الفصل السابع- الوحي
الفصل
السابع الوحي
سوف نتعرف في هذا الفصل على الفرق بين وحي النبوة ووحي
الرسالة، ثم نمر سريعاً على بعض المفاهيم لنستكمل مهمة النبي ومهمة الرسول.
كيف نفهم وحي النبوة؟
ملخص ما قيل في الوحي هو كل فعل يقصد به إيصال رسالة معينة
بطريقة غير مباشرة. أقرب مفهوم معاصر لمفهوم الوحي هو مفهوم الإلهام. ليس شرطاً أن
يكون الوحي من الله حصراً؛ ولكن قد يكون هناك آخرون يمكن لهم أن يقوموا بفعل
الوحي، كما فعل نبي الله زكريا، وأوحى إلى قومه أن سبحوا بكرة وعشياً.
(فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ
فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (سورة مريم: آية 11).
الوحي هنا فعل من شأنه إفهام الطرف الآخر معلومة أو خبراً
معيناً، وهذا ما فعله نبي الله زكريا؛ إذ إنه لم يتكلم بطريقة مباشرة بل أوحى إلى
قومه شأن التسبيح.
قد يكون الوحي في شكل سلبي، كما تفعل الشياطين، وتوحي إلى
أوليائها فعل الشرور:
)وَلَا
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ) (سورة الأنعام: آية 121(
ما يعنينا هنا هو الوحي من
الله لمخلوقاته، وهذا الوحي كما جاء في كتاب الله ثلاثة أنواع:
النوع الأول: وحي عام للبشر، النوع الثاني: وحي النبوة،
النوع الثالث: وحي الرسالة.
النوع الأول: وحي عام للبشر
هذا الوحي وحي بفعل معين أو تصرف محدد في ظرف ما،، وبالطبع
هذا النوع من الوحي مرتبط بالموحى إليه لا يتعداه إلى غيره. المثال الواضح على هذا
الوحي هو وحي الله سبحانه وتعالى إلى أم موسى.
(وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ
أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي
وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (سورة القصص: آية 7).
هذا الوحي غير ملزم لأحد،، وخاص بموقف محدد. لا يقول عاقل
طالما أن الله أوحى إلى أم موسى حين خافت على وليدها أن تلقيه في اليم فكل أم إن
خافت على وليدها من أمر ما، أن تلقيه في اليم.
النوع الثاني: وحي النبوة
وحي النبوة جاء في كتاب الله على حالتين:
الحالة الأولى: وحي في الكليات،، مثال: الإيمان بالله،، أو
فعل الخيرات، وليس وحياً في التفاصيل
(ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ
مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ) (سورة النحل: آية
123).
اتباع ملة إبراهيم؛ أي طريقة ومنهج إبراهيم صلوات ربي عليه،
وهو أمر عام. وسوف نأتي على تفصيل هذا المنهج، من خلال فهم المسلم الحنيف في
الفصول القادمة.
(وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ
وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِ وَكَانُوا لَنَا عَٰبِدِينَ) (سورة الأنبياء: آية 73).
أيضاً الوحي بفعل الخيرات جاء في صورة كليات وليس تفاصيل.
إنها مبادئ عامة وخطوط عريضة، يتحرك من خلالها النبي.
(وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا
مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَٰبُ وَلَا ٱلْإِيمَٰنُ وَلَٰكِن
جَعَلْنَٰهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِۦ مَن
نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِىٓ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ)
(سورة الشورى: آية 52).
كنا قد تناولنا مفهوم الروح، وأن الوعي والإدراك هو من روح
الله؛ لذلك عندما يقول ربنا أوحينا إليك روحاً من أمرنا؛ نفهمه على أنه وهبه وعياً
وإدراكاً لمفاهيم الكتاب والإيمان، حتى يستطيع التعامل معها.
هذا الوحي هو أيضاً وحي في الكليات وليس في التفاصيل. هذا
النوع من الوحي يؤهّل النبي للتعامل والتفاعل السليم مع كتاب الله، وإقامة مجتمع
سليم،، وليس معناه أن ما يقوله ويفعله من كبيرة وصغيرة هو وحي ملزم من الله.
كنا قد بينا في الفصل السابق كيف أن أفعالاً كثيرة قام بها
النبي وهو في مقام النبوة عاتبه الله عليها. إذن الوحي هنا لتسهيل مهمة النبي في
التعامل، وليس وحياً يجب تبليغه والسير عليه خطوة بخطوة.
الحالة الثانية: هي وحي للنبي للتصرف في موقف معين؛ لغرض
الرسالة، ومثال هذا الوحي ما يلي:
(وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنْ أَلْقِ
عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) (سورة الأعراف: آية 117).
)وَأَوْحَيْنَآ
إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا
وَٱجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَبَشِّرِ
ٱلْمُؤْمِنِينَ) (سورة يونس: آية 87).
(وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا
وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ)
(سورة يونس: آية 37).
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنْ
أَسْرِ بِعِبَادِى فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى ٱلْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَٰفُ
دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ) (سورة طه: آية 77).
الآيات السابقة كلها تخبرنا كيف أن الله أوحى للنبيين
أفعالاً متعلقة بالرسالة والزمن الحالي، ولو مددنا الخط على استقامته يمكننا أن
نفهم وحي النبوة الخاص بالنبي محمد صلوات ربي عليه. هناك وحي تدلنا عليه آيات
القرآن الخاص بالنبوة، وجاء كذلك في سورة الأنبياء، وهو وحي خاص بالكليات مثل
وحدانية الله:
(قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) (سورة الأنبياء: آية 109).
آيات القرآن قصت علينا أخباراً غزيرة،، خصوصاً عن نبي الله
موسى، حيث نرى أن أغلب تصرفاته صلوات ربي
عليه كانت بموجب وحي. بالطبع هو وحي النبوة، مثل الخروج ببني إسرائيل، وضرب البحر،
وضرب الحجر، بينما خروج نبي الله موسى إلى مدين كان تفاعلاً ذاتياً منه، عندما جاء
رجل يحذره من القتل.
رغم هذه الغزارة مع نبي الله موسى، إلا أننا نرى أن الأخبار
في كتاب الله عن أفعال نبينا الكريم لم تأت على شكل وحي مباشر؛ وإنما تدل الآيات
على أنها كانت تفاعلاً للنبي صلوات ربي عليه، كما سوف نرى مع كثير من الحوادث
العظيمة.
وحي النبوة كان متعلقاً بما يفعله النبي في زمنه؛ لتسهيل
أمر الرسالة،، أو أمور كلية،، وليس كما هو السائد من أن تصرفات وسلوك النبي نفسه
في كل كبيرة وصغيرة هي وحي من الله. تصرفات النبي وسلوكه هو نفسه يستمدها من
الكتاب الذي أنزل عليه،، بتفاعله معه.
لو تتبعنا حياة الأنبياء من خلال القصص القرآني، ومن خلال
آيات الله التي تحدثت عن الحوادث العظيمة في حياة الرسول صلوات ربي عليهم أجمعين،
سوف نكتشف أن النبي محمد صلوات ربي عليه أقل الأنبياء وحياً فيما يخص النبوة، وهذا
أمر طبيعي للغاية، ومؤشر صحي، ودليل دامغ على قرب انتهاء عهد الأنبياء، وهذا ما
حدث بالفعل.
الأنبياء السابقون احتاجوا إلى آيات مادية لإقناع أقوامهم،
بل في كثير من الأحيان لتطمئن قلوبهم هم أنفسهم؛ بسبب بدائية المجتمعات في الماضي.
كذلك الأنبياء السابقون احتاجوا لكثير من الإرشاد والتوجيه، والذي تمثل في كثافة
الوحي، بينما كلما تقدم الزمان، ارتقت القدرات العقلية؛ فزاد التفاعل العقلي مع
النص، وقلّ تبعاً لذلك الوحي المباشر.
لهذا السبب نجد تفاعل النبي
مثل البشر هو السائد في كثير من المواقف، وأنّ الوحي لم يكن حاضراً. هذا دليل على
رقي البشرية، وقدرتها على التفاعل بشكل صحيح، وعلى قمتها نبينا الكريم في ذلك
الوقت. لماذا النبي العظيم لم يطلب من ربه آية تؤكد له ألوهية ربه، مثل نبي الله
إبراهيم الذي طلب آية إحياء الموتى، أو نبي الله موسى الذي طلب أن يرى ربه؟
الإجابة باختصار شديد أنَّ القدرات العقلية وقتها كانت
كافية لإدراك المعاني المجردة؛ لذلك كان مؤمناً تماماً بألوهية ربه، لا يحتاج على
ذلك دليلاً.
سوف نستعرض في السطور التالية بعض الأمثلة على حوادث عظيمة؛
كي تدلنا على طبيعة وحي النبوة، ولماذا كان أقل ما يمكن، وأن تفاعل النبي بقدراته
مع النص الإلهي هو الحالة السائدة.
المثال الأول: حادثة الهجرة
رغم أنه لا يوجد في كتاب الله آية واحدة تدلنا على أن الله
أوحى إلى نبيه بالخروج من مكة إلى المدينة، إلا أننا من خلال تتبع الآيات في كتاب
الله نستطيع القول أن هناك آيات في سورة مكية ساعدت بشكل كبير على اتخاذ قرار
الهجرة، ومن هذه الآيات الآية في سورة النحل:
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ
الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (سورة النحل: آية 41).
يقول المفسرون أن هذه الآية نزلت في شأن الذين هاجروا إلى
الحبشة هرباً من اضطهاد كفار مكة. رغم أنه ليس لدينا أي دليل على أن هذه الهجرة
وحي مباشر من الله،، إلا أن الرسول أشار على أصحابه الضعفاء بالهجرة ومغادرة مكة،
تفاعلاً واجتهاداً، وليس عن طريق وحي مباشر. إن كانت الآية الكريمة تشير إلى هذه
الهجرة، فهي تزكي هذا الفعل، ولعلها كانت البداية، والتشجيع على اتخاذ خطوة الهجرة
إلى يثرب ( المدينة المنورة) فيما بعد.
الآية التالية في سورة العنكبوت،، إشارة مباشرة وإذن للذين
آمنوا بالهجرة في حالة الاضطهاد:
(يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (سورة العنكبوت: آية 56).
يبدو لي جلياً أن هذه الآية أثرت في رسول الله، وإن كان لا
يوجد فيها أمر مباشر بالهجرة، إلا أن التفاعل معها يمنح الإنسان حرية كبيرة في
اتخاذ مثل هذا القرار.
الآيات السابقة آيات مكية؛ مما يساعدنا على فهم كيف تفاعل
النبي مع النص الإلهي، وعندما خرج النبي من مكة إلى المدينة جاء في سورة الأنفال
المدنية آية تشير إلى هذا الخروج، ولكن لم تصفه بالوحي، رغم أن حادثة شبيهة مع نبي
الله موسى وبني إسرائيل كانت بوحي مباشر، كما أخبرنا ربنا.
(وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْـمَاكِرِين) (سورة الأنفال: آية 30).
ما أستطيع قوله هنا أن الهجرة كان تفاعلاً خالصاً مع كتاب
الله وكان تفاعلا موفقاً للغاية عمل فيه النبي صلوات رب عليه بآيات الله.
مفهوم الوحي التقليدي جعل وكأن الهجرة أمر مباشر من الله، رغم أن آيات
القرآن لا تخبرنا بذلك؛ بل هي ترتيبات متتابعة، وإعداد مقدر تفاعل معه النبي
العظيم.
السنة النبوية هنا بمفهومها الصحيح هي منهج النبي، وكما نرى
منهج النبي هو التفاعل مع كتاب الله، كما حدث في هذه الحادثة، واستنباطه موقف
الهجرة، وحاجته لكي يهاجر خدمة للرسالة، وقراءة جيدة لكلمات الله.
هذا التعاطي مع كلمات الله وآياته من قبل النبي صلوات ربي
عليه هو قمة الكمال والعظمة؛ لأنه بشر، ولأنه لم يحتج لأمر مباشر، بل أدى ما عليه،
واستطاع فهم مراد الله وتنفيذه على أرض الواقع. الذين يجعلون النبي كمتلقٍ لأوامر
يفعلها كما هي، إنما أخرجوه من طوره البشري إلى طور الملائكة، وهذا ما نفاه ربنا
تماماً، وأشار إليه في كتابه الكريم. حتى لو جاء ملكٌ فلا بد أن يكون في طور البشر.
)وَلَوْ
جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا
يَلْبِسُونَ) (سورة الأنعام: آية 9).
المثال الثاني: معارك النبي
الموقف الثاني الذي يدلنا على تفاعل النبي مع كتاب الله بما
يملك من معرفة هو موقف معركة بدر. ليس في كتاب الله آية تدل على أن هذه المعركة
المصيرية كانت بوحي من الله مباشرة؛ بل إن الترتيبات لم تكن أساساً تتجه نحو
معركة، بل كانت اعتراض قافلة لقريش؛ انتقاماً لفقد المهاجرين لممتلكاتهم في مكة.
عندما عسكر الرسول بمن معه في مكان قرب موضع المعركة انتظاراً
لقدوم أهل مكة، تقدم له رجل كما ذكرنا في الفصل السابق، وأشار بخلاف ما فعل النبي،
واستحسن النبي ما قال الرجل. هذا الموقف يقودنا بكل بساطة لفهم طبيعة أفعال النبي
وأقواله خارج مضمون الرسالة الحرفي؛ بأنها تفاعل وليست إلزاماً، كما يظن
التقليديون.
لدينا هنا إشارة خفيفة حول اسم المعركة وهي التي ذكرها الله
سبحانه وتعالى ببدر
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ
أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(سورة آل عمران: آية 123) .
يقول المفسرون أن بدر هو اسم الماء الذي دارت بالقرب منه
المعركة، لكن لو حولنا فهم دلالة حالة الإسم سوف نكتشف إن إسم بدر هو توصيف لحالة
المعركة ذاتها.
لفظ (بَدَرَ) له
أصل مشهور وهو الْإِسْرَاعُ إِلَى الشَّيْءِ. يقال بادر بالشيء أي اتخذ الخطوة
الأولى. عندما يقول الله سبحانه (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ
)فهذا يعني أن الله نصركم رغم أنكم بادرتم بالقتال وأنتم أذلة. بمعنى لم تكونوا في
وضع يسمح لكم بالقتال ورغم ذلك نصركم الله.
معركة أحد
معركة أحد، وما حدث فيها من هزيمة للمسلمين ومخالفة الرماة
أمر النبي، لماذا لم يخبر الله رسوله بوحي مباشر أن الرماة سوف يخالفون، فاحذر
ذلك؟
لأن الله يريد من البشرية التفاعل والاجتهاد وبذل قصارى
جهدها، وعلى رأسها الأنبياء. لم تعد البشرية طفلاً يحبو بحاجة لتقويم أفعاله خطوة
بخطوة؛ ولكنها نضجت، وتستطيع قراءة كلمات الله، والتفاعل معها، والمقصر هو الملوم. الملاحظ هنا أن هذه المعركة لم يطلق عليها القرآن اسم ولكن
نعرفها جميعًا باسم معركة أحد وهذا معناه
أن القرآن غير معني بالتسميات البشرية ولكنه يصف حقائق الأشياء. أحد لا يعني شئ
في سياق المعركة وليس له دلالة حقيقة لذلك لم يرد ذكره في
كتاب الله.
معركة الخندق
معركة الخندق، وحفر الخندق
ذاته لم يكن وحياً من الله مباشرة، ولكن كان بإشارة من سلمان الفارسي؛ لأنه كان
يملك خبرة بمثل هذه الخنادق. معركة كادت تستأصل المسلمين من المدينة جاء الحل
الناجع فيها من شخص من أتباع النبي، ولم تأت من النبي نفسه. لابد أن نسأل أنفسنا:
لماذا لم يوحي الله إلى نبيه أمر هذا الخندق؟ ولماذا حتى لم يصل النبي لهذه
الفكرة؟
فكرة الخندق كانت خارج الإطار المعرفي للنبي، ولكن عندما
أشار بها سلمان الفارسي وشرحها أصبحت معرفة، واستحسنها النبي وطبقها. النظر إلى
التاريخ والسيرة النبوية سوف يمنحنا القدرة على التعامل مع الأحداث بحيادية
وإنصاف، دون تشنج وتعصب وقولٍ على الله ورسوله بما يتعارض مع كتاب الله وسنن
الحياة.
أيضا تسمية هذه المعركة بمعركة الخندق لم يرد في كتاب الله
رغم أن الخندق هو أبرز معالمها. لقد تناول القرآن هذه المعركة من خلال تسمية
المعتدين باسم الأحزاب وهذا الاسم له دلالة حقيقة حيث اتفقت مجموعة من الأحزاب
والجماعات على حرب المؤمنين.
معركة حنين
معركة حنين يقول الرواة أنها نسبة إلى وادي حنين بين مكة
والطائف ولكن بالنظر إلى تسمية القرآن الحقيقية للمسميات سنكتشف أن الاسم يدل على
حنين بمعنى الشوق والود لكشفه القرآن ولم يرضاه ربنا سبحانه وتعالى. أصل كلمة حنين
هو (حَنَّ) وَهُوَ الْإِشْفَاقُ وَالرِّقَّةُ. الآية في سورة التوبة التي ذكرت يوم
حنين تفصح عن الكثير والكثير.
(لَقَد نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِی مَوَاطِنَ
كَثِیرَة وَیَومَ حُنَینٍ إِذ أَعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم تُغنِ عَنكُم شَیـࣰٔا
وَضَاقَت عَلَیكُمُ ٱلأَرضُ بِمَا رَحُبَت ثُمَّ وَلَّیتُم مُّدبِرِینَ)(سورة
التوبة : آية 25).
يقول الله مذكرا عباده الذين اعجبتهم كثرتهم، و الإعجاب
بالكثرة هنا لم يكن إعجاب محمود حتى إن الله قال لهم فلم تغني عنكم من الله شيئا.
لقد فصلت الآية من خلال كلماتها موقف هذه المعركة ومن خلال تسمية اليوم باسم
(حنين) سوف ندرك أنه كان يوم حنين وشوق للقبيلة حتى أنهم اعجبتهم كثرتهم وهذا
العجب هو عجب القبيلة والكثرة حتى ولو على حساب الإخلاص في الدين.
لقد انكشف القوم وذكرهم الله بذلك وأن هذه الكثرة هي كثرة
ليس لها أي قيمة. لو كان (حنين) اسم واد أو اسم
مكان لكان الأنسب (في مواطن كثيرة وفي موطن حنين)، لكن الآية قال (لَقَد نَصَرَكُمُ
ٱللَّهُ فِی مَوَاطِنَ كَثِیرَة وَیَومَ حُنَینٍ ). يوم حنين هو يوم الذي اجتمع
فيه أعداء الأمس ولكن يبدو أن الود والحنين للأهل كان هو سيد الموقف فتلقوا درسًا
صعبًا للغاية.
سوف ندرك أن هذه الكثرة لم تكن مفيدة وأن أناس خرجوا مع
الرسول ما كان لهم أن يخرجوا معه وهو كفار ومنهم أبو سفيان الذي ما إن رأى الكرة
على المؤمنين حتى صاح بأعلى صوته لا تنتهي هزيمتهم حتى البحر.
تفسير حنين بأنه واد بين مكة والطائف تفسير لا يفضح هؤلاء،
ولكن عندما وقفنا على معنى حنين وعلى الدلالات في الآية الكريمة اكتشفنا أنه كان
هناك سلوك لا يرضاه الله وعاتبهم عليه أشد عتاب.
يمكننا تلخيص وحي النبوة بأنه وحي في الكليات، وتفاعُل
النبي مع النص القرآني داخل إطاره المعرفي، وهذا يختلف تماماً عن وحي الرسالة،
والذي جاء الأغلب منه من خارج الإطار المعرفي للرسول. وحي الرسالة وهو النوع
الثالث الذي نحن بصدده، هو وحي باللفظ والحرف، ليس للرسول تغييره أو تبديله أو
الاجتهاد فيه، إنما تبليغ فقط.
النوع الثالث: وحي الرسالة
هذا الوحي هو المتمثل في الكتاب الذي بين أيدينا، والذي
رأينا كيف أن رسول الله لم يفسر أغلبه؛ بل هناك كلمات بالجملة لم يتطرق إليها
النبي، واختلف فيها التابعون من بعده. لفظ الرسول لا يصح إلا لحامل الرسالة، ولا
يصح أن يسمى رسولاً دون رسالة. لقد كشف لنا كتاب الله هذا الوحي، وكيفية تعامل
الرسول معه، حتى لا يحدث خلط بينه وبين وحي النبوة.
(نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ
بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِۦ
لَمِنَ ٱلْغَٰفِلِينَ) (سورة يوسف: آية 3).
لم تأت أي إشارة في كتاب الله على أن الوحي الذي أوحاه الله
لنبيه بشكل مباشر كان شيئاً آخر خلاف القرآن. ثم جاء في موضع آخر في كتاب الله
وظيفة ومهمة الرسول مع هذا الوحي؛ وهي التلاوة.
(كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَٰكَ فِىٓ أُمَّةٍ قَدْ
خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ ٱلَّذِىٓ أَوْحَيْنَآ
إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّى لَآ إِلَٰهَ إِلَّا
هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) (سورة الرعد: آية 30) .
(وَٱتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ
رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ
وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ
مُلْتَحَدًا) (سورة الكهف: آية 27).
كما نرى أن وظيفة الرسول مع الوحي الخاص بالرسالة هي وظيفة
محددة؛ وهي التلاوة. ومعنى التلاوة؛ أي تتبع المتلو حرفياً، وهنا في حالتنا تبليغه
بالحرف دون زيادة أو نقص. لذلك الذي يتلو شيئاً؛ أي يتبعه دون اجتهاد أو زيادة أو
نقص، بينما الذي يقرأ فهو يجتهد ويحلل بقدر معارفه. لذلك لدينا خطأ كبير في
التفريق بين لفظ (يقرأ) ولفظ (يتلو)، وهذه الخلط جعل الناس لا يدركون كلمات الله
بشكل صحيح.
في الجزء المتبقي من هذا الفصل سوف نحاول التفريق بين فعل
(أطيعوا) الذي جاء مع الرسول، وفعل (صلوا) الذي جاء مع النبي، وكذلك فعل (اتبعوا).
سوف نحاول كذلك الإجابة على السؤال الأهم، وهو إذا كان هناك معنى مختلف للفظ، فكيف
لم يعرفه رسول الله؟ ولماذا الألفاظ في النص الإلهي الموحى للرسول تختلف تماماً عن
تعبيرات النبي؟
فعل (أطيعوا)
نلاحظ من خلال آيات الكتاب الحكيم أن فعل (أطيعوا) جاء مع
الرسول تحديداً، بينما لم يأت هذا الفعل مع النبي، مما يجعلنا نتوقف عند هذه
الملاحظة لنكتشف معنى (أطيعوا) الدقيق.
فعل (أطاع) وجذره (طوع) هو خلاف الكُره، كما جاء في لسان
العرب، وفي مقاييس اللغة، يقال (طاع) أي انقاد معه ومضى لأمره. هناك صفة من صفات
هذا اللفظ هي الأساس في فهم مدلوله، وهي الاختيارية. أي أن الطاعة فعل اختياري،
ليس فيه إجبار أو كره. لذلك سوف نرى أن جميع ألفاظ الطاعة جاءت مع الله ومع
الرسول؛ لأن الإنسان حر الإرادة في قبول ما جاء به الرسول، ومن ثم طاعة الله، أو
عدم طاعة الله أو الرسول.
الذين يقولون أن الطاعة معناها الانقياد معذورون؛ فهم
يقيسون مفهوم الطاعة على مقاييسهم البشرية، ومن خلال فهمهم للرق، وسلوك العبد
المملوك في تلك العصور. الطاعة هي قبول الأمر والرضا به، مع القدرة على رفضه، ولو
أن الإنسان قبل شيئاً ما بشكل جبري لا يقال له مطيع. هذه بديهيات لا يجب أن نقف
أمامها كثيراً، فالطاعة لا تتحقق إلا مع القدرة الكاملة على الرفض، وحرية الاختيار.
هذه بعض الآيات التي تدل على اختيارية الطاعة:
(مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (سورة النساء:
آية 80).
طاعة الله وطاعة الرسول قائمة بالأساس على قبول الأمر
وتعقله، ولا يمكن لإنسان قبول أمر دون عرضه على عقله. لابد هنا أن نتوقف كثيراً
أمام لفظ (الرسول)، والذي هو هنا بمثابة حلقة الوصل بين الله وخلقه.
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (سورة الزخرف: آية 54).
هنا نرى أن القوم أطاعوه لأنه استخفهم، ولم يجبرهم؛ أي أنه
استخدم الحيل في ردم الأدلة، فطاشت عقولهم، وقبلوا حيله واستسلموا لها مختارين. لو
أن الطاعة هنا إجبارية، لما كان على هؤلاء القوم أي نوع من اللوم، ولكن كل اللوم
وقع عليهم؛ لأنهم سلموا عقولهم لهذا الفاسق يتلاعب بها، فكانوا قوماً فاسقين.
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ
اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ
بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (سورة البقرة:
آية 158).
لا يخفى على أحد أن التطوع -وهو لفظ يحمل نفس الجذر- هو
أيضاً عمل اختياري، وليس فيه أي إجبار.
الطاعة المحمودة في كتاب الله جاءت لله ولرسوله ولأولي
الأمر -والذي سوف نبينه في الفصول القادمة- قائمة بالأساس على الاختيار، والذي
بدوره يقوم على تحكيم العقل، ولولا قدرة العقل على الاختيار ما صحّت الطاعة.
هناك آية كريمة في كتاب الله تحذر من طاعة بعض من الذين
أوتوا الكتاب، وسوف نتعرض لها بالتفصيل عند دراسة أولي الأمر. ولكن يكفينا هنا أن
نمر عليها سريعاً. ونلفت النظر إلى أن طاعة بعض الذين أوتوا الكتاب يمكن أن تنقلب
على المطيع، إذا سلم عقله ولم يختبر ما يقوله الذين أوتوا الكتاب.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن
تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)(سورة آل عمران: آية 100).
الفرق الواضح بين القرآن والكتاب، هو الكفيل بفهم لماذا
طاعة فريق من الذين أوتوا الكتاب يمكن أن تنقلب كفراً على المطيع؛ إذ إن الذين
أوتوا الكتاب لديهم معرفة، ولكنها ليست مؤصلة بالدليل والبرهان فهم أهل معرفة
وليسوا أهل علم ولذلك طاعة أغلب هؤلاء مجازفة لأن أكثرهم لا يعلم ويقلد وينسخ الهداية دون اختبار لهذه الهداية.
(فعل (صلوا)
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا) (سورة الأحزاب: آية 56).
هذه الآية الكريمة توضح دوراً هاماً للمؤمنين في وجود
النبي، وهو الصلاة عليه، فما هي الصلاة على النبي؟
الصلاة هي نوع من التواصل والمساندة، فإذا قال الله أنه
يصلي على النبي؛ فهذا معناه أن النبي مدعوم من الله في تصرفاته وأفعاله، وأن هناك
عوناً من الله للنبي حتى يستطيع قيادة الفترة التي تولى فيها المسؤولية. لقد رأينا
هذا الدعم ماثلاً أمامنا عندما صحح له ربه المواقف التي لم يوفّق فيها، مثل تحريم
ما أحل الله، أو التعامل مع الأسرى.
مواقف النبي وتصرفاته المتعلقة بالتفاعل مع النص الإلهي
يقول لنا ربنا عنها أنها مدعومة من الله، وأن هناك تواصل بين الله وملائكته
والنبي، وهذا التواصل هو السبب المباشر لنجاح النبي في فهم كثير من الأمور، ونقلها
إلى المجتمع وقتها.
ما زلنا نؤكد أن حركة الحياة بشكل عام تتطلب حركة مستمرة
ومتجددة، والنبي كان حلقة من هذه الحلقات، وقد تفاعل مع النص الإلهي بدعم مباشر من
الله، ينقل الفترة التي عاش فيها إلى درجة راقية من التفاعل مع النص الإلهي.
ليس مطلوباً من النبي أن
يتفاعل نيابة عن العصور التالية؛ لأن مهمة النبي سوف تنتهي بوفاته، وعلى البشرية
أن تأخذ دورها في وجود الرسالة. عندما طلب الله سبحانه وتعالى من المؤمنين الصلاة
على النبي؛ إنما طلب منهم دعمه ومساندته أيضاً، وهذا هو الاتباع. لم يطلب الله
سبحانه وتعالى من المؤمنين طاعة النبي في هذه الآية، لأن الطاعة اختيارية، وقد
حدثت بقبول الرسالة. أما وقد قبل المؤمن الرسالة وآمن بها فالواجب المنوط به بعد
ذلك هو اتباع النبي والصلاة عليه؛ أي تقديم الدعم له والوقوف بجانبه.
مرة أخرى، الصلاة على النبي
تعني بمفهومنا المعاصر الالتزام الحزبي؛ أي قَبِول مبادئ الحزب والإيمان بها، فلا
مكان بعد ذلك لاتخاذ مواقف مغايرة. إنها وظيفة راقية، وإرشاد قرآني عظيم
للمجتمعات، للتوافق وعدم الفشل؛ بسبب التوجهات المختلفة. مع ذلك جاء أيضاً التوجيه
الرباني لنبيه بالشورى، إذ طلب ربه منه أن يشاور في الأمر، وإذا عزم فليتوكل، وعند
ذلك لا يملك المؤمنون إلا الصلاة على النبي؛ أي دعمه ومساندته.
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ
لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)
(سورة آل عمران: آية 159).
لو كان تعامل النبي مع مجتمعه وحياً خالصاً كما فهم
المتشددون، لما طلب الله من نبيه أن يشاورهم في الأمر. إذ كيف يشاور في أمر وحي من
الله، ولكنه الرأي والمشورة، وهذا هو التفاعل الذي نُصرّ عليه، ونطلب من الناس
التروي في فهم الأحداث التي عاشها نبينا الكريم، وعدم خلط الأمور؛ لأنها ليست في
صالح السنن الكونية، التي أخبر عنها ربنا في كتابه، وفيها تعطيلٌ لدور
الإنسان وتفاعله مع القرآن الذي أشرنا
إليه، من خلال سورة الرحمن.
ما يحدث حالياً من الاعتقاد بأن الصلاة على النبي هي أن
يقول الإنسان اللهم صل على محمد باللسان، هو أمر غريب بعض الشيء. إذا أمر الله
المؤمنين بالصلاة على النبي، فكيف نجد أن المؤمنين يردون الأمر لله مرة اخرى،
بقولهم اللهم صل على النبي، وهذا شيء غير منطقي.
من وجهة نظري أن الصلاة على النبي هي عملية مستمرة، فإذا
كانت في حياته الوقوف بجواره ودعمه ومساندته، فهي بعد وفاته تبيان مهمته، وفهم
دوره، وعدم ترك الأمر لمتواضعي العقول، لجعل النبي رباً من الأرباب. جعل النبي
رباً وإعطاؤه صفة التشريع الإلهي الأزلي هو أكبر إساءة لدور النبي.
الصلاة على النبي لا تتم إلا من خلال تبيان ذلك، ورد الناس
عن تضخيم دور النبي ليصبح شريكاً لرب العالمين.
قول اللهم صل على محمد، لا نجد فيه حرجاً، إن قصد قائله طلب
الرحمة لرسول الله، وتذكره بالخير. ولكن هذا القول باللسان لا يعد امتثالاً لأمر
الله بالصلاة على النبي.
رد الإساءة عن مقام النبوة، وبيان حقيقة المغالين في هذا
المقام، حتى يعود الناس لرب العالمين، هو عين الصلاة على النبي. إذا كانت صلاة
الله وملائكته على النبي سبباً مباشراً في دعم النبي في تفاعله مع الرسالة؛ فإن
الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين كذلك بالصلاة عليهم، وهذه الصلاة هي كذلك منحهم
الدعم والمساندة، لينتقل الناس من الظلمات إلى النور.
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (سورة الأحزاب: آية 43).
الصلاة على أحد تعني التواصل معه بطريقة ما، ويتحدد على قدر
هذا التواصل ما يجب فعله. في التعبير القرآني (الصلاة على) تعني الإحاطة بالمصلى
عليه والتواصل معه، وليس مجرد تواصل اعتيادي. فصلاة الله على المؤمنين؛ تعني
إحاطته بهم والاتصال بهم، سواء من قبل الوحي أو من قبل الملائكة؛ لتسديد خطاهم
وتوفيقهم.
ما حدث في غزوة أحد، وفرار الناس عن النبي لما انكشف الناس،
ووقعت الهزيمة، لم يصلي الناس على النبي.
إذ لو صلى الناس على النبي وقتها لأحاطوه بالرعاية، وقدموا له كل الدعم، والتفوا
حوله.
كثير من الأمور التي يخبرنا عنها القرآن أن الناس كانوا
أحياناً يتنازعون حول النبي، وهذا التنازع لا يمكن أن يكون صلاة على النبي؛ إذ إن
الصلاة تتطلب التواصل الجيد، ومساندة النبي لكي يؤدي وظيفته.
نأتي للسؤال الأخطر وهو:
كيف يمكن أن نفهم اليوم لفظاً بخلاف ما فهمه النبي؟
حتى تتضح الصورة بشكل كامل سوف أسوق مثالاً على هذه
الجزئية، وهو مثال تفسير ظاهرة خسوف القمر، وكيف عندما قمنا بتحليل اللفظ القرآني
وجدنا أن هذه الظاهرة أطلق القرآن عليها لفظ (اتساق)، وليس لفظ (خسوف) كما جاء في
الجزء الثاني من كتاب تلك الأسباب.
قال ربنا عن ألفاظ القرآن تحديداً أنها بلسان عربي مبين،
وكنا قد بيّنا معنى (عربي مبين)؛ أي أن اللفظ يفصح عن نفسه، ويحمل خصائص وصفات
مدلوله. وكذلك أكدنا من خلال المنهج المستخدم في سلسلة كتب تلك الأسباب أن الألفاظ
في كتاب الله حقيقية، بينما ألفاظ البشر على مر التاريخ خليط من الألفاظ الحقيقية
والألفاظ غير الحقيقية وغير الدقيقة. عندما يأتي الرسول برسالة محددة من الله،
خصوصاً إن كانت هذه الرسالة موجهة إلى البشرية جميعها إلى يوم الدين، فلابد أن
يكون فيها معلومات ورسائل خارج الإطار المعرفي للرسول، وهو على ذلك مأمور بالتبليغ
فقط، والناس في كل العصور مأمورون بالتفاعل وبذل الجهد لفهم المقصود.
لسان الرسول لا يلزم أن يكون لساناً عربياً مبيناً، ولكن
يلزم أن يكون بلسان قومه الذي أرسل فيهم؛ لكي يفهموا على الأقل الحد الأدنى الذي
يؤهلهم للإيمان بكلمات الله. لذلك عندما أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل، لم يقل عن
الرسول أنه بلسان عربي مبين، بل قال بلسان قومه.(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ
إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (سورة إبراهيم: آية
4).
لسان القوم هو لا شك خليط، وهو الحد الأدنى لفهم الرسالة،
بينما لسان آيات الله هو الحقيقة المطلقة، والتي يجب تقدير جميع الألفاظ عليها.
لذلك عندما وصف القرآن ظاهرة الخسوف في كتاب الله بالاتساق لم يؤوِّلها النبي، ولم
يرد إلينا أي شيء في ذلك، اللهم إلا محاولات ابن عباس وغيره لفهم هذه الآيات.
في ظل نقص المعرفة، وفي ظل غياب منهج علمي لفهم اللفظ
القرآني تصبح محاولاتُ الناس لفهم اللفظ من خلال مدلول الكلمات لديهم مقبولة بشكل
كبير. لكن مع طوفان المعرفة، ومع تبلور منهج محدد لفهم اللفظ القرآني، يجب إعادة
النظر فيما نظنه مسلمات. لذلك عندما يقوم النبي بوصف الظاهرة بالخسوف فهو يتحدث
بلسان قومه، بينما عندما يصفها القرآن فهو يصف الحقيقة المطلقة، والتي لا يمكن
قبولها بسهولة، إلا في ظل تراكم معرفي معقول لدى البشرية. يأتي الخلط بسبب
الاعتقاد بربوبية النبي، أو قدرته على فهم وتفصيل كل شيء، وإضفاء صفات الإحاطة
عليه، سواء في العلم أو القدرة.
هذه النظرة للنبي هي نظرة بدائية، وسمة مميزة للمجتمعات
الفقيرة معرفياً؛ إذ إن هذه المجتمعات تبالغ في قدرات أفرادها، وخصوصاً إن كان
هؤلاء الأفراد ذوي مكانة في القبيلة، فما بالكم بالنبي؟
يبدو جلياً أنه عندما يأس الشيطان من جعل الناس تعتقد
بألوهية النبي، دفعهم لاتخاذه رباً أو نصف إله، بحيث يخبر عن المستقبل بلفظ محدد،
ويحكم لهذا بالجنة وهذا بالنار، رغم أن القرآن ذاته لم يتطرق لذلك.
النبي تفاعل مع النص الإلهي ومع مجتمعه، فعندما وصف الخسوف
بالخسوف لم يكن وحياً، وإنما تفاعل خاص به صلوات ربي عليه.
لكن عندما حللنا اللفظ ووجدنا أن اللفظ الصحيح الذي استخدمه
القرآن هو اتساق، فلا يجب اتخاذ قول النبي حجة على القرآن، لأننا بذلك نجعل القرآن
في المرتبة الثانية، ونجعل النبي عالماً بتأويل القرآن، والله سبحانه ينفي ذلك
تماماً.
(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (سورة: آية 7).
النبي لم يأت ليلغي تفاعل الناس مع النص القرآني؛ بل جاء
مبلغاً لرسالة محددة، وتفاعلَ معها بأحسن ما يكون، فلا سبيل للمزايدة، وجعله رباً
من الله بأفعال كهذه.
لقد وصل الحال بالروايات إلى وصف أحداث تفصيلية، وأمور
مستقبلية، على لسان النبي، وملاحم ومعارك لم ينزل في القرآن أي تفصيل لها. إن منهج
القرآن لا يؤيد ذلك إطلاقاً، من قص أحداث مستقبلية وتعيين أحداث محددة، وكأن
الحياة تحصيل حاصل. المنهج القرآني الذي وعيناه في كل آية من آيات الله يدعو الناس
إلى بذل قصارى جهدهم، وتحمل مسؤوليتهم، والتعامل مع النتائج.
للأسف تم تبديل هذا المنهج العظيم، بروايات تخبر عن كل
صغيرة وكبيرة، وللأسف هذه الأخبار إنما جاءت بلسان العصور التي صيغت فيها، فنرى
المعارك المستقبلية تدار بالسيوف والرماح، رغم أن هذا عصر قد مضى.
لقد جعلوا رسول الله مطلعاً ومخبراً عن كل شيء لم يخبر عنه
الله سبحانه وتعالى. يقول أحدهم إن كان النبي قد أخبر كل هذه الأخبار عن المعارك
والملاحم آخر الزمان بهذا التفصيل الدقيق، لماذا لم يخبر العرب عن البترول القابع
تحت أرجلهم؟، ولماذا لم يخبرهم عن الكهرباء والتقدم التكنولوجي الهائل الذي سوف
تعاينه البشرية؟.
الإجابة ببساطة لأنه بشر، وليس له ذلك كما قال القرآن، وهو
ليس إلهاً كي يكون حاكماً على المستقبل. يبدو لي أن هذه الروايات كانت رد فعل
طبيعياً على روايات تاريخية تذكر هذه الملاحم، وتفاصيل معارك نهاية الزمان من خلال
القصص التاريخي في روايات اهل الكتاب وقتها، فحاول الناس تماشياً مع هذه الثقافة اختراع روايات بنكهة
إسلامية، حتى لا يظن الناس أن الدين لم يذكر هذه الأشياء المهمة. ولو عادوا إلى
القرآن وغاصوا فيه لقوَّموا ما قال الناس،
وأصلحوا التاريخ الفاسد، بدلاً من متابعتهم عليه، والإقرار بأساطير كهذه، ونسبتها
إلى النبي الكريم.
بعد إلقاء الضوء على مهمة النبي، وفهم دور الرسول، ومن قبله فهم دور القرآن، سوف نتقدم خطوة للأمام للتعرف على مفهوم من أعظم المفاهيم في كتاب الله. في الفصل القادم سوف نعيش لحظات مع مفهوم ولي الأمر، وكيف أَسس هذا المفهوم لاستمرار اختبار الناس كاختبار عصر التنزيل الأول
Comments
Post a Comment