الفصل العاشر_ الأعراف

الفصل العاشر الأعراف

ما مصير الذين لم يدركوا حقيقة الأشياء؟

ما مصير من ماتوا قبل إدراك خطأ بعض المعتقدات، بسبب أنها معتقدات سائدة ويرددها  الناس على أنها مسلمات؟

ما مصير من  حيل بينهم وبين الحقيقة بأي طريقة كانت، مثل التشويش المعرفي، أو البعد الجغرافي، أو أي سبب كان؟

 لكي نجيب على هكذا تساؤلات  لا بد أن ندرك أننا نحن كذلك لا نمتلك الحقيقة، أو قد نمتلك جزءاً من الحقيقة، ولكن الحقيقة المطلقة؛ هي تأويل كلمات الله وليس إليها سبيل بشكل كامل ومطلق، ولا يعلمها إلا الله.  فهم هذه البديهية وهي عدم امتلاك الحقيقة  المطلقة، تساعد الإنسان في  أن يظل في الوضع الآمن إذا انتهج ثلاثة أمور أو توافرت فيه ثلاثة شروط:

أولاً: التطلع إلى المعرفة باستمرار، بشكل محايد دون هوى.

ثانيًا: قبول النتائج  السليمة، مهما كانت متناقضة مع نظامه الفكري الموروث.

ثالثاً : تطبيق ما فهمه، والعمل به قدر استطاعته.

هذه الثلاثة شروط ليست من خيال الكاتب وإنما تم استنباطها من خلال كتاب الله ومن خلال تحليل كلمات رئيسية تصف الإنسان وموقفه من المعرفة مثل لفظ مسلم ولفظ كافر وكذلك أصحاب الأعراف . إذا توافرت هذه الشروط في الإنسان فقد وصل إلى مرحلة العبودية بمفهوما القرآني لله. يختلف الناس عن بعضهم بعضاً باختلاف وزن هذه العوامل لديهم. لكي ينجو الإنسان لا بد أن يتوافر فيه الحد الأدنى من هذه الشروط،. سوف نقدم الدليل على هذه الشروط، من خلال فهم معنى (المسلم الحنيف) في الفصل القادم.

هذه الشروط هي القادرة على تأمين وضع الإنسان، داخل حيز (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سواء

مات أم لم يمت.

الطريقة الوحيدة لكي ينجو الإنسان بنفسه هي السعي المتواصل مع تجنب الكبر الغرور، فإن وصل الإنسان لليقين فقد سعدَ، وإن لم يصل فسعيه بحول الله مشكور

رغم أن حدود الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون حددها كتاب الله بكل دقة، إلا أن رحمة الله تجلت في أعظم ما يكون عندما أعطت فرصة لأصحاب الأعراف.

سورة الأعراف في بعض من آياتها أشارت إلى نوع من البشر لا يقومون بما يلزم لدخول الجنة، ولكن لا يعملون عمل أهل النار. لا يملكون الحد الأدنى من الشروط السابقة التي تؤهلهم للمنطقة الآمنة داخل الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ربما بسبب عوامل نفسية، أو بسبب ظروف خارجة عن إرادتهم، ولكن في الوقت نفسه ليسوا من الكافرين أو الظالمين أو المكذبين.

إنها مرحلة وسطية، أو مرحلة  من التعادل، و جاء وصف الأعراف لكي يصف هؤلاء القابعين في هذه المنطقة، ويصف رحمة الله بهم. إنهم أناس لا يسعون للوصول للحقيقة، وفي الوقت نفسه لا يسعون في الأرض فساداً.

إنهم مجموعات من البشر في كل المعتقدات، وهم مجموعة ليست قليلة، فجاءت سورة الأعراف تشير

إليهم، وتجيب على سؤال هام، وهو ما مصير هؤلاء؟

إنهم أصحاب الأعراف، وما أدراك ما أصحاب الأعراف ؟

لفهم من هم أصحاب الأعراف سوف نحاول سبر أغوار الآيات الكريمة في سورة الأعراف، من الآية 35 إلى الآية 49. هذه الآيات الكريمة وجهت خطاباً إلى بني آدم بشكل عام، ثم تحدثت عن الفئات الثلاثة الرئيسة من بني آدم. وهم أصحاب النار، وأصحاب الجنة، وأصحاب الأعراف. ليس هناك مصير آخر لبني آدم، وإنما مصيره هو أحد هذه الفئات. تابعْ القراءة، وبالنهاية يمكنك أن تحدد وحدك دون الاستعانة بالآخرين في أي الفئات أنت.

سوف نتناول بالتحليل في السطور التالية  الأركان الأربعة الرئيسة التي تناولتها هذه الآيات، وهم بنو آدم من حيث التعميم، والفئات الثلاثة التي سوف يؤول مصيرهم إليها أولاً: بنو آدم

(يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي  فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (سورة الأعراف: آية 35).

الآية الكريمة توجه الخطاب إلى بني آدم جميعاً؛ أي لجميع البشر، ولم تخصص المؤمنين أو غير المؤمنين. الآيات الكريمة تضع الخطوط العريضة للقبول، وتشير إلى فرص النجاة بشكل مثالي دون تعصب، وتراعي النظام المعرفي للبشرية جميعها، وتأخذ في الحسبان جميع الظروف التي تحيط بالبشر، والتي من الممكن أن تؤثر في اعتقاداتهم.

آيات كريمة تضع النقاط على الحروف، ولا تدع لأحد احتكار الهداية، وتؤكد أن الله رب العالمين وليس رب فئة دون أخرى، وتشير إلى مساحات من الرحمة الإلهية لم نعهدها في خطاب رجال الدين وخصوصًا أولئك أصحاب الخطاب الإقصائي.

 الآية الكريمة لا تتحدث عن عبادات معينة أو أفعال بعينها؛ وإنما تتحدث بشكل مجمل عن سلوك الإنسان تجاه المعرفة، وكيفية تعامل الإنسان مع ما يجهله. هل هذا الإنسان حريص على المعرفة والوصول للحقيقة، أم أنه لا يهتم لشأنها، أو يكابر ويكذب دون وجه حق؟

الآية الكريمة موجهة للناس بشكل عام، وتبيّن كيف أن هناك صنفاً من هؤلاء الناس يكذبون ويستكبرون إذا قص عليهم الرسل آيات الله كما سوف نرى في الآية التالية. فسر المفسرون (يقصون عليكم آياتي) بأنها تلاوة آيات الله، ولكن المنتبه للفظ (قصّ) لا يمكن أن يعتقد أن التلاوة والقصّ متساويان.

فما هو قصّ آيات الله؟

قص الآيات أي تتبعها بالفحص والعرض، والرسل الذين يرسلهم الله إلى بني آدم مستمرون إلى يوم الدين. الذين يتتبعون آيات الله اللفظية أو الكونية ويفصلونها، وما يتبع هذا التفصيل من مسؤوليات هو المقصود في هذه الآية الكريمة. سوف أضرب هنا مثالين لآية كونية وآية لفظية، وكيف يقصها أهلها.

ليس المقصود هنا هو المعنى المشهور للرسل؛ بل هو المعنى العام للفظ، بسبب سياق الآية. لأن رسل الله المذكورين في كتاب الله مكلفون بالتبليغ، والتبليغ يختلف عن القص. الرسل هنا في هذه الآية الكريمة هم الذين يحملون رسالة تتبع الآيات وفهمها، وتبليغها للناس.

المثال الأول: الآيات الكونية

أثبت العلم الآثار السيّئة المترتبة على انبعاث ثاني أكسيد الكربون، وما يمثله من خطر على النظام البيئي. هذا التفصيل هو تفصيلُ إحدى آيات الله وبيانُها للناس، وكيف يمكن أن تسبب خللاً في النظام البيئي.

إلقاء المخلفات في مصادر المياه تسبب تلوث هذه المصادر؛ مما يؤدي إلى تدمير البيئة المائية، ويؤدي كذلك إلى الإضرار بصحة الإنسان نفسه.

إلقاء المنتجات البلاستيكية في البحار والمحيطات يتسبب في تدمير البيئة البحرية.

هذه الأمثلة وغيرها هي تفصيل آيات الله الكونية وقصُّها. إذا جاء رسل الله الذي يقصون هذه الآيات ويفصلونها للناس، فهنا يكون لزاماً على الناس أن يتقوا ويصلحوا. التقوى هنا عدم التجاوز، والكف عن الأذى، والإصلاح هو محاولة معالجة ما حدث، وإعادة التوازن قدر المستطاع. الآية الكريمة بشّرت المتقين والمصلحين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

هذا هو الحد الأدنى لدخول منطقة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أما الغفلة أو عدم الاكتراث أو الأنانية مؤشرات خطيرة للغاية، وأما المعرضون والمكذبون وجاحدو الحقائق فمتربعون على قمة الجانب الآخر حيث لا تقوى ولا إصلاح.

المثال الثاني: الآيات اللفظية

في مسألة  السبي والرق، تتابعت الأدلة المنطقية والعقلية من كتاب الله، على أن هذا السلوك لا علاقة له بكتاب الله؛ وإنما وضعٌ اجتماعي في زمن معين. كل من يصر على الافتراء على الله وإلصاق هذه التصرفات بكتاب الله هو من يجب أن يخاف ويحزن، وخصوصاً إذا أرسل الله إليه من يقص عليه آيات ربه. قص الآيات هنا يعني تتبعها أو البحث خلفها، واستنباط حقائقها بقدر ما أتيح من معارف لكل متدبر.

الأمثلة على الآيات اللفظية أكثر مما يمكن عده هنا.

الشاهد هو قولنا أن الإنسان بطبيعة الحال إذا وصلته معلومة متوافقة مع المفاهيم العقلية، يلزمه العمل بها، والكف عما سواها، وإصلاح ما يستطيع، حتى ينطبق عليه قول الله سبحانه (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). الآية الكريمة تعطي الحد الأدنى الذي يجب أن يكون عليه الإنسان من بني آدم، وهو الرضوخ للمعرفة التي تؤهله لكف الأذى وإصلاح هذا الأذى. كل إنسان في كل عصر يأتيه خبر من آيات الله اللفظية وآياته الكونية، لذلك نقول أن الحد الأدنى هو قبول البراهين، دون عناد أو تكبر أو تكذيب دون معرفة.

بعد الخطاب الموجه للبشرية في هذه الآية، جاءت مجموعة آيات تصف ثلاث فئات من الناس لا ثالث لهم، ويدخل ضمنهم جميع البشر. فئة المعرضين عن المعرفة وهم أصحاب النار، وفئة المقبلين على المعرفة وهم أصحاب الجنة، وفئة بينهما وهم أصحاب الأعراف. سنتعرف على الفئات الثلاثة حتى نستطيع فهم من هم أصحاب الأعراف بشكل كامل.

ثانياً: أصحاب النار

جاء خبر هذه الفئة وتفصيلها في ستة آيات كما يلي:

الآية الأولى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (سورة الأعراف: آية 36).

الآية الكريمة تتحدث عن نتيجة تكذيب ما يقصه الرسل؛ أي ما تتبعوه وبحثوه في آيات الله، وحاولوا فهمه، وليس المقصود هنا تكذيب التبليغ كما ذكرنا آنفاً. طالما أن الآيات لم تنسب للكتاب فلا يمكن تفسيرها إلا من خلال السياق، والسياق يتحدث عن البشر بصفة عامة.

الآية تتحدث عن الحقائق التي يكتشفها الرسل في كل العصور، والذين يحملون رسالات محددة إلى البشرية، فتأتي فئة لا علم لها، فتكذب هؤلاء الرسل، ومن ثم تعرض عن الآيات، وتغلق العقل دونها.

الآية الكريمة تشير إلى أن الاستكبار والتكذيب غير القائم على دليل معقول، كفيل بأن يجعل صاحبه من أصحاب النار خالداً فيها. عدم الرضوخ للحق استكباراً هو الآفة المهلكة لمصير الإنسان. كثير من المفسرين جعلوا المقصود بالاستكبار عن الآيات مرادفاً للآيات في المصحف، رغم أن لفظ (الآيات) نفسه وصف الآيات اللفظية والآيات الكونية.

الآيات اللفظية نتلوها في كتاب الله، والآيات الكونية نراها ماثلة أمامنا، والاستكبار والتكذيب بكلا النوعين هو إحدى تذاكر الدخول إلى النار. لماذا التكذيب بالآيات والاستكبار سبب مباشر لدخول النار؟

تكذيب الآيات الكونية والاستكبار عنها يعطل مسيرة العلم والمعرفة، وينشر الجهل، وأثره قد يمتد لأجيال. بينما تكذيب الآيات اللفظية يعطل كلمات الله، ويعطي الفرصة لكل متقول أن يقول على الله ما لا يعلم، ومن ثم الافتراء على الله.

لك أن تتخيل كمَّ المعرفة التي فقدناها عندما أنكرنا مئات الآلاف من الأدلة على التطور؛ بسبب بعض الجدليات التي لا تؤثر في صلب النظرية، ولم نحاول بحث الأمر بشكل حيادي، بعيداً عن الروايات التاريخية ورؤية أشخاص ما لهم علم ولا معرفة بهذا الأمر. وكم الخرافات التي يرددها الناس؛ بسبب تكذيب كروية الأرض الثابتة علمياً بشكل لا يمكن دحضه، وكم من شخص تشوش فكره بسبب هذا العنت.

على الجانب الآخر لك أن تتخيل كم الدماء التي أريقت بسبب فتاوى التكفير، والتي لا تمت بصلة لكتاب الله، سوى أن بعض الناس  تبنوا أيديولوجية كهذه، ونسبوها زوراً لكتاب الله. كم من الذنوب ارتكبت لأن هناك أناساً استكبروا في قبول الحق، وكذبوا ما لم يحيطوا به علماً.

ما يمكن أن يفعله الاستكبار والتكذيب أكثر مما نتخيله؛ فهو حجر أساس في تشكيل ثقافة المجتمعات، وبقدر ما يكون أهل المجتمعات بارعين في التكذيب، مغموسين في الكبر، يجيدون لَيَّ الحقائق وحبك الحبائل، بقدر ما تتأخر وتنزوي هذه المجتمعات. إنه سلوك يستحق أصحابه النار بكل جدارة؛ لأنه تأثير مدمر على مستقبل البشرية.

الآية الثانية: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ  أُولَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ  حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ  قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (سورة الأعراف: آية 37).

هذه الآية الكريمة توضح لنا شدة ظلم هذا الإنسان الذي يكذب بآيات الله أو يفتري على الله كذباً. الآية الكريمة مرتبطة بما قبلها، و مرتبطة كذلك بما بعدها؛ إذ الحديث موجه لهؤلاء الذين يستكبرون ولا يقبلون الحقيقة.

 الآيتان التاليتان تشيران إلى السلسلة الملعونة التي يتحجج بها هؤلاء المكذبون و يتكئون عليها، وهي حجة السابقين والأولين، والتي تكون دائماً حاضرة كدليل مزيف مقابل الأدلة العقلية.

 الآية الثالثة والرابعة: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ  كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا  حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ  قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39)) (سورة الأعراف: آيات 38-39).

ليس هناك من سبب مقنع يجعل الإنسان يثق في أناس سابقين، لا يدري عن ظروفهم شيئاً، ويلغي المنطق والعقل ويظن انه قد ادى ما عليه. ما الذي يدفع الإنسان إلى الاعتقاد بصحة رأي غيره، ويتخلى عن عقله بكل هذه البساطة؟

إنها مخاطرة غير محمودة العواقب، والله يخبرنا  عن محاججة هؤلاء بعضهم بعضاً في النار، ولعن بعضهم بعضاً. الاتباع الأعمى لا بد أن يؤول بهم إلى لعن بعضهم بعضاً، ولا نجاة من هذا المصير إلا بالعقل وتحكيمه، فما وافق المفاهيم العقلية يقبل، وما تنافر معها رددناه ولا نلقي له بالاً، مع الأخذ في الاعتبار أن النص المؤسس لكل ذلك هو كتاب الله. لا يمكننا رفض تفسير أكثر منطقية وعقلانية لأن فلان قال بخلاف ذلك. فلان هذا سوف يُسأل عما قال، والمقلد كذلك سوف يسأل عن اتباعه لفلان، ولماذا استكبرت وكذبت عندما جاءتك آيات ربك، ووثقت بقول فلان دون أن تدع الفرصة لعقلك أن يعمل؟.

القرآن الكريم زاخر بهذا التحذير من الاتباع الأعمى، وللأسف الناس يسقطون هذا التحذير على فترة زمنية معينة، ولا يتصورون أنهم هم مخاطبون كذلك بهذه الآيات. هذه الثقة بل الغرور منع الناس من تدبر الآيات بشكل سليم، مما جعلهم يستسهلون قبول أقوال تعفيهم من المسؤولية.

الآية الخامسة: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (سورة الأعراف: آية 40).

 من الملاحظ أن هذه الآية تشبه إلى حد كبير الآية التي بدأت في وصف هذه الفئة، وتحدثت عن المكذبين المستكبرين واستحقاقهم للنار (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (سورة الأعراف: آية 36).

بينما هذه الآية تختلف في التعبيرات، وتشير إلى شيء آخر، وخصوصاً التعبير المحير (حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ). كيف فسر المفسر هذا التعبير، وماذا يعني له؟

هناك تفسيران رئيسيان لهذا التعبير القرآني، التفسير الأول هو أن المقصود بالجمل هو الحيوان المعروف من الإبل، والتعبير هو تحدٍّ للمكذبين بأن دخولهم الجنة مستحيل، كدخول البعير من ثقب الإبرة.

التفسير الثاني يعتقد أن المقصود بالجمل هو حبل السفينة الغليظ، وبذلك يكون المثال أكثر تناسقاً، وهو أيضاً تحدٍّ للمكذبين بأنهم لن يدخلوا الجنة، كما لن يدخل حبل السفينة الغليظ من ثقب الإبرة.

هذا التعبير القرآني مثير للحيرة؛ فالتفسير التقليدي لا يستقيم مع تعبيرات القرآن الأخرى ذات الدلالات الرائعة، إذ إن المفسرين جاؤوا بتفسيرات ظاهرية للغاية، أو تفسيرات متشابهة، لم تحاول فهم الآيات بشكل أعمق، ولم تربط الآية التي سبقت هذه الآية بها، وذُكر فيها أيضاً المكذبون والمستكبرون.

لدينا ألفاظ في هذا التعبير القرآني لا بد أن نقف عليها، ولا ندعْها تمر هكذا دون فحص دقيق، مثل: يلج- الجمل- سم- الخياط. بعد أن نقوم بتحليل هذه الألفاظ سوف نفهم لماذا جاءت هذه الآية في وصف فئة أهل النار بهذا التعبير.

أولاً: لفظ يلج

أصل الكلمة هو (ولج)، ومعناها في اللغة الدخول، أو شيء يَعبر شيئاً آخر. (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (سورة الحج: الآية 61).

عندما يقول الله سبحانه يلج الجمل في سم الخياط؛ فالمعنى أن الجمل يعبر سم الخياط، أو يمر من خلاله، وهذا المعنى هو المعنى الذي تقول به كتب التفسير، وكل ما فعلناه صياغة الفعل بشكل آخر، فبدلاً من وصف الولوج بالدخول وصفناه بالعبور. وهذا المعنى سوف نجد صداه بعد أن نفهم ما المقصود بالجمل.

ثانياً: لفظ الجمل

كلمة (جمل) لها أصلان بحسب مقاييس اللغة: الأصل الأول تجمُّعٌ، وعِظم خلق، والأصل الثاني حسن.

كلمة جمل يمكن فهم معناها من الآية القرآنية في سورة الفرقان، والتي جاء فيها ذكر كلمة مشتقة من (جمل)

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (سورة الفرقان: آية 32).

(جملة واحدة) تعني شيئاً مجمعاً، وهو معنى متفق مع أصل الكلمة التي وردت في قاموس اللغة، والتي تعني تجميع شيء. كلمة (جمل) تعني شيئاً  مُجملاً أو شيئاً كلياً، ويبدو أن لفظ الجمال الذي يصف الحسن إنما وصف بذلك لأنه يصف كلية الأشياء ومجملها. وكأن الشيء الجميل هو الشيء المجمل أو الكامل، الذي ليس فيه نقص.

(الجمل) في الآية الكريمة لا يعني الحيوان المعروف؛ فقد ذكر القرآن هذا الحيوان بلفظ البعير، ولفظ الإبل، ولفظ الناقة، ولم يرد ذكر الجمل إلا في هذه الآية الكريمة.

الجمل في الآية يعني مجمل الأشياء. فيكون تعبير (حتى يلج الجمل) تعني حتى يتخلل الإجمالي أو المجمل سم الخياط. لكن أي إجمالي؟ وما هو سم الخياط؟

الإجمالي هو إجمالي ما يقوم به الإنسان، أو مجمل تصرفات هذا الإنسان، خصوصاً أن الآيات بدأت بالحد الأدنى للقبول، داخل حيز الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهو التقوى والإصلاح. مع فهم (سم الخياط) سيزداد الأمر وضوحاً، ونصل إلى المقصود من هذا التعبير العظيم.

ثالثاً: لفظ سَمّ وخياط

أصل كلمة (سمّ) كما في قاموس اللغة هو مدخل في شيء، أو ما يمكن أن يعرف بالثقب أو الثغر أو المسام بتعبير علمي.

لفظ (خياط) أصلها خيط، وتعني الامتداد في الشيء، ولو أردنا أن نكون أكثر دقة فهو الفاصل، أو الحد الدقيق. الخياط عندي ليس الإبرة؛ لأن الإبرة تسمى المخيط، ولكن أجد أن الخياط هو مجموعة خيوط متراصة، لا تمثل ثوباً؛ لأن فيها مساماً وثقوباً. أرى الآية تتحدث عن فرصة دخول هؤلاء المكذبين المستكبرين الجنة، وليست تحدياً لهم. سم الخياط يبدو لي أنه الغشاء المصنوع من خيوط نسجوها من الاستكبار والتكذيب، ولا يرون من خلفه الحقيقة، رغم ما فيه من ثقوب.

فيكون المقصود بالتعبير القرآني: لا يدخلون الجنة حتى تعبر مجمل أعمالهم من هذا الغشاء الذي وضعوه أمامهم، غشاء الاستكبار والتكذيب. هذا الغشاء على ما فيه من ضعف، فهو لا يحجب الحقيقة، إلا أنه بالقوة التي تجعله يحجب كل أعمال الخير الأخرى، فيمنعهم من دخول الجنة.

هذه الآية في رأيي تختص بأولئك الذين يفعلون الخير بقدر معين، ولكنهم يكذبون ويستكبرون عن آيات الله. فالآية تحذرهم من ذلك، وتشير إلى أن مجمل أعمال الخير التي قد يفعلونها ربما لا تقوى على المرور من هذا الغشاء (الخياط) الرقيق المتهالك، الذي جعلوه أمامهم، ولو فطنوا لتخلصوا منه بكل سهولة، من هذا الحاجب الضعيف المتهالك.

الآية التالية ربما تساعدنا في فهم (الخياط)، حيث جاء لفظ (غواش)، وأصلها (غشا) وهي من الغشاء. فكما جعل هؤلاء المكذبون أمامهم غشاء يحجبهم عن الحقيقة، رغم ضعفه وهوانه في الدنيا، فجاء جزاؤهم متوافقاً مع ما فعلوه في الدنيا، فهم يجزون بغواش يوم القيامة. معنى (غواش) أي أشياء لا تحجب الرؤية بشكل كلي؛ بل يستطيعون من خلالها رؤية نعيم أهل الجنة، والتحاور معهم، كما سوف نرى، لتزداد حسرتهم وألمهم.

(لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(41))(سورة الأعراف: آيات 40-41).

 الآيات الكريمة الخاصة بوصف أصحاب النار تحدثت عن صفتين رئيسيتين، هما: الاستكبار والتكذيب، وهما أصل الكفر الذي يمنح صاحبه تذكرة دخول النار بكل اقتدار. بالمقابل سوف نتعرف من خلال الآيات التالية على الصفات الأصيلة التي تميز بها أصحاب الجنة.

ثالثاً: أصحاب الجنة

جاء ذكر أصحاب الجنة في الآيات 42 و 43، ومن أهم مميزات أصحاب الجنة أنهم آمنوا وعملوا الصالحات، وصدقوا الرسل إذ قالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ  وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ  لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ  وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ((43)) (سورة الأعراف: آيات 42-43).

هاتان الآيتان توضحان صفات أهل الجنة، ومن أهم الصفات هو الإيمان والعمل الصالح وتصديق الرسل، والتي تقابل الاستكبار والتكذيب. الإيمان هنا وصف لاطمئنان القلب لعمل ما، فهو وصف عام. الآيات تتحدث في الإطار العام الذي يؤهل الإنسان لدخول الجنة؛ وهو الإيمان.

القلب لا يطمئن إلا لما يوافق منظومة القيم المتعارف عليها، إضافة إلى المعرفة الجديدة المكتسبة، والتي حصل عليها الإنسان نتيجة جهد وبحث. كذلك بينت الآيات أن الإيمان المؤهل للجنة لا بد أن يتكلل بالعمل الصالح قدر المستطاع، كما أرشدت لذلك الآيات (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).

ثم انتقل بنا القرآن ليرينا مشهد الحسرة التي سوف يقع فيه الظالمون، عندما ينادي أصحاب الجنة على أصحاب النار، ثم يسدل الستار عندما يؤذن بينهم مؤذن أنْ لعنة الله على الظالمين.

(وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا  قَالُوا نَعَمْ  فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ((45)) (سورة الأعراف: آيات 44-45).

الآيات توضح أن من أهم صفات هؤلاء الظالمين هو الصد عن سبيل الله، ورغبتهم الشديدة في الاعوجاج. إنه التأثير الماحق للاستكبار والتكذيب، حيث ترى ليَّ عنق الحقائق والتدليس؛ مما يؤدي بالنهاية إلى الصد عن سبيل الله. كما ذكرنا أن الاستكبار والتكذيب من أهم صفات أهل النار؛ لأنه مدعاة لإضلال آخرين، وظلم كبير يقع على الآخرين؛ بسبب تبني منهج الاستكبار، وتكذيب ما لم يحط به الإنسان علماً. المشهد العام ليوم القيامة لم يبق فيه إلا فئة أصحاب الأعراف فمن هم؟

رابعاً: أصحاب الأعراف

بعد أن تحدثت الآيات عن أصحاب النار وأصحاب الجنة، وبينت لماذا استحق كل فريق ما استحقه، جاء الدور على الفئة الثالثة وهي أصحاب الأعراف. من سياق الآيات يتضح أن أصحاب الأعراف لم يعملوا بعمل أهل الجنة، ولا هم كذلك عملوا بعمل أصحاب النار.

أصحاب الأعراف لم يؤمنوا إيماناً كاملاً باتباعهم ما جاءت به الرسل، ولم يعملوا الصالحات وفقاً لما بينه لهم الرسل. أصحاب الجنة مطالبون بأن يكونوا منتبهين للرسائل الإلهية التي تقوّم سلوكهم، وتبين لهم ما غاب عنهم، ولا يكونوا من الغافلين أو المتهاونين. تطرقنا في الفصل السابق لمفهوم الرسول بشكل بسيط، وهنا سوف نلقي مزيداً من الضوء على صفة الرسول. الرسول مفهوم عام، ولا يمكن فهمه إلا من خلال السياق، ولو جاء منفصلاً فإنه يصرف إلى المعنى الأشهر، وهو رسول الله المأمور بالتبليغ المباشر.

مفهوم الرسل قد يكون خارج البشر من الأساس، كما جاء في الآية الكريمة التالية، والتي هي أيضاً في سورة الأعراف.

(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ) (سورة الأعراف: آية 133).

الآية الكريمة تشرح كيف أن الله أرسل هذه الكائنات تحمل رسالة عذاب لهؤلاء القوم، الذين أجرموا واستكبروا وكذبوا بالآيات.

 مفهوم الرسل الخاص بالتأويل وليس بالتنزيل، جاء مفصلاً في سورة الأعراف أيضاً، وعلى الناس اقتناص الرسائل الإلهية لو كانوا يعلمون.

(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) (سورة الأعراف: آية 53).

هذه الآية وضعت النقاط على الحروف؛ إذ إنها أشارت بشكل مباشر إلا استمرارية مفهوم الرسل، فالرسول هو من يحمل رسالة، وهذه الرسالة خاصةٌ بمحاولات تأويل وفهم آيات الله تحديداً.

يبدو جلياً من الآية أن المكذبين كذبوا الاستنباط من آيات الله، دون دليل ولا برهان؛ لذلك عندما يأتي تأويل الآيات وبيان حقيقتها سيدرك هؤلاء المجرمون أنهم كانوا في الطرف الآخر.

الطرف الذي يعاند ويكابر ويعمل ضد بيان آيات الله وفهمها، وأنهم كانوا أبعد ما يكون عن مراد الله.

على الجانب الآخر نجد كذلك أصحاب الأعراف ليسوا من أصحاب النار، إذ إنهم ليسوا مكذبين أو مستكبرين عن آيات الله أو ظالمين، كما بينت الآيات الكريمة.

لو تتبعنا وصف الأعراف الذي جاء به المفسرون، لوجدنا أن وصفهم لم يخرج عن خمس حالات:

الحالة الأولى: مجموعة من الناس لهم مكانة خاصّة، وقد شملتهم عناية الله.

الحالة الثانية: هم الذين تستوي حسناتهم وسيئاتهم، ولأجل ذلك لا يدخلون الجنة ولا النار، بل يمكثون بينهما، ثم تكون عاقبتهم الجنة، مشمولين برحمة الله.

الحالة الثالثة: هم الملائكة المتمثلون بصورة الرجال، يعرفون الجميع.

الحالة الرابعة: فئة من كلّ أُمّة عدول، وهم الذين يشهدون على أُمّتهم.

الحالة الخامسة: مجموعة صالحة من حيث العلم والعمل.

الحالات المذكورة والتي وصفت الأعراف في التفاسير متباينة بشكل كبير، فبينما نجد من وصفهم بالملائكة نجد آخرين وصفوهم بأناس استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على عدم وضوح مفهوم الأعرف بشكل قاطع.

عند محاولة فهم مدلول كلمة (الأعراف) من خلال اللغة، ومن خلال مدلول الكلمة في كتاب الله، سوف يتضح لنا أن الأعراف أو رجال الأعراف هم فئة عظيمة من الناس، في كل العصور وفي كل الأوقات.

أصل كلمة ا(الأعراف) هو عرف، وكما في قاموس اللغة لها أصلان: الأصل الأول: تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والأصل الثاني: سكون وطمأنينة.

من خلال كتاب الله، وبحث أصل كلمة (عرف)، سنجد أن كون الإنسان يعرف تعني أن هناك شيئاً واضحاً، وهذا الإنسان يسكن إلى هذا الشيء، أو يطمئن، فيعرفه. الاطمئنان والسكون جزء أصيل من المعرفة، والخائف لا يعرف، والمضطرب لا يعرف. من هنا يمكننا دمج أصلي كلمة عرف في أصل واحد، وهو الشيء الواضح أو الظاهر، والذي يمكن الركون إليه أو الرجوع إليه.

عرف من المعرفة، وهي التراكم المعلوماتي الواضح، والذي يستطيع الإنسان التعامل معه بكل بساطة. ذكرنا فيما سبق أن الفرق بين المعرفة والعلم فرق كبير؛ فإذا كانت المعرفة هي التراكم المعلوماتي، فإن العلم هو معالجة التراكمات المعلوماتية، واستخراج نتيجة جديدة. لذلك لا يصح إطلاق لفظ (عالم) إلا على أولئك الذين لديهم قدرات خاصة على التحليل والاستنتاج والاستنباط. أما الذين يتعاملون مع التراكمات المعلوماتية ويستخدمونها في حياتهم، فهؤلاء ينطبق عليهم لفظ (يعرفون) ولا ينطبق عليهم لفظ (يعلمون).

المدرس في المدرسة الذي ينقل المعرفة للتلاميذ هو (يعرف)؛ لأنه تعامل مع ما هو موجود بالفعل، ونقله إلى غيره، ورجل الدين الذي ينقل ما في الكتب هو (يعرف)، ولا ينطبق عليه لفظ (يعلم)؛ لأنه في الحقيقة ناقل للمعرفة، وليس منتجاً للمعرفة.

كلمة (الأعراف) هي جمع عرف بضم العين، والعُرف هو ما تعارف عليه الناس، بسبب وضوحه لديهم، وتتابعهم عليه، واطمئنانهم إليه. من هنا يمكننا القول إن الأعراف تعني الأشياء المتعارف عليها في المجتمعات، وهي الأشياء التي تطمئن لها النفوس وتسكن إليها.

ما الفرق بين (يعرف) بوصفه فعلاً وبين (العرف) بوصفه اسماً؟

(يعرف) يعني أن هناك شيئاً واضحاً تستيقن منه نفس الإنسان، وتتعرف عليه، ومن ثم يعرف الإنسان هذا الشيء. أما (العرف) فهو الاطمئنان للشيء المعروف، والتعامل معه. العادات والتقاليد في المجتمعات هي نتيجة مباشرة لتعرف هذه المجتمعات على شيء، ومن ثم استساغته والاطمئنان إليه، فصار عرفاً بالنسبة إليها، وبالنسبة إلى الأجيال المتعاقبة.

هل يكفي أن يكون أصحاب الأعراف هم أصحاب العادات والتقاليد بشكل مطلق؟

بالطبع لرجال الأعراف مواصفات، أولها: أنهم لا يعادون أصحاب الجنة بأي شكل من الأشكال، أو على الأقل محايدون.

(بَيْنَهُمَا حِجَابٌ  وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ  وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ  لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (سورة الأعراف: آية 46).

ثانيها: أنهم ليسوا ظالمين.

(وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (سورة الأعراف: آية 47).

لو وقع هؤلاء في الظلم بأي شكل من الأشكال لخرجوا من فئة الأعراف إلى فئة الظالمين، وبالتالي أصحاب النار.

ثالثها: أنهم لا يستكبرون؛ لأنهم استنكروا استكبار أصحاب النار، كما جاء في الآية التالية:

(وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (سورة الأعراف: آية 48).

الملاحظة الرابعة على أصحاب الأعراف: أن هناك فئة من الناس تظن أنهم ليسوا من أهل الجنة. الآية الكريمة لم تحدد هذه الفئة التي تظن وتقسم أن رجال الأعراف ليسوا من أهل الجنة. يمكننا القول أن هذه الفئة هي الفئة التي تحتكر الهداية، والتي لا ترى أحداً أحق بالله منها، ولا ترى إلا نفسها، والله أعلم بأحوالها.

(أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ  ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ(49)) (سورة الأعراف: آيات 46-49).

ما مدلول ذكر التعبير القرآني رجال الأعراف والذي لم يأتي مع الجنة والنار؟ . لقد جاء ذكر رجال الأعراف ولم يرد ذكر رجال الجنة أو رجال النار.  مدلول لفظ (رجال) لا يشير إلى الجنس، وإنما يشير إلى وقوف هؤلاء على الأعراف، أو ما تمسكوا به، وما تعارفت عليه مجتمعاتهم، دون ظلم أو استكبار أو رفض للحقيقة.

مفهوم الأعراف في كتاب الله يحل إشكالية في غاية التعقيد، عن أهل تلك المجتمعات الذين يتبعون ما تعارفت عليه المجتمعات، دون أذى لأحد أو ظلم. وهم على ذلك لم يتعرفوا إلى الله بالشكل الصحيح مائة بالمائة، إما بسبب نقص المعرفة، أو بسبب حجب تعاليم الإله الصحيحة عنهم، أو لدخول بعض الأساطير التي منعتهم من اتباع الحق.

لو نظرنا في أحوال أصحاب هذه المجتمعات لاحتارت العقول؛ إذ إن كثيراً جداً من هؤلاء محسنون ولا يظلمون أحداً، بل وليس لديهم موقف من الآخرين، ويتعاملون مع الأمر بالأعراف والتقاليد التي تربوا عليها. كذلك يبدو أن النظام المعرفي لهؤلاء لم يستطع الفرز بشكل صحيح؛ لذا بقوا على ما تعارفت عليه مجتمعاتهم، دون تعمد إخفاء الحقيقة أو ضلال مقصود. هذه الفئة أشار القرآن إليها بأنها رجال الأعراف، والتي أشار ربنا إلى أنه يشملهم برحمته؛ بسبب حسن نواياهم، وعدم تعمدهم الإضرار أو الظلم.

تعالوا نطبق الشروط التي ذكرناها في بداية هذا الفصل على وصف الأعراف؛ لنستوضح موقف هذه الفئة بشكل بسيط.

أولاً: التطلع إلى المعرفة باستمرار، بشكل متجرد دون هوى.

ثانيًا: قبول النتائج السليمة، مهما كانت متناقضة مع نظامه الفكري الموروث.

ثالثًا : تطبيق ما فهمه والعمل به قدر استطاعته.

يبدو أن فئة الأعراف لا تتطلع إلى المعرفة؛ وذلك قد يكون بسبب قدراتهم العقلية، أو بسبب ضغط المجتمعات، أو نتيجة مباشرة للسببين معاً. هذه الفئة تقف موقف المحايد من النتائج الجديدة؛ إذ إنها لا تستطيع التفريق بشكل سليم وحازم، فهي لا تكذِّب ولا تصدِّق. تطبق ما تعارفت عليه مجتمعاتها واطمأنت إليه، دون ظلم أو تجاوز، أو تكذيب ما لم تحط به علماً.

لا بد أن نضيف إلى هذه السمات الرئيسة أن هؤلاء -كما ذكرنا- لا يكذبون ولا يظلمون ولا يستكبرون. فئة الأعراف فئة موجودة في كل البيئات، وفي كل الملل، وفي كل الأزمنة. الإنسان الذي يعيش في مجتمع لم يصله فيه معلومات كافية، أو أنه غير قادر على فهم الأمور بشكل سليم، واكتفى من ذلك باتباع ما يتبعه مجتمعه، وكان على حذر من الظلم والاستكبار، هم المعنيون هنا. هناك خيط رفيع بين أصحاب الأعراف وبين الغافلين؛ إذ إن أصحاب الأعراف قدراتهم وظروفهم لم تسمح لهم باستجلاء الحقيقة وتتبعها، بينما الغافلون تهاونوا عمداً أو طلباً للاسترخاء وتجنباً للمجهود.

بالنهاية هذه الفئات ليست للتصنيف السياسي، وإنما هي تصنيف فكري، لا يعلم حقيقته إلا الله. الله وحده هو الذي سوف يحكم مَن هم أصحاب الأعراف، ومن هم الغافلون، ومن هم أصحاب الجنة، ومن هم أصحاب النار، والإنسان مطالب ببذل الجهد قدر استطاعته، وعليه نفسه لا يضره غيره.

يبرز سؤال بسيط هنا: هل بعد قراءتي لهذا الفصل يكفيني أن أكون من أصحاب الأعراف؟  قد يعتقد الإنسان أنه يكفيه ذلك؛ فهو لا يريد التكاليف المرهقة التي كلف الله بها عباده.

بمجرد فهم الإنسان لمفهوم الأعراف وفهم سماتهم، فقد خرج من هذا المفهوم؛ فهو قد أدرك حقيقة هذا الوصف، فيلزمه الاستمرار في البحث؛ ليكون من أصحاب الجنة. بمجرد أن يظن الإنسان أنّ بإمكانه أنْ يكتفي بكونه من أصحاب الأعراف عن قصد وفهم، هو عين الظلم لنفسه. الظلم هنا سوف يخرجه من مفهوم أصحاب الأعراف، ويرشحه بقوة لأن يكون من أصحاب النار.

المسألة ليست أحزاباً يستطيع الإنسان اختيار ما يناسبه، بل هي درجات ومناهج فكرية، والإنسان مطالب بالسعي والوصول إلى أعلى نقطة فيها. من تقاعس أو تخلف، وكانت لديه القدرة، فقد هوى وضل ضلالاً مبيناً.

بعد فهم أصحاب الأعراف  يلزمنا الآن الدخول لفهم من هو (المسلم)، وإلى ماذا يشير التعبير القرآني (المسلم الحنيف)، وكيف نفهم التعارض الذي جاء في كتب التفسير، عندما تعارض مفهوم (المسلم) في القرآن، مع التوصيف التاريخي لهذا اللفظ. 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع- عشر العصر

الفصل السادس- النبي

الفصل الأول - القرآن العظيم