الضامنة لتجدد الأمة، واستمرار انبثاق المعارف في عقول أفرادها إلى يوم الدين.
كيف نعتق أفكارًا معينة
والأفكار نسبية وقد يتبين خطأها فيما بعد؟
هناك بعض الأفكار المزعجة والتي يمكن إن تطرق عقولنا من
فترة إلى فترة، و تسبب كثير من الحيرة بل وأحيانا تسبب تشويش خصوصًا على أولئك
الذين لديهم قدر معين من الثقافة.
أحد هذه الأفكار هي كيف لنا أن نعتق أحد هذه الأفكار وماذا
يمكن إن يحدث إذا اكتشفنا إن الحقائق التي اعتنقتها اليوم قد ثبت خطأها غدا؟ البعض لا يحب التعويل على المعرفة كثيرًا
وتراه زاهدًا لأقصى حد بسبب تغير الحقائق من وجهة نظره. كثير من الناس ينخدع بوجهة
النظر هذه فتجده لا يلقي بالًا للمعرفة حوله معتقدا أنه لا داعي لذلك.
هل هذه الحجة ذات وجاهة منطقية، (حجة إن الحقائق متغير ة
ولا يجب التشبث بها بل والزهد) أم مخادعة؟
متبني هذه الحجة حضر في ذهنه شيء ولكن غابت عنه أشياء.
الإنسان ليس ربًا وليس إله ولا يمكن إحاطته بعلم أو بقدرة ما بشكل كامل. المعرفة على مر التاريخ معرفة
متراكمة والمعرفة والأفكار تصحح نفسها بنفسها والإنسان بعمره القصير هو حلقة من
حلقات التطور المعرفي للبشرية بصفة عامة.
تخيل إن الإنسان الأول اعتنق
مثل هذه الفكرة الخبيثة، هل كان لنا من أمل في الوصول إلى التراكم المعرفي الهائل
الذي وصلت إليه البشرية.
الإنسان مطالب بتبني الأفكار في عصره التي تطابق مفاهيمه
العقلية والتخلي عن الأفكار التي ثبت خطأها باستمرار وهذا هو الضامن لتجدد البشرية
وتطورها المعرفي.
لا حرج أن يتبنى الإنسان في العصور القديمة مسألة أن الأرض
مسطحة بسبب نقص الأدوات التي يمكن أن تثبت
ذلك.
لا مشكلة على الإطلاق إن يقول الإنسان بالخلق المنفصل مقابل
التطور في غياب الأدلة المنطقية والعقلية المقبولة . هكذا جميع الأفكار على جميع
المستويات يعتنق منها الإنسان ما يتوافق مع مفاهيمه العقلية في العصر الذي يعيش
فيه. هذه الأفكار سوف يتم دراستها
باستمرار وعندما يتم إثبات خطأ أيا منها فلابد للجيل الجديد اختبار أفكاره مرة
أخرى واعتناق ما يتوافق مع مفاهيمه العقلية في ذلك العصر.
إنها دورة مستمرة ينتج فيها الإنسان بصفة عامة أفكارًا ويتبنى المطابق منها مع العقل والمنطق
وينبذ ما يضادهما. بهذه الطريقة تتطور المعارف وتسير البشرية سيرها الطبيعي من
التطور والتقدم والرقي.
الإنسان ليس حاكما على الحياة وليس له القدرة على ذلك ولذلك
لا يُكلف إلا وسعه ولا يُحّمل إلا طاقته.
القفز على هامة الزمان ورفض الحقائق الحالية المتطابقة مع
العقل والمنطق بحجة أن الحقائق متغيرة ومن يدريني أن ما اقبله الآن سوف يرفضه
الجيل القادم في المستقبل؛حجة بليد المعرفة عاجز الإدراك يظن نفسه حاكمًا على
الحياة ومسيطرا على أدواتها.
إنه نوع من الغرور الممقوت وكسل مقنع بالثقافة وهو سلوك
مدمر للمعرفة ومن ثم للبشرية . غالبا لا يدرك الإنسان حجمه الحقيقي ويبالغ في
تقدير ذاته ويظن أنه مركز الكون وأن كل شئ يدور حوله وهو ليس إلا حلقة من حلقات
هذا الكون. هذا الإنسان يقضم أكثر مما يهضم ويساهم في ثبات البشرية المعرفي
وتجمدها عن طريق ترغيب الزهد في المعرفة في شكل فلسفة ارتدادية و منطق معوج.
شيء من التواضع وعدم المبالغة في تقدير الذات سوف يمنح
الإنسان فرصة جيدة في اختبار ما بين يديه حاليًا، وأقصد حاليًا كل عصر من العصور،
ومن ثم قبول ما يتوافق مع العقل والمنطق ورفض ما يتعارض معهما بمقاييس العصر الذي
يعيش فيه هذا الإنسان.
هذه الفكرة تمنحنا كذلك احترامًا للعصور السابقة أو على
الأقل عدم تحامل من خلال قياس معارفها على
معارفنا حيث كثير من المفكرين المعاصرين يظنون على المستوى الدينى أن السابقين
كانوا أفاقين أو جهلة أو مدلسين. كل عصر مليء بهذه الأنماط ولكن التعميم
خطير. ليس معنى أن إنسان العصر القديم دون
بعض المعلومات التي نظنها اليوم خرافات، انها كانت خرافات بالنسبة له.
لا شك أن ما دونه المفكر القديم أو الباحث القديم كان وقتها
موافقًا للمفاهيم العقلية في عصره، فلا يجب التحامل الشديد عند نقد القديم وإغفال
هذا البعد شديد الأهمية.
المشكلة تكمن عند من لا يدرك التطور المعرفي فيظن أن القديم
أكثر علمًا وإدراكًا، فيحاول الطرف الأخر تسفيه القديم وازدراء انتاجه . المسألة ليست معركة؛ سوف ينتهي هذا التشابك في
اللحظة التي يتم عندها فهم التطور المعرفي
للبشرية ودور الإنسان في هذا التطور.
إنسان كل عصر لديه مهمة نبيلة وهي قبول ما يوافق العقل
وعندما يظهر خطأ يجب أن يساهم في دحض هذا الخطأ بالقدر الذي يستطيع. للاسف الشديد
هم قلة في كل عصر من يدركون ذلك والأكثرية مستميته في إبقاء الوضع على ما هو عليه،
إما باعتناق الأفكار القديمة رغم وضوح خطأ استدلالها وهذا التيار يمثله
التراثيون. أو تسفيه المعرفة الجديدة والتقليل من شأنها وهذا
التيار يمثله ثلة من المفلسين فكريًا و
أدعياء الثقافة.
حتى تكتمل الصورة لابد أن
نوضح الحدود بين ثلاثة مفاهيم رئيسية نوجز ما توصلنا إليه في هذا الكتاب والكتب
السابقة لهذه المفاهيم ، حتى لا ينخدع الناس و ينجرفوا خلف كل قائل، وخلف كل من
يحاول التجديد، دون أي رابط أو رقيب.
المفاهيم الثلاثة التي يجب أن ندرك معناها وفحواها، هي
مفهوم أولي الأمر، ومفهوم الراسخين في العلم، ومفهوم الأميين. ومن خلال بيان الفرق
بين هذه المفاهيم أعتقد أنه لن يكون هناك ارتباك في تبيُّن الحقيقة والسير خلفها.
المفهوم الأول: أولو الأمر
ولي الأمر كما بينا هو الأجدر من العلماء والأكثر دراية
بمكنون الأشياء، الذين لديهم قدرة على الاستنباط والاستنتاج، إضافة إلى ذلك هناك
الإلهام الإلهي، أو الروح الذي يختص الله بها هؤلاء أو ما يمكن ان نسميه توفيق
الله في فهم امر ما.
قد يمكننا فهم دور أولي الأمر، عندما ندرك أن بعض الأشخاص
قد حباهم الله بقدر من الفهم والإدراك، بخلاف الآخرين، وهذا الفهم لابد أن يكون
منطقياً ومعقولاً ومتوافقاً مع كتاب الله.
ورود لفظ الأمر
بصيغة المفرد، لمحة عجيبة لابد أن نقف
عليها ولا ندعها تمر هكذا.
القرآن مليء بالنظريات المعرفية، والكون كذلك مشحون
بالآيات البديعة والتي تشرح وتفصل كل شيء.
ليس معنى أن يفتح الله على يد أحدهم في أمر ما، أن هذا الإنسان محيط بكل أمر وعالم بكل شأن.
قد يكون إلمام هذا الإنسان
بأمر ما إلمام جيد وهذا لا يعني أن لديه إلمام مطلق بكافة الأشياء. إنه
تنبيه للناس بعدم الانخداع، فليس معنى أن إنسان أجاد وفتح الله على يديه أمر ما
فقد أصبح خبيرا بكل أمر يصول ويجول فيه كيف يشاء ويتابعه الناس على ذلك. إنها الإشارة الدائمة التي نقرأها في آيات الله
عن اختبار كل معرفة جديدة وعدم التسليم
دون تحقق.
المفهوم الثاني: الراسخون في العلم
الراسخون في العلم؛ أي الثابتون في العلم، وهو مفهوم متكامل
تماماً مع مفهوم أولي الأمر. الراسخون في العلم هم الأقدر على فهم ما جاء به ولي
الأمر، والتعامل معه. الراسخون في العلم هم حلقة الوصل، ودورهم تأصيل الفكرة،
ودراستها، وتقديمها للناس بكل السبل.
أستطيع ضرب مثال للتفرقة بين
مفهوم ولي الأمر ومفهوم الراسخين في العلم لتقريب الصورة. مثل ولي الأمر مثل
العالم المؤسس لنظرية جديدة، ومثل
الراسخين في العلم مثل المتعاملين مع هذه النظرية، ومن يكشفون كل جوانبها
ويدرسونها.
من غير الراسخين في العلم سوف
تظل النظرية مجرد كلمات، ولكنّ تولي الراسخين في العلم دورهم سوف يحقق مراد الله
تعالى منها، بحيث يتم اختبارها، وتهذيب جوانبها، وتقديمها للناس كمعرفة تضاف
للمعارف المتراكمة لديهم.
المفهوم الثالث: الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني
هذا المفهوم تم شرحه بالتفصيل في الجزء الثالث من كتاب تلك
الأسباب الطور، ولا ضير أن نمر عليه سريعا لنذكّر به.
خلاصة ما تم استنتاجه من هذا المفهوم هو أن الأمي كل من
يأتي بفكرة جديدة. ليس شرطاً في الفكرة التي يأتي بها الأمي أن تكون صحيحة، بل
يمكن أن تكون فكرة جديدة ولكنها غير صحيحة. الفرق بين الأميين وأولي الأمر هو أن
أولي الأمر أكثر شمولية من مفهوم الأميين. كذلك مفهوم أولو الأمر لم يذكرهم
القرآن بأوصاف سلبية لأن لهم اتصال روحيًا
كم بينا ، بينما مفهوم الأمي فيه احتمالية الخطأ، وهم الأميون الذين لا يعلمون
الكتاب إلا أماني حيث تتجاذبهم كثير من العوامل.
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (سورة البقرة: آية
73
لكن كيف يحصل الأمي على فكرة جديدة، ولكنها ليست صحيحة؟
يحدث ذلك بكثرة عندما يتغلب على الأمي التحيز المعرفي، أو عندما لا يستخدم منهجاً
صحيحاً في استنتاج الفكرة، أو عندما يكون راغباً في إثبات فرضية معينة بغض النظر
عن النتائج؛ أي تطويع النتائج لما يعتقد. هؤلاء الأميون وصفهم الله بأنهم لا
يعلمون الكتاب إلا أماني. مشكلتهم أن أمانيهم غلبتهم، فجاءت استنتاجاتهم تبعاً
لأمانيهم فتشوشت الأفكار.
للأسف الشديد العالم يموج بالأميين الذين لا يعلمون الكتاب
إلا أماني، ويستطيع كل متدبر عاقل اكتشافهم، بمجرد عرض ما يقولون على العقل، وتتبع
نتائجهم.
إن كنا نعيب على التقليديين تحجر عقولهم وقدراتهم المتواضعة
في معالجة الأفكار، و يتفاخرون هم بأنهم دارسون،
رغم وضوح تقليدهم ونسخهم لمن سبقهم دون أي مجهود فكري. فإن الأميين بمفهومه
السلبي هم الذين يفكرون دون دراسة وتملكهم غرور معرفي زائف.
البشرية ليست بحاجة لهذه الأنماط الشاذة والمنفردة والتي
غالبًا متعصبة لأقصى درجة في تبني وجهات نظرها( الأميون) أو وجهات نظر غيرها(
التقليديون). إننا بحاجة ماسة لمن درس، ودربته الدراسة على التفكير بل و ممارسة
التفكير بحرية وتجرد.
لا تفكير سليم دون
دراسة وبحث؛ ومن يفعل ذلك يساهم في الفوضى المعرفية ويصبح نصيرًا وعوناً للأساطير.
كذلك لا دراسة بدون تفكير ونقل ونسخ دون معالجة عقلية لما ينقل هذا الإنسان
ومن يفعل ذلك يعود البشرية إلى عصر القرود. لو أن مؤسسات تتبنى الدراسة دون الفكر
فهي مؤسسات فاشلة يسبقها المجتمع بخطوات
فتراها تسير خلف المجتمع وكل إنتاجها ما هو إلا رد فعل لما يفرزه المجتمع.
لما لا إذا كانت وظيفة هذه المؤسسات مقتصرة على اجترار نصوص
وفلسفات قُتلت بحثًا، ليس فيه أي إبداع. بينما المؤسسات العلمية القائمة على
المبادئ العلمية الصحيحة تجدها تقود المجتمع وتسبقه بخطوات بما تقدر من أفكار ورؤى
جديدة.
يجب أن يفرق الناس بين البلاغة اللغوية وبين الأصالة
الفكرية؛ لا ينخدع بالبلاغة اللغوية مقابل الأصالة الفكرية إلا العامة والجموع غير
المستنيرة. إنه فرق جوهري بين المثقف وبين
العامي حيث يستطيع المثقف تمييز الفكرة
بناء على الأدلة والبراهين، بينما ينخدع العامي بالتعبيرات و السرد والحبكة
الدرامية والجودة البلاغية.
عن طريق التفريق بين مفهوم أولي الأمر، والراسخون في العلم
، والأميين إضافة إلى مفهوم أصحاب الحجر (
التحجر) الذي تم شرحه في الفصل السابق، لن
تعود هناك أي مشكلة في تتبع الحقيقة، واكتناز المعرفة، ومناصرة الفكرة السليمة.
أما من أعرض وتولى واتكل على معرفة غيره، واطمأن بها، أو اتخذ جانب الأنعام في ألا
يبصر ولا يسمع ولا يدع الهدى يطرق قلبه، فهؤلاء اختاروا طريقهم بكل إرادتهم،
وعليهم تحمل نتائج تقاعسهم.
مفهوم ولي الأمر قادنا مباشرة لفهم سورة القدر، وكيف أن هذه السورة العظيمة تؤسس لمرحلة جديدة، وتشير إلى حالة فقدناها بالكلية، وهي حالة العدل الإلهي في إيصال الفكرة للناس، ومن ثم اختبارهم في قبول الفكرة الصحيحة، أو رفضهم للفكرة غير الصحيحة، حتى يتم تمييزهم بشكل مستمر وسليم. سورة القدر جعلت عصر التنزيل الأول عصراً مستمراً، والاختبار قائم في كل وقت، والناس كما هم غافلون
Comments
Post a Comment